براعة الاستهلال في  القرآن الكريم

براعة الاستهلال في القرآن الكريم


القرآن الكريم معجز بلفظه ومعانيه، وألوان إعجازه متعددة ومتجددة، ومن خصائص القرآن ومن دلائل إعجازه روعة الافتتاح أو ما يسمى ببراعة الاستهلال؛ وهو من أرقِّ فنون البلاغة وأرشقها، وحدُّه أن يبتدىء المتكلم كلامه بما يشير إلى الغرض المقصود بتصريح أو بإشارة لطيفة، وإيماءة بعيدة أو قريبة. وتتجلى روعة الافتتاح أو براعة الاستهلال في ترتيبه النزولي، وفي ترتيبه المصحفي، وفي فواتح السور، وفي اشتمال افتتاحية السورة على موضوعها ومقصدها.

أما الترتيب النزولي فكانت براعة الاستهلال في البدء بكلمة «اقْرَأْ»: وهي عنوان القرآن، {بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: ١]: توحيد ربوبية الذي لم ينكره مشركو مكة؛ وكان ذلك من باب «مراعاة أحوال المخاطَبين»؛ فخاطبهم بما يقرون به وهو الرب الخالق؛ لأنهم كفروا بالرب الإله المعبود.

أما ترتيب المصحف فكانت براعة الاستهلال وروعة الافتتاح في البدء بسورة الفاتحة؛ والفاتحة من الفتح وهو النصر، والاستفتاح طلب النصر، قال تعالى: {إن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} [الأنفال: 19]، والفتح: الحكم والقضاء؛ ومنه دعاء شعيب عليه السلام: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْـحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف: 89]، والفاتحة مجمل القرآن والقرآن كله تفصيل وتفسير لها، وقد بُدئت بالحمد العام: {الْـحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: ٢] ثناء وتوحيد، ثم تليها سورة البقرة بجلالها وعظمتها وقدْرها وشمولها وهي الزهرة الزاهرة، وسنام القرآن، والتي استهلت بذكر «الكتاب»، وفي اختيار «الكتاب» بدل «القرآن» إشارة إلى معاني الجمع والحكم والقضاء وما سيفرض من تكاليف؛ والكتاب هو الصراط المستقيم وهداية الله للناس أجمعين.

ومن براعة الاستهلال:

بدء بعض السور بالحروف المتقطعة؛ وقد تحيَّر في فهمها البلغاء والفصحاء وعدها المفسرون - بعد جهد في تفسيرها - أنها من المشتبهات، ولا شك أنها مما لم يعتده العرب في شعرهم ولا كلامهم؛ فجـذبت انتباههم، وأثارت اهتمامهم؛ فهذا القرآن نزل باللغة التي تتحدثون بها معاشر العرب ولم تستطيعوا أن تأتوا بمثله ولن تستطيعوا، ولعل ما يثير الانتباه أن الحروف المقطعة في أوائل السور غالباً ما يعقبها مباشرة ذكر القرآن وبعض أوصافه، وهي كلها أوصاف جلال وعظمة وعزة ومجد وتنزيه مع ذكر موضوع السورة أو مقصدها إجمالاً أو الإشارة إليه؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر: سورة البقرة: جاء قوله تعالى عقب (آلــم): {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: ٢]، وسورة آل عمران: {اللَّهُ لا إلَهَ إلَّا هُوَ الْـحَيُّ الْقَيُّومُ 2  نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْـحَقِّ مُصَدِّقًا لِّـمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإنجِيلَ} [آل عمران: ٢، ٣]، وسورة الأعراف بعد (آلــمص): {كِتَابٌ أُنزِلَ إلَيْكَ فَلا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: ٢]، وسورة يونس:{آلـر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْـحَكِيمِ} [يونس: ١]، وسورة هود:{آلـر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: ١].

ومن براعة الاستهلال أن مفتاح السورة في مستهلها، واشتماله على موضوع السورة أو مقصدها، وأضرب لذلك أمثلة:

سورة البقرة: البدء بالحروف المتقطعة ما يعني التحدي، وذكر (الكتاب) إشارة إلى الفرائض والأحكام التي سيأتي بيانها. وقوله تعالى: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} هو مفتاح السورة وموضوعها؛ فالهدى هو: {ذَلِكَ الْكِتَابُ}، وهو الطريق المستقيم، والهداية هي موضوع السورة بل هي موضوع القرآن كله. أما التقوى فقد تحدثت السورة من أولها إلى آخرها عن التقوى والمتقين في اثنين وثلاثين موضعـاً؛ وكان خطـاب التقوى موجهاً لليهود، وإلى المسلمين، كما جاء ذكر التقوى مرتبطاً بالأحكام في أنحاء السورة. أما المتقون الذين أنعم الله عليهم بالإيمان؛ فكان لسان حالهم ومقالهم: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإلَيْكَ الْـمَصِيرُ} [البقرة: 285]، كما تجلت تقواهم في ظاهرة (يسألونك) المنتشرة في أرجاء السورة. والمتقون هم المؤمنون بالغيب الموقنون بالآخرة كما جاء في صدر السورة ومقدمتها.

