فتح علي خان تيبو السلطان المظلوم المفترى عليه

فتح علي خان تيبو السلطان المظلوم المفترى عليه


«أن تعيش نمراً في يوم واحد خيرٌ لك من أن تعيش فأراً تفر لألف سنة»

ربما لم يعرف كثير منا مِن أُمتَي العرب والإسلام عن مخترع المدافع الصاروخية الذي عاش في القرن الثامنَ عشرَ الميلادي، وأصبح سلطاناً باسطاً نفوذَه في جنوب الهند ليكون بَعدُ مشهوراً بـ (أسد ميسور) لِـمَا كان يمتلك من شجاعةٍ قويةٍ وعزمٍ صارمٍ أيام الاحتلال البريطاني في الهنـد. وعلى الرغم مما قدم من خدمات كبيرة في اجتثاث جذور الاستعمار وفي إيقـاف مدِّه في المناطق الجنوبية الهندية؛ فقد تعرضت شخصيته منذ سنوات لهجمات إعلامية شرسة من قِبَل منابر الأذرعة الهندوسية المتطرفة، وكان الهدف الرئيسي من هذه الحملات الإعلامية هو تشويه صورته ورسمها بصبغة الكراهية والعنف، فجاء الهجوم مكتملَ الأركان إلا أن القارئ الواعيَ المتأنيَ في تاريخ الهند يدرك في الوهلة الأولى أن أشرس عدو بالنسبة لبريطانية منذ قدومها إلى الهند كانت السلطنات الإسلامية التي امتدت في سواحل مليبار وغجرات وممباي وحيدر آباد وبنغال، وكان لها القسط الأكبر في تاريخ الكفاح والنضال ضد المستعمرين بدءاً من هولندا ومروراً بالبرتغاليين وانتهاء بالفرنجة والإنجليزيين؛ إذ تحمَّل المسلمون كل الخسائر البشرية ودفعوا من أجل التحرير ثمناً باهظاً دماً وأرواحاً.

ويأتي السلطان تيبو في طليعة هؤلاء المناضلين المناهضين للمصالح الاستعمارية، ولا يخفى على من يطالع المشهد السياسي الهندي المعتكر أن الدافع الأبرز وراء استنفار كلٍّ من هؤلاء المرتزقين الإعلاميين المتشبثين بأذيال السلطة؛ هـو سيرة السلطان ذي التوجه الإسلامي الصافي التي هددت حلم آر أس أس[1] التي لا تمتلك في حوزتها رمزاً مثالياً يحكى في المجالس؛ بل خسرت المعركةَ مؤخراً في تغيير البوصلة في صالحها في قضية (تيبو جاينتي) بعد أن أصدرت حكومة كرنادكا (الولاية التي تضم منطقـة ميسور) قراراً يعلن يوم ميلاد السلطان تيبو يوماً رسمياً تقديراً لما بذل من خدمة كبيرة في النضال الوطني، وهو ما أثار جدلاً كبيراً في أوساط آر أس أس وما والاها من المنظمات الهندوسية متعصبة الفكر، وخرج ضد هذا القرار مئات من المتظاهرين من أتباع آر أس أس يصرخون بشعارات عنصرية.

السيرة والصورة:

ولد السلطان تيبو عام 1750م في ديوانا هللي بمقاطعة كولار قريباً من بنجلور في ولاية كرنادكا الهندية، وكان أبوه آنذالك حاكماً في ميسور، وسموه (تيبو) تيمناً بتيبو مستان الشيخ القدير بين القرويين، فنشأ تيبو في بيت يحفه الإباء والوعي والكرامة ليشكل فيه ذلك الجو المكتمل قائداً نحريراً يتحدى المشاكل والمصاعب، فتدرب على اصطياد الحيوانات والطيـور الجارحة، وتمهر في فنون السلاح والفروسية، وتلقَّى مبادئ العلوم الدينية من الأم فاطمة خير النساء التي كانت هي اليد القوية وراء صناعة قائد بطـل، وإلى جانب ذلك كان يحسن اللغة العربية ولغة كنادا والفرنسية والفارسية أيضاً، ووقف بجنب والده حتى اشترك في معركة مليبار التي قادها والده القائد العسكري حيدر علي الحاكم آنذاك.

