في (أبريل/ نيسان) الماضي شهدت إيران أزمة
عميقة بين أركان السلطة متمثلة برئاسة الجمهورية عبر أحمدي نجاد وأنصاره من جهة،
وبين ولاية الفقيه المتمثلة بالمرشد الأعلى وأنصاره من جهة أخرى؛ وذلك على خلفية
إقالة وزير الاستخبارات حيدر مصلحي.
إن المتابع للملفات الإيرانية - سواء ما
يتعلق منها بالاقتصاد أو المجتمع أو السياسية أو الدين - يستطيع أن يلاحظ بكل وضوح
مدى التعقيد الذي يكتنفها نظراً لشدَّة التداخل بين الملفات ولتعدُّد المحاور
والجبهات ولتنوع المصادر والتوجهات.
ولا تخرج هذه الحالة المتعلقة بالنزاع بين
نجاد ومعسكره من جهة، وبين المرشد ومعسكره من جهة أخرى عمَّا سبق شرحه؛ لذلك نحاول
في هذا المقال أن نعطي فكرة مقتضبة عن طبيعة النزاع، والعناصر المؤثرة فيه، والتفسيرات
المتعلقة به، والمحاور المنخرطة فيه وأيضاً انعكاساته على طرفي النزاع وعلى النظام
السياسي في إيران.
الفروع والأصول في الأزمة
بين «النجادية» وولاية الفقيه:
في الفروع: تقدم مصلحي باستقالته تحت ضغط الرئيس أحمدي
نجاد الذي سرعان ما قبل الاستقالة؛ إلا أنَّ المرشد تدخَّل فرفض الاستقالة، ولم
يكتفِ بذلك؛ بل أمر بإعادة مصلحي إلى منصبه. وَفْقاً للدستور الإيراني فإن المرشد
الأعلى يمتلك صلاحيات مطلقة. ورغم ما يقال عن وجود «شيء من الديمقراطية» في النظام
الإيراني إلا أنَّ هذا أبعد ما يكون عن الواقع؛ فالمرشد يمتلك صلاحيات تجمع بين
«السلطتين المدنية والدينية» بما يفوق ما يمتلكه أي ديكتاتور في العالم.
وَفْقاً للمادة 110 من الدستور الإيراني،
فإن مرشد الثورة هو الذي يضع كافة المسائل الرئيسية الخاصة برسم وتعيين السياسات
العامة للنظام، وهو الذي يقود القوات المسلحة، وهو الذي يملك أن ينصِّب ويعزل
رؤساء المؤسسات والمجالس الرئيسية في الدولة، وهو الذي يعيِّن رئيس السلطة
القضائية، ورئيس الإذاعة والتليفزيون، ورئيس أركان القيادة المشتركة للجيش،
والقائد العام لقوات حرس الثورة، ويملك - فوق كل ذلك - عزل رئيس الجمهورية
المنتخَب مباشرة من قِبل الشعب. كما أنَّ المجالس الأخرى الرئيسية في النظام
السياسي: من مجلس الخبراء، إلى مجلس تشخيص مصلحة النظام، إلى مجلس صيانة الدستور
كلها تابعة له بشكل مباشر أو غير مباشر أو خاضعة لنفوذه.
أما دينياً فالمرشد يمثل «الإرادة الإلهية»
ويتمتع بهالة من «القدسية» كونه ينوب عن الإمام المنتظَر، ويتمتع بنوع من العصمة
التي تفرض على الجميع إطاعته والامتثال له.
حاول الرئيس أحمدي نجاد إظهار اعتراضه على
موقف المرشد من خلال الاعتكاف؛ حيث غاب عن مقر الرئاسة وعن اجتماعات الوزارة لأكثر
من أسبوع. لكن سرعان ما عاد عن اعتكافه بعد اشتداد حملة الضغوط عليه من المرشد
وأنصاره. ونُقِل حينها عن حجة الإسلام مرتضى آقا طهراني تخيير المرشد لنجاد بين
إعادة مصلحي إلى منصبه أو أن يقوم الرئيس بتقديم استقالته.
في الأصول: فإن هذه المعركة تعتبَر امتداداً لمعارك
سابقة أقل حدَّة؛ خاضها أحمدي نجاد مع المرشد بعد الانتخابات الرئاسية عام 2009م.
ويعود ذلك إلى تخوُّف المعسكرين اليمينين (نجاد وأنصاره) و (المرشد وأنصاره)؛ من
أن يقضي أحدهما على الآخر في النظام السياسي بعد أن خلت الساحة لهم إثر قيامهم
معاً بإقصاء كل المنافسين المحتملين سابقاً دون استثناء؛ سواء من الإصلاحيين أو
البراغماتيين أو اليساريين.