سورة آل عمران: جادلت النصارى وقررت ألوهية الله تعالى ووحدانيته وتفرده بالخلق والتصوير في الأرحام، قال تعالى: {آلـم» 1 اللَّهُ لا إلَهَ إلَّا هُوَ الْـحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران: ١، ٢]، ثم قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إلَهَ إلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْـحَكِيمُ} [آل عمران: ٦]؛ فالله الحي القيوم الذي نزَّل الكتاب بالحق هو الذي يصور الناس في الأرحام كيف يشاء. وإذا كان خَلْق عيسى من غير أب شبهة؛ فقد جاء ذكر المحكمات والمتشابهات، وقد ناسب ذلك أن خلق آدم محكم لا شبهة فيه وأن خلق عيسى مشتبه فيه، فما علينا إلا أن نردَّ المحكم إلى المتشابه، وقد جاء في السورة: {إنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [آل عمران: 59].

سورة النساء: فمفتاح السورة وموضوعها جاء في مطلعها؛ وهو تقوى الله والأرحام في نداء للناس كافة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: ١]، ثم جاء تفصيل أحكام العلاقات بين أقرباء الرحم وما يتصل بذلك من نكاح وما حلَّ وما حرُم وأحكام التوارث والعلاقات المنفكة وغير المنفكة، والإنفاق وحقوق اليتامى من ذوي الأرحام وغيرهم، ثم تناولت شؤون المجتمع والحكام والرعية.

سورة المائدة: افتتحت بآية جامعة لخمسة أحكام وهي مفتاح السورة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة: ١]، قال القرطبي: «وهذه الآية مما تلوح فصاحتها وكثرة معانيها على قلة ألفاظها لكل ذي بصيرة بالكلام، فإنها تضمنت خمسة أحكام: الأول: الأمر بالوفاء بالعقود، الثاني: تحليل بهيمة الأنعام، الثالث: استثناء ما يلي بعد ذلك، الرابع: استثناء حال الإحرام فيما يصاد، الخامس: ما تقتضيه الآية من إباحة الصيد لمن ليس بمُحرِم».

سورة الأنعام: مدرسة في التوحيد وجامعة للعقيدة: {الْـحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: ١]، أول استهلال بالحمد بعد الفاتحة مع ذكر بعض دلائل الربوبية، وبيان مَن عدلوا عن توحيد الله وعدلوا به غيره، ثم جاء تفصيل ذلك في أنحاء السورة من خلال بيان مقتضيات التوحيد، وهي:

أولاً: الموالاة؛ وهي التناصر والحب والولاء فلا تكون إلا لله: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْـمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 14].

 ثانياً: البراءة من الشرك والمشركين: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لَّا أَشْهَدُ قُلْ إنَّمَا هُوَ إلَهٌ وَاحِدٌ وَإنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 19].

ثالثاً: التحاكم: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْـحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْـمُمْتَرِينَ} [الأنعام: ١١٤].

رابعاً: النسك ومنها الذبح: {قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ 162 لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْـمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162 - 163]، وقوله: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: ١٢١]، فقد جاءت مقتضيات التوحيد في مستهلها إجمالاً، وفي أثنائها تفصيلاً.

سورة الأعراف: {آلـمـص1  كِتَابٌ أُنزِلَ إلَيْكَ فَلا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ 2اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: ١ - ٣]؛ فروعة الافتتاح في:

أولاً: البدء بأربعة حروف هجائية.

ثانياً: ذكر الكتاب بعد تلك الحروف وقد سبق بيانه.

ثالثاً: بيان صنفي المدعوين؛ وهما أمة الدعوة وهم غير المسلمين؛ وتكون دعوتهم بالإنذار {لِتُنذِرَ بِهِ}؛ أي الدعوة لأصل الدين وهو التوحيد.

وأمة الإجابة؛ وهم المسلمون والمؤمنون؛ وتكون بالتذكير {وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}، وفي أنحاء السورة بيان لحال الفريقين؛ فريق أولياء الله الذين اتبعوا ما أنزله الله، وفريق اتبعوا أولياء شتى كالشيطان والملأ والهوى، وهي (موانع الهدى) وهي القضايا التي ناقشتها السورة. وقد جاء التحذير في مطلع السورة من اتباع تلك الأمور الثلاثة.

تلك بعض نماذج من براعة الاستهلال، وكما اتسم القرآن ببراعة الاستهلال؛ فقد اتسم أيضاً ببراعة الختام؛ فكما استهل بالفاتحة وهي توحيد ورقية ثابتة؛ فقد ختم بتوحيد ورقية ثابتة وهي الإخلاص والمعوذتان. والله الموفق لفهم كتابه.

 

 

أعلى