الغزوات والفتوحات:

وفي بداية القرن الثامنَ عشرَ كانت اليـد الطولى في شبه القارة الهندية لدى شركة الهند الشرقية العملاقة التي بسطت نفوذها التجاري في عموم الهند مستغلة الضعف المغولي الذي أوشك على الانهيار، وتعرض لعدة صراعات داخلية؛ إلا أن سلطنة خداداد الحاكمة في عدة أقاليم كرنادكا وقفت بمنأى عن هذا الأخطبوط الطماح، ولم تستسلم لمطالبه بل أنكـرت ورفضت بكل شدة؛ وهو ما جعل الشركة تثور وتتآمر وتتذامر ضد السلطنة، فكانت هذه الفترة فترة حاسمة تستحق أن تكتبَ بأحرف من نور؛ إذ شهد جنوب الهند عدة تغيرات تاريخية عبر تدخل حيدر علي في مناطق مليبار وبسط نفوذه على كلٍّ من فالكاد وكالكوت، وفي ضوء ذلك لا بد أن نفهم أن كل هذه الحملات العسكرية حدثت في زمن كان يتـرنح تحت نير المعتقدات العنصرية والأفكار التي تتبنى العرقية والطائفية، وكانت الملـوك آنذاك ترحب بهذا النظام المجتمعي الجائر، فعملت ليل نهار في قمع المتمردين والتنكيـل بهم، فجاءت الحملات الحيدرية لتوقف هذا العدوان والظلم ولحماية الحقوق البشرية رغم ما قامت به الطبقات البراهمية من احتجاجات عاتية ضد تدخل حيدر علي في شؤون مليبار، وفي عام 1766م قدم السلطان تيبو مع والده إلى مليبار وهزموا مملكة صغيرة (بتاليشري) في إقليم كانور شمال كيرالا، فكانت هذه بداية جميلة لحملات ستأتي بتغيرات جذرية في كيرالا، وفي السنوات التالية قام والده حيدر علي بعدة حملات عسكرية ما بين كرٍّ وفرٍّ في أقاليم كالكوت وترفتاكور وكوشن وكنور ليشتهر اسمه فيما بعد في كيرالا جميعاً.

وتولى تيبو سلطنة ميسور بعد أن توفي والده عام 1782م مخلفاً وراءه مملكة صغيرة لكن كبيرة التحدي والتمرد على شركة الهند الشرقية، وتقلد تيبو مقاليد الحكم ليكون هذا الشبل من ذلك الأسد وليحقق المثل القائل: «إن الطيور على أشكالها تقع»؛ حيث قام بعدة تحركات إستراتيجية لتوسعة رقعة السلطنة، وذلك بطرق عدة ووسائل مختلفة لدرجة أنه أقام تحالفاً دبلوماسياً مع القائد الفرنسي نابليون بونابارت لتتشكل هناك جبهـة قوية لمناهضة المد البريطاني على متن الهند ولتذيقهم هوان الهزيمة والنكسة؛ فمما يشير إلى مدى بصيرته وعمق إستراتيجيته أنه استعمل الصواريخ المدفعية ضد إنجلترا في عدة حروب، ومما يدهش الكثيرين ما حكاه رئيس الهند الأسبق عبد الكلام  الملقب بـ (الرجل الصاروخي) للهند، أنه رأى رسماً لسلطان هندي يطلق صاروخاً مدفعياً في مكتب ناسا ليتعرف عليه فيما بعد أنه كان للسلطان تيبو أسد ميسور ويصفه بأنه أبو الاختراعات الصاروخية الهندية، ومما يزيد لهذه المقولة أهمية ومكانة ما لوحظ في أوساط آر أس أس من هجمات جماعية ضد تيبو ومن عدوانيتهم التي تنشأ من البغض والحق والسخامة لكل شيء له أدنى تعلق بالإسلام والمسلمين

