تأثُّر فقراء مصر بالمجاعات والأوبئة

تأثُّر فقراء مصر بالمجاعات والأوبئة


أفاضت كتابات المؤرخين والمعاصرين بالحديث عن مـدى تأثُّر الفقراء بتلك الكوارث التي أزاحت الستار عن جزء من خلل المنظومة العامة للسلطة الحاكمة بعجزها عن تفادي تأثير تلك الأزمات عليهم. وما يجب أن يشار إليه من خلال ذلك: هي حالة الفقراء أثناء هذه الأزمات ثم نتائج تلك الكوارث وآثارها الاجتماعية. لذلك يستوجب عرض أهم تلك المجاعات والأوبئة وأشكالها بصورة توضح مدى تأثُّر الفقراء بتلك الأزمات من خلال ما أفاضت به المصادر ومشاهدات الرحالة.

لقد كان الناس دائماً إذا توقف النيل في أيام زيادته، أو زاد قليلاً يقلقون، ويحدِّثون أنفسهم بعدم طلوع النيل كما حدث في صفر عام (592هـ/ يناير1195م)؛ فكثر الأموات بالطرقات، وعظم هلاك الأغنياء، والفقراء لدرجة البحث في المزابل عن قشور الترمس[1]. وتعتبر من أهم المجاعات التي وقعت بالدولة خلال القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي، هي التي ألـمَّت بمصر فيمـا بين عامي (595 - 598هـ/ 1195 - 1198م)، ورغم أن مؤرخنا المقريزي كتب لنا عمـا حل بمصر بتلك المجاعة[2]؛ إلا أن الرحـالة البغـدادي قـدَّم لنا وصفاً تفصيلياً بحكم أنه كان شاهداً لها، فقال: «اشتد بالفقراء الجوع حتى أكلوا الميتات» وقد عدد في مواضع كثيرة قصصاً من هذا النمط[3].

واستمر الوضع كذلك في عام (597هـ/ 1200م)، وصار الناس يأكلـون الحيـوانات الضالة؛ بل هرب الناس إلى المغرب[4]. وفي تلك الأثناء، كان كثيراً من الأغنياء يخرجون ليلاً ويأخذون أخشاب الدور الخالية، ويبيعونها نهاراً[5]. وفي عام (598هـ/ 1201م) لشدة المجاعة تناقص موت الفقراء لقلتهم، وقَلَّ خطف الأطعمة من الأسواق لفناء الصعاليك، وتفتقر الدار بمالكها، ولا تجد من يشتريها، وصارت الطرق مزروعة بالموتى[6]. وفي عام (662هـ/ 1263م)، وصل الأمر بالناس أن أكلوا ورق اللفت، والكرنب بسبب قصور نهر النيل[7].

وبصرف النظر عن بعض المبالغات في أقوال المؤرخين والرحالة، فإن وصفهـم لأشكال المجاعات وما يؤول إليه الناس يشير إلى أن الدولة لم تكن على استعداد بشكل أو بآخر لمواجهة أيٍّ من تلك المجاعات، والأوبئة، ومن ثَمَّ ارتفاع الأسعار؛ لذا فقد كان الذعر يسود البلاد أثناء انخفاض مياه النيل، أو تأخُّر فيضانه؛ بما يوحي بسيطرة نهر النيل على المجتمع بجميع فئاته، بينما كان الأقدر هو استشعار الدولة وسلطتها لما تسببه تلك المجاعات من ضرر، وتلافي آثارها بمزيد من الوعي والحذر.

وعموماً كان لتلك المجاعات والأوبئة آثار كبيرة؛ فقد أدت كثرة عدد الموتى إلى تدهورٍ مطَّردٍ في عدد السكان؛ الأمر الذي أدى إلى تناقص موت الفقراء لقلتهم بمجاعة عام (598هـ/ 1201م)، وقد بلغ عدد مَن كُفِّن بتلك المجاعة منذ شوال عام (596هـ - 598هـ/ يوليو 1199 - 1201م) أكثر من مئة ألف[8]، وفي عام (694هـ/ 1294م) سقط آلاف الموتى يومياً، وقيل إنه في شهر ذي القعدة كان يموت في اليوم أكثر من ألف نفس، في حين عندما قصر النيل في عام (695هـ/1295م) قيل مات في هذه السنة من الناس نحو الثلث بسبب الطاعون[9]، وقيل يخرج من كل باب من أبواب القاهرة ما يزيد عن 700 ميت، ووصل الحال لدرجة «عجز الناس عن مواراة الأموات في القبور لكثرتهم»[10].