وعلى الرغم من أنَّ كثيراً من الأوساط
المطَّلعة على الخلاف بين «النجادية» وولاية الفقيه تحبُّ أن تفسر النزاع الحاصل
بينهما الآن من باب المنظور الطبقي؛ أي صراع الطبقات في المجتمع الإيراني
(الفقراء، والطبقة المتوسطة، والأغنياء)، إلا أنه تفسير غير صحيح في هذا السياق،
وكان روَّج له الطرفان سابقاً في مواجهة التيار الإصلاحي للتقليل من أثره من خلال
القول: إنه لا يمثل كل فئات المجتمع الإيراني، وإنه يقتصر على بعض الأغنياء وشيء
من الطبقة الوسطى ولا يشمل الأغلبية الساحقة من الفقراء، وهو تفسير تبنَّته للأسف
كثير من الأوساط العربية الموالية للمرشد وأيضاً المناصرة للرئيس نجاد. ما هو حاصل
في إيران اليوم يتجاوز هذا التفسير السطحي «المصلحي» إلى ما هو أعمق من ذلك؛ بما
يعكس الصراع داخل الجبهة المحافظة في أقصى اليمين.
بروز «الحالة النجادية» في
النظام الإيراني:
في عام 2005م، كان المرشد بحاجة إلى رجل قوي
في الرئاسة، قادرٍ على التعامل مع الغرب، وعلى تنشيط جبهات إيران الإقليمية
وأذرعها كخط دفاع أول عن الجمهورية وقادرٍ على إطلاق برنامج إيران النووي بسرعة.
لقد كان التيار الإصلاحي - وعلى رأسه خاتمي - مناقضاً لكل ذلك؛ فقد قلَّص الدعم
لأذرع إيران الإقليمية، وأطلق آلية حوار مع الدول المجاورة ولا سيما الخليج، كما
دعا إلى نهج تصالحي مع الغرب وإلى حوار الحضارات، وعليه فقد كان نجاد الرجل
المناسب للمرشد في المكان والزمان المناسبين.
في المقابل، سعى نجاد
إلى توسيع دائرة نفوذه في النظام السياسي الإيراني بما يسمح له بتطبيق سياساته
الداخلية والخارجية دون عراقيل تذكَر؛ لكنه كان يواجه عدداً من المشاكل من قِبَل
منافسين كُثُر (الإصلاحيين، المحافظين والبراغماتيين، والمحافظين والتقليديين،
والأصوليين). فقرر التقرب من المرشد الأعلى خلال ولايته الأولى، وأخذ يزايد في
إعلان الولاء والطاعة له؛ الأمر الذي أتاح له تهميش الإصلاحيين، وفي الوقت نفسه
اتقاء شر أنصار المرشد من الأصوليين والمحافظين التقليديين؛ بالإضافة إلى تعيين
عدد كبير من المسؤولين الموالين له ومن الأنصار في مفاصل أساسية ورئيسية في النظام
الإيراني، وهو ما خلق «حالة النجادية».
وفي الانتخابات الرئاسية عام 2009م، رأى
أركان النظام الإيراني - وعلى رأسهم المرشد الأعلى - في الحركة الخضراء بوادر ثورة
مخملية تهدد النظام برمَّته، فقرر هو ومعسكره دعم أحمدي نجاد حتى النهاية. لقد
أسفرت هذه المعركة عن سحق الحركة الخضراء وذهب ضحيتها أيضاً إلى جانب الإصلاحيين
كثير من المحافظين البراغماتيين ورجال الثورة الحقيقيين الذي لعبوا دوراً رئيسياً
في ثورة عام 1979، فتوسعت «الحالة النجادية» داخل النظام الإيراني على حساب كل هذه
الأطراف.
معارك «الحالة النجادية»
مع المرشد الأعلى:
لم يسلم المرشد الأعلى ومعسكره من انعكاسات
هذه الحملة التي قادوها لدعم نجاد في انتخابات عام 2009م، فنظر إليه كثير من
الخصوم على أنه تحول إلى «رئيس تيار حزبي» وخرج عن موقعه مرشداً حاكماً للتوازنات
في النظام السياسي الإيراني وحكماً بين المؤسسات. في هذه اللحظة بالذات، ونظراً
لما أسفرت عنه هذه المعركة القاسية من نتائج، اعتقد نجاد أن تياره أو «الحالة
النجادية» أصبحت قادرة على التحرك باستقلالية من دون المرشد. لقد أدى ذلك إلى صدام
بين أركان النظام متمثلة بالحالة النجادية في مواجهة الولي الفقيه، ومن أبرز
معالمها:
1 - تحدِّي نجاد للمرشد وأنصاره بعد انتخابات 2009م مباشرة،
من خلال تعيين صهره «إسفنديار رحيم مشائي» - سنتحدث عنه لاحقاً - في موقع النائب
الأول للرئيس. وقد أثارت هذه الخطوة عاصفة من ردود الأفعال من رجال الدين المتشددين
ومن اليمين المحافظ في النظام الإيراني في وجه نجاد، ودَشَّنت المعركة بين
المعسكرين، ودفعت المرشد الأعلى إلى كتابة فتوى في هذا الشأن تفرض عليه التخلي
عنه. فاستقال «مشائي» بعد ثلاثة أيام من تعيينه في منصبه آنذاك، لكن نجاد عاد
وعينه في منصب رئيس مكتبه (كبير الموظفين)، واحتل في ما بعد قرابة 19 منصب في
النظام وَفْقَ بعض المصادر.