تيبو بين المادحين والناقدين:

في الوقت الذي تُشَن  فيه غارات شرسة ضد تيبو من قبل المنظمات الهندوكية المتطرفة تأتي الشواهد التاريخية لتؤكد على نصاعة شخصية سلطان إنساني أحب الشعب فأحبه الجميع بغضِّ النظر عن الهندوس والمسلمين حتى سلم مقاليد المناصب العالية الحكومية في سلطنته لرجال من الهندوس، وقام بحماية هياكل هندوسية كهيكل شنرغيري ترميماً وتعميراً ولم تعقه العقبات الدينية كما يزعم بعض الناس في دعم شعبه وفي فتح أبواب الحوار بين الأديان حتى وظَّف في كل محافظة قاضياً يهتم بشؤون المسلمين وآخر هندوسياً ليقوم بأمور الهندوس، وكان صاحب خزينته كرشناراو، ووزير بريده شامايا أينغر.

ولم يقف التدين الذي اتسم به السلطان تيبو مانعاً دون نشر أجنحة العدالة والتنمية بين الأديان، بل أضحت سياسته الإدراية تحقق كل القيم بين رعيته.

«لقد بذل كتَّاب بريطانيا جميعُهم كلَّ الجهد في رسم السلطان تيبو بصبغة التعصب والعنصرية إلا أن التاريخ صنع حجاباً قويّاً دون هذه التزويرات الصارخة». هكذا انتهى كلام المؤرخ الهندي عرفان حبيب معلقاً على تلك الجهود التي ركزت على وضع السلطان في قفص الاتهام.

ويتضح في المرسوم الملكي الذي أصدره السلطان رؤيته عن الحرب إذ يقول: «لا بد أن تكون الحرب في الميدان فحسب حتى لا تتخطى تبعاتها على الفقراء والأبرياء»، فلا يصح البتة تصوير سلطان سعى إلى جمع شتات شعب على أنه طائفي مصاص الدماء، ونتعجب من كمية الجهود المتكاتفة التي بذلت لهذا المشروع المشؤوم، ولم تزل أصداؤها تتردد حتى الآن في الأوساط الأكاديمية التي كان من الواجب عليها أن تقوم في صف المدافعين عن شخصية جعلت الهند شامخة أمام جيش لا يقهر في تلك الفترة.

واستشهد البطل السلطان أسد ميسور عام 1798م في حرب حصن سيرينجاباتام الرابعة بطريق الخيانة؛ إذ خانه حاجبه (مير صادق) و (بورناي) ليسقط شهيداً بعد أن أصبح كابوساً رهيباً لثلاثة عقود وأكثر فوق مطامح شركة الهند الشرقية خصوصاً وإمبراطورية بريطانيا عموماً.

وعندما نلخص سيرة هذا البطل نعثر على حقائق لا بد منها لكـل مؤرخ يتطلع إلى سيرته التي انكسف ضوؤها وراء ضبابية مكثفة تم رشها من قبل مؤسسات آر أس أس وما ولاها، وهي أن السلطان لم يك عميلاً قط للفرنجة؛ إلا أنه تعاون معهم تعاونَ الدبلوماسي المحنك ليبني من خلاله سدّاً منيعاً في وجه الأطماع الاحتلالية، وأنه لم يك طائفياً كما تزعم الأبواق الهندوكية ولم يأمر بهدم الهياكل لغرض ديني بل لغرض اقتصادي؛ إذ أضحت الهياكل في زمنه خزائن ضخمة للأموال والثروات وبالمقابل قام السلطان بترميم عدة هياكل هندوسية.

رحل البطل بعد أن ترك رصيداً ثرياً من المحطات البطولية، وبقيت قولته الشهيرة حتى الآن ترن في آذان الأبطال: «أن تعيش نمراً في يوم واحد أفضل لك من أن تكون فأراً تفرُّ لألف سنة».


 


[1] منظمة قومية هندوسية.


أعلى