وقد كان من الطبيعي أن يتخلخل بنيان المجتمع في أعقاب هذه المجاعات والأوبئة؛ فقد كانت أعداد الذين لا يملكـون تتزايد عقب كلٍّ من هذه الأزمات؛ إذ يضطر الناس إلى بيع ما يملكون لشراء ما يقتاتون به، ومن ثَمَّ يدخلون في عداد المعدمين، ومع توالي الأزمات تكثر أعداد أولئك المعدمين، وتزداد أعداد الفقراء ويتحول كثير من الطبقة الوسطى إلى الدخول في دائرة الفقر، وتقل دائرة الأثرياء الذين تقل درجة ثرائهم. ومن الآثار الخطيرة على البناء الاجتماعي ما ذكرته المصادر من أن بعض الناس يضطرون لبيع أبنائهم أثناء هذه الأزمات[11]، وذلك ما أكده الرحالة البغدادي أثناء مشاهدته لمجاعة عام (596 - 598هـ/1296- 1298م) بقوله: «أما بيع الأحرار فشاع، وذاع»، وأشار إلى اتخاذ ذلك طريقاً للكسب من أجل البحث عمَّا يسد جوعهم[12]؛ وهذا يعني ربما زيادة عدد الرقيق، ومع ذلك لم يشكل هذا ظاهرة عامة على المجتمع كله؛ ولكنه مؤشر على مدى التدهور الذي عانى منه الفقراء والمعدمون.

وبطبيعة الحال كان عدد الفقراء يتزايد بسبب تلك المجاعات، والأوبئة بينما زادت أرباح بعض صغار التجار مثل العطارين، والمهن مثل الأطباء، فتعاظمت أثناء تلك الأزمات، لاشتداد الطلب على الأدوية، والأعشاب للعلاج؛ ففي أزمة عام (694 - 695هـ/ 1294 - 1295م) بلغت مبيعات أحد العطارين في شهر واحد برأس حارة الديلم اثنين وثلاثين ألف درهم[13]. أما كبار التجار فيرفعون الأسعار، فقد أصاب أحدهم ربحاً ما بين 100 - 200 درهم في اليوم، بينما السوقة بلغ ربحهم ثلاثين درهماً. أما السلطة الحاكمة كالأمراء، والجند، وغيرهم؛ فكان لبعضهم 600 أردب باعها بسعر 150 للأردب، وقد أنفق معظم ذلك المكسب في عمارة دار وزخرفتها[14] في وقت عانى فيه الفقراء من آثار تلك المجاعة كالموت والجوع. ويعتبر ذلك نوعاً من استغلال السلطة الحاكمة والطبقة متوسطة الظروف؛ فبينما يهرب الفقير من قسوة المجاعة، والوباء يجد آخرين يتحالفون مع تلك الأزمات ضده، ولنا أن نتخيل وضع الفقراء في ذلك الحصار الطبيعي والبشري.

وأكثر من تأثر بالريف هم الفلاحون الذين كانوا يموتون والمحراث بيدهم مثلما حدث في مجاعة عام (596هـ/ 1296م)، ونتيجة لذلك ولأسباب طبيعية وبشرية عديدة تقلص عدد القرى فأدى ذلك إلى انهيارٍ آخر للبناء الاجتماعي من خلال الهجرات المتلاحقة من الريف للقاهرة العاصمة، وانضمامهم للخنقاوات، أملاً في إيجاد مأكل ومأوى وملبس.

ويمكن أن نلمس أثر الأوبئة، والمجاعات بطريق غير مباشر على الفقراء من حيث تدهور الإنتاج الزراعي؛ وما كان ينتج عن ذلك من ارتفاع الأسعار بشكل مطرد، فضلاً عن اختفاء كثير من السلع؛ ومن ثَمَّ قصور الإنتاج الزراعي عن الوفاء بحاجة البلاد؛ لعدم وجود المحاصيل الهامة بشكل كاف كالقمح، والشعير اللذين يعتبران عاملين أساسين لصناعة الخبز، وبسبب موت الفلاحين تبور الأراضي لنقص عددهم، وحتى الذي يُزرع تأكله الدودة [15]، وفي مجاعة عام (695هـ/ 1295م) هلك معظم الدواب لعدم وجود العلف، ولما كانت زراعة مصر تتجه أساساً لإشباع حاجة البلاد من المواد الغذائية، فإن أدنى هزة في موارد المياه والزراعة كانت تترك آثارها التخريبية في حياة المجتمع المصري، وفي هذه الأحوال، تزدحم القاهرة بالقادمين من الريف بحثاً عن الطعام، وهو ما يدل على أن هذا التدهور كان من أسباب المجاعات والأوبئة المتوالية.

