• - الموافق2024/04/25م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
مواجهة المجتمع فيما يخالف الدين

مواجهة المجتمع فيما يخالف الدين

يعود فساد جانب كبير من حياتنا الاجتماعية اليوم إلى فكرة ليست بالجديدة، بل أُعيد بَذْرها من جديد مع الاحتكاك بالثقافة الغربية، ولكن في ثوب علمي؛ فآتت ثمارها على امتداد الزمان والمكان. وقِوام هذه الفكرة: «أنَّ على المجتمع أن يضع أخلاقاً لنفسه، وأن ينطلق من معطيات الحاضر؛ فالمجتمع هو غاية السلوك الأخلاقي، وهو الكائن الأخلاقي الأعظم، والسلطة الأخلاقية تصدر من المجتمع، والخير الأسمى لسائر الناس هو المجتمع؛ فالمجتمع هو غاية الغايات، وهو المشرِّع الوحيد للقيم الذي يخلقها، وهو الذي يحافظ عليها، وهو الحارس الأمين لخير وفضائل الناس». الهدف الأساس لهذه الفكرة، هو: إحلال «المجتمع» محل «الله». وبمعنى واضح وصريح: التأكيد على أن: «الله هو المجتمع»، وأن: «الله والمجتمع شيء واحد». ولكن: أين مكان الدين والحقائق الدينية مع هذه الفكرة؟ يقول عالم الاجتماع اليهودي الشهير «إيميل دوركايم» في ذلك: «المجتمع هو الكائن المطلق، والله نفسه يتجلى في روح الجماعة؛ لأنه قوة متسامية، وقيمة متعالية تُحقِّق غايات إنسانية ومُثُلاً جمعية. أما حقائق الدين فسوف تصدر من المجتمع، على اعتبار أنها مسائل اجتماعية؛ فالمجتمع هو الذي يفرز الدين وليس هناك من كائن له سـموٌّ، أو خـلود، أو قداسة؛ فكل ذلك ورد إلينا من العالَم الاجتماعي». ويحلل «دوركايم» فكرته هذه، فيقول: «ما دمنا قد حرَّمنا على أنفسنا الاستعانة بالأفكار الدينية، فلن نجد كائناً معنوياً يسمو على الأفراد ويمكن ملاحظته تجريبياً؛ سوى ذلك الذي يكوِّن الأفراد عند اجتماعهم، وأعني به: «المجتمع». إن الكائن الذي تُوجِّه الأخلاقُ إرادتنا نحوه، ونجعل منه هدفاً أسمى لسلوكياتنا لن يتعدى واحداً من اثنين: إما الكائن الإلهي أو الكائن الاجتماعي. أما الفَرْض الأول، فنستبعده على أساس أنه بعيد عن متناول العلم. ولن يبقى لنا إلا الكائن الثاني، وهو: الكائن الاجتماعي؛ فهو الذي يفي بكل احتياجاتنا ويحقق لنا كل أمانينا؛ فما من شيء يصلح هدفاً للنشاط الأخلاقي سوى المجتمع، إنه النموذج، وهو المصدر لكل سلطة أخلاقية». إن «تأليه المجتمع وإحلالَه محل الله»، هو الغاية التي يسعى إليها هذا العالم اليهودي، الذي هام مثقفونا به وأعطوه من القداسة والتأليه ما لم يعطوه لغيره، وكُتِبَت فيه العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه، وما زالت أفكاره وآراؤه تدرَّس في مدارسنا وجامعاتنا (بما فيها الإسلامية) حتى يومنا هذا. لقد أثمرت هذه الفكرة بالفعل؛ فأصبح الناس يخشون ويهابون ويرجون المجتمع أكثر من رجائهم وخوفهم وخشيتهم من الله، تعالى. لنأخذ مظهراً واحداً من مظاهر حياتنا الاجتماعية، لنرى كيف أن «المجتمع» قد أصبح الحاكم المطلق في توجيه مسار سلوكياتنا وليس الدين. الزواج مثلاً، بغضِّ النظر عن مظاهره الشكلية، مثل: عقد الأنكحة في المساجد، والقيام ببعض المراسم التي توهم بأنها ذات طابع ديني: كافتتاح حفلات العرس بإنشاد آيات الله الحسنى مع استخدام المعازف أو بدونها، هذا الزواج تحكمه عادات المجتمع وتقاليده التي تخالف في معظمها أحكام الشرع؛ فمن ذلك: - اختيار العريس لعروسه أو العكس، لا تحكمه قواعد الدين؛ إنما تحكمه قواعد المجتمع. - تساهل الناس في الخطبة على خطبة الآخرين، أصبح أمراً عادياً يقرُّه المجتمع وَفْق مبدأ المصلحة والمنفعة، ولكن الدين لا يقرُّه. - الاعتقاد بضرورة الحب قبل الزواج، أمر شائع بين الناس وتؤيده الأسرة. وذلك في الوقت الذي قيد فيه الدين العلاقة بين الجنسين قبل الزواج. - تتساهل الأسرة كثيراً في مجريات العلاقة بين الخطيب وخطيبته؛ حتى ولو وصلت إلى حد أبعد من النظر المسموح به: كاللمس والتقبيل. - الاختلاط بين الأهل والأقارب والأصدقاء (رجالاً ونساءً)، أصبح أمراً ليس بالمستهجن بين الناس؛ رغم أن الدين وضع له ضوابط دقيقة وحذَّر منه، وبصفة خاصة بين الأقارب، كما جاء في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «الحَمُوُ الموت»[1]. - حفلات العرس المختلطة واستخدام المعازف وآلات الموسيقى وخروج العروس على الحاضرين في قمة زينتها وثوب زفافها الملتصق بجسدها، أصبح من لوازم الحياة الاجتماعية اليوم؛ رغم أن الدين لا يقر ذلك. وهناك العديد من الأمثلة الأخرى التي لا حصر لها تبيِّن أن اليد الطولى في الحياة الاجتماعية هي للمجتمع وليس للدين. هذا هو الحال في مظهر واحد من مظاهر الحياة الاجتماعية، ناهيك عن مختلف المظاهر الأخرى التي تحكم العلاقات الاجتماعية في مختلف المجالات. السؤال الوارد هنا: كيف يمكن مواجهة المجتمع في الأمور التي فيها مخالفة للدين؟ وضع الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ في كتابه: (الفوائد) قاعدة جليلة في هذا الشأن. خلاصتها: «لا تستصعب مخالفة الناس والتحيز إلى الله ورسوله، ولو كنت وحدك؛ فإن الله معك، وأنت بعينه وحفظه لك. وهو - تعالى - يمتحن يقينك وصبرك». وتفاصيل هذه القاعدة كما تصورناها على النحو التالي: 1 - إذا كان الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - في جانب، فاحذر أن تكون أنت في الجانب الآخر؛ فإن ذلك يُفْضِي إلى (المشاقَّة)، وهي: أن يكون الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - في شِقٍ وتختار أنت الشق الآخر. كما يُفْضِي ذلك أيضاً إلى (المحادَّة) وهي: أن يكون الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - في حَدٍ، وتختار أنت الحد الآخر. 2 - عليك ألا تستسهل المشاقة والمحادَّة في ذات الله، تعالى؛ فإن البدء فيها يجر إلى المزيد منها حتى يستفحل الأمر؛ فالقليل من الأمر يدعو إلى الكثير منه. 3 - لِتعلَم أنك إذا اخترت الجانب الذي فيه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنك ستكون اخترت ما ينفعك في الدنيا والآخرة. 4 - لا يهمك رؤية الناس لمن اختار ما يخالف جانبهم من أنه ناقص العقل، سيئ الاختيار لنفسه، أو حتى اتهامهم له بالجنون، وليكن عزاؤك في ذلك: أن هذا هو ميراث أعداء الرسل، وأنهم - صلوات الله وسلامه عليهم - اتُّهِموا بالسحر والكهانة والجنون. 5 - إذا وطَّنت نفسك على اختيار جانب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، فعليك أن تُسلِّح نفسك بالعلم الراسخ الذي جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأن تعتبره يقيناً لا ريب فيه، وعليك أيضاً أن تتسلح بالصبر التام على من لامك وعاداك في ذلك. 6 - عليك أن تعلم أن اختيارك لجانب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - صعب في بدايته، وأن تتوقع الصد والحرب من نفسك، وهواك، وطبعك، وشيطانك، وأهلك، وإخوانك، ومَنْ يعاشرونك؛ فإذا صبرت عليهم جميعاً جاءك العون من الله، وصار الصعب سهلاً، وتحوَّل من مشقة إلى لذة. 7 - لا يستطيع الإقدام على هذا الأمر إلا من كانت لديه رغبة قوية في الله والدار الآخرة؛ بحيث تكون الآخرة أحب إليه من الدنيا، ويكون الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - أحب إليه من سواهما. 8 - لِتعلَم أن الله «رب شكور» وأنه لا بد من أن يذيقك لذة تحيُّزك إلى جانبه وجانب رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ فيريك ـ تعالى ـ كرامة ذلك؛ فيشتد فرحك وسرورك وغبطتك، ويبتهج قلبك؛ فتفرح بتعويض الله لك ما تحملته من أَجْله. وسيقوي الله - تعالى - جندك، ويُضعِف عدوك، وسترى تحولاً في موقف من كان محارباً لك؛ فتراه يهابك، أو يسالمك، أو يساعدك، وعلى أقل الأحوال سيتركك وشأنك. 9 - يلزمك في الثبات على هذا الأمر أن تتحرر من الطمع والفزع؛ فإذا اشتد هاجسهما، فلا تحدِّث نفسك بهما، وليكن سلاحك في مواجهة هذين العدوَّين (الطمع، والفزع): التوحيد، والتوكــل، والثقـة باللـه، والإيمـان بأنه لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يُذهِب السيئات إلا هو. وأن الأمر كله بيده، وليس لأحد معه شيء[2]. -------------------------------------------------------------------------------- (*) دكتوراه في علم الاجتماع العسكري، أستاذ مشارك سـابق بجــامعات: القـاهرة، وأم درمان الإسلامية، والأزهر، والملك عبد العزيز. [1] رواه مسلم. [2] انظر كتابنا: «علماء الإجتماع وموقفهم من الإسلام»، المنتدى الإسلامى، لندن، 1993م.

أعلى