في الواقع لم يكن الفلاحون وحدهـم الذين عانوا من تلك الأزمات؛ وإنما المجتمع كله من صناع، وحرفيين، وعمال[16]، وهذا ما يؤدي لتدهور الصناعة؛ فمما لا شك فيه انهيار العديد من الحرف على إثر تلك الأزمات؛ فمثلاً أثناء مجاعة عام (598هـ/ 1201م)، أشار البغدادي إلى أن «بمصر 900 مَنْسَج للحصر، ولم يبق منها إلا خمسة عشر منسجاً، وقس على هذا مِن باعةٍ، وخبازين، وعطارين، وأساكفة، وغير ذلك»؛ فتعطلت الصنائع بينما ظل الحكام يستوردون احتياجاتهم من الخارج في مقابل العملات الذهبية؛ وهو ما أدى إلى استنزاف رصيد البلاد من الذهب، والفضة، فلجأت الحكومة لتعويض ذلك باحتكـار بعض السلع فافتقر السوق واندثرت العديد من المهن وأفسحت المجال للذعار، والشطار لممارسة هوايتهم في السلب، بينما عجز بعض الناس عن العمل، فلجؤوا للتسول بالأماكن العامة[17].

وفي أثناء هذه الأزمات، قد يهرب السلطان وأمراؤه من القاهرة، ويفعل ذلك أعيان ومياسير الناس، بينما يبقى العامة غذاءً سهلاً لهذه الكوارث والنكبات، حيث يتصارع عامة الناس في سبيل الحصول على القوت، فيتزاحمون على الأفران، وحوانيت الخبـز، والدقيق، ويقتتلون من أجل ذلك، وفي أثناء التزاحم على الأفران ينهب الناس الخبز جهراً، بل يختطفون العجين إذا خرج إلى الفرن[18]، وقد نجد ذلك في عام (590هـ/ 1193م) حيث «تعذر وجود الخبز وضج الناس»، وفي عام (592هـ/ 1195م) امتدت أيديهم إلى خطف ألواح الخبز؛ فكان الضرب هو نصيبهم، ومع ذلك لا يرمون ما خطفوه[19]؛ فقد كان نقص الطعام بمثابة تهديد دائم لحياة الفقراء بالقاهرة وخصوصاً الخبز، ولذا فقد كانوا مربوطين أكثر بتقلبات أحوال السوق، فاعتمدوا على مساعدة النخبة العسكرية من خلال إمدادهم بالطعام مجاناً، أو بسعر مخفَّض وقت الأزمات. ومع ذلك استطاع الفقـراء أن يجدوا طعـاماً بديلاً أثناء الأزمات؛ ففي غلاء عام (662هـ/ 1263م) أكل الناس ورق اللفت، والكرنب، وخرجـوا إلى الريف، بحثاً عن عروق الفول الأخضر[20].

وعن دور السلطة الحاكمة لمساعدة الفقراء؛ ففي أثناء مجاعة عام (596هـ/ 1199م) كان العادل الأيوبي يخرج ليلاً بنفسه ويفرق الأموال في ذوي البيوتات، والمساكين، وفي عام (597هـ/ 1200م) أطلق للفقراء شيئاً من الغلال، وقسم الفقراء على أصحاب الأموال، وأخذ منهم اثني عشر ألف نفس، وأفاض عليهم القوت، وانحط سعر القمح حتى صار مرمياً لا يجد من يشتريه[21]، وفي عهد السلطان الظاهر بيبرس عام (662هـ/ 1265م)، بسبب الغلاء فرق الفقراء على الأغنياء، والأمراء، وقام بتكفل ألفين من الفقراء على نفسه، وولده، ونائب السلطة، ورتب لكل واحد منهم يومياً رطل خبز ونصف رطل لحم، واستمر الوضع حتى دخل المحصول الجديد[22]؛ فقد كان بيبرس يتميز بإدارة حاكمة ويظهر ذلك في اهتمامه بشعبه، فلم يهدأ له بال حتى خفف من حدة الأزمة بخفض الأسعار؛ لإحساسه أنه المسؤول عن رعاية شعبه ومن ثَمَّ ينطبق الحال  نفسه على كل حاكم قوي حازم يفهم معنى مسؤولية الحكم والسلطة.

وبدخول عام (695هـ/ 1295م) عظم الجوع حتى أمر السلطان بجمع الفقراء وذوي الحاجات، وفرقهم على الأمراء، وقد اختلف كل أمير من حيث نوعية الطعام لحم بقر، أو كعك، أو رقاق؛ فخفف ما بالناس من الفقر[23]، وبمعنى أدق: لقد كانت السلطة الحاكمة قادرة على توفير الغذاء الأساسي لهم، ويأتي بعدهم ميسورو الحال، بينما الفقراء أكثر مَن تأثروا بمدى حركة السوق من حيث البيعُ، والشراءُ، وارتفاعُ الأسعار التي غالباً ما يقف الفقراء عاجزين أمامها؛ وخصوصاً أوقات الأزمات الناتجة عن تذبذب منسوب فيضان النيل.

وقد استخدم أحد الباحثين جملة تصف حال الفقراء بقوله: «لقد كان الجوع رفيقاً دائماً للفقراء، بَيْد أنه نادراً ما كان يهزمهم تماماً»[24]. لقد أصاب في الجملة الأولى، وجانبه الصواب في الجملة الثانية، إلا إذا كان يقصد الفقراء الذين ينضمون للصوفية بحيث ينالون من سبل الحياة ما يمنع بينهم وبين تمكن الجوع منهم، في حين أن الجوع غالباً ما يهزم الفقراء بمفهومهم كجزء من الشعب المصري؛ فمهما كانت الإعانات التي تصلهـم من السلطة الحاكمـة، فغالباً ما كانت الأوبئة، والمجاعات تحصدهم، وعموماً كان الفقراء لا يصمدون أمام المجاعة بسبب سوء تكوين أجسادهم الضامرة في حين أن المجاعة، والجوع والمرض لا تفرق بين طبقات الشعب المصري بينما تجد مرعاها في الفقراء.

 


 


[1] المقريزي، السلوك ،ج1ق1، ص130 - 131.

[2] المقريزي، إغاثة الأمة، ص24 - 25.

[3] البغدادي، رحلة الإفادة والاعتبار، ص132- 134 - 138 - 139.

[4] أبو شامة، تراجم رجال القرنين السادس والسابع الهجريين، ص19. ابن إياس، بدائع الزهور، ج1ق1، ص254.

[5] المقريزي، السلوك، ج1ق1، ص158.

[6] البغدادي، مصدر سابق، ص143، 144.

[7] المقريزي، مصدر سابق، ج1ق2، ص506، 507. ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة، ج8، ص71.

[8] البغدادي، مصدر سابق ، ص 143- 145.

[9] المقريزي، مصدر سابق، ج1ق3، ص809، 810. ابن إياس، مصدر سابق، ج1ق1، ص389، 390.

[10] المقريزي، مصدر سابق، ج1ق3، ص814، 815.

[11] قاسم عبده قاسم، دراسات في تاريخ مصر الاجتماعي ، ص171، 172.

[12] البغدادي، مصدر سابق، ص140.

[13] المقريزي، إغاثة الأمة، ص28-30.

[14] نفسه، ص31.

[15] البغدادي، مصدرسابق، ص142. المقريزي، مصدر سابق، ص25. المقريزي، الخطط، ج4، ص271، 272. السلوك، ج1ق1، ص157، 258. إغاثة الأمة، ص 24 - 25. قاسم عبده قاسم، مصدر سابق، ص 176.

 [16] المقريزي، السلوك، ج1 ق1، ص158. قاسم عبده قاسم، النيل، ص125. درسات في تاريخ مصر، ص 176.

[17] البغدادي، مصدر سابق، ص143؛ البيومي إسماعيل، مصادرة الأملاك، ج1، ص330 - 331.

[18] المقريزي، إغاثة الأمة، ص29؛ قاسم عبده قاسم، دراسات في تاريخ مصر، ص173.

[19] المقريزي، السلوك، ج1ق1، ص119، 120.

[20] نفسه، ج2ق2، ص506، 507. آدم صبرة، الفقر والإحسان، ص221 - 223.

[21] البغدادي، رحلة، ص132 - 142. المقريزي، الخطط، جـ3، ص382، 383. إغاثة الأمة، ص24 - 26. ابن تغري بردي، مصدر سابق، ج6، ص170.

[22] المقريزي، السلوك، ج1 ق2، ص506 - 508. الخطط، ج3، ص333، 334، ج4، ص96. ابن تغري بردي، مصدر سابق، جـ7، ص213، 214.

[23] ابن حبيب، تذكره النبية، ج1، ص184. المقريزى، إغاثة الأمة، ص28 - 30؛ السلوك، جـ1 ق3، ص814، 815.

[24] آدم صبرة، مرجع سابق، ص221.

 

  

أعلى