2 - معركة تعيين مبعوثين خاصين لنجاد (عام 2010م) لمنطقة
الشرق الأوسط ولآسيا وأفغانستان وبحر قزوين، وكان من بينهم أيضاً مشائي وعددٌ من
المقربين جداً منه. وقد أدى ذلك إلى اعتراض وزير الخارجية المقرَّب جداً من المرشد
«منوشهر متكي»، فصرَّح قائلاً: «إنَّ هذه الخطوة تسمح بإنشاء سياسات خارجية مستقلة
للرئيس وموازية لسياسة الوزارة؛ وهو ما سيؤدي إلى إضعاف الجهاز الدبلوماسي
الإيراني وتضارب في الصلاحيات». لكن نجاد انتظر سفر متكي إلى السنغال حتى يقوم
بإقالته مما حال دون إفساح المجال لأحد بالتدخل، وقد عُدَّ ذلك انتصاراً للحالة
النجادية في النظام، وبمثابة تحذير للمحافظين الأصوليين.
مخاطر «العقيدة المشائية» على المرشد الأعلى:
أما ملف الخلاف الثاني بين المعسكرين؛ فهو
شخصية صهر الرئيس وما يحمله من أفكار. فالمرشد الأعلى وتياره وأنصاره يمقتون
«مشائي» إلى أقصى حد، وعادة ما يرمزون له ولتياره بـ «المجموعة المنحرفة»، ويوصف
من قِبَل بعضهم بأنه «ليبرالي النزعة» ومِن قِبَل آخرين بأنه «قومي الأيديولوجيا»
ويعرف بمواقفه المستهجنة عادة، ومنها:
1 - سبق له أن أعلن في عام 2008م - عندما كان في منصب نائب
الرئيس الإيراني لشؤون السياحة والثقافة - أنَّ «إيران صديقة للشعب الإسرائيلي».
2 - سمح بإقامة حفل حملت فيه اثنتا عشر فتاة إيرانية كن
يرتدين اللباس التقليدي وهن يرقصن نسخة من المصحف على طبق، وأثار جدلاً لموقفه
«المتراخي» وغير المبالي من الحجاب الإسلامي كما يتَّهمه بذلك المحافظون.
3 - صرَّح عام 2010م بأنَّ الرسول محمد صلى الله عليه وسلم
من أصل فارسي وليس عربي.
لكن كل ذلك لا يكفي لتبرير مخاوف وكره
الأصوليين والمحافظين التقليديين لمشائي، أو لتبرير هذه المعركة الحالية مع
الرئيس. إن ما يخيف معسكر المرشد هو ما يمكن تسميته بالـ «عقيدة المشائية» التي
يدعو من خلالها إلى إيران إسلامية ولكن بشكل مغاير عما هو موجود اليوم وتكون نزعة
التشيع فيها أكثر قومية.
فمشائي رجل مدني ليس من رجال الدين من جهة،
وليس من رجال الثورة من جهة أخرى، وهو يؤمن بالتشيع «الإيراني» من جهة وبالقومية
الفارسية من جهة أخرى. إن نجاح تحالف «الحالة النجادية مع العقيدة المشائية» وتمهيد
أحمدي نجاد لصهره في منصب الرئيس لانتخابات عام 2013م قد يطيح كليّاً بمعسكر
المرشد الأعلى، بل قد يغيِّر شكل النظام السياسي باتجاه تقييد صلاحيات الولي
الفقيه ودور المرشد الأعلى المطلق في النظام السياسي الإيراني.
وتعتمد الحالة النجادية على بعض الشخصيات
المزروعة في مفاصل النظام بالإضافة إلى نفوذ داخل الحرس الثوري وشريحة واسعة من
طبقة الفقراء التي يحرص نجاد على الفوز بها من خلال الدعم المالي الاقتصادي أو من
خلال الترويج للصور المرتبطة باتصاله مع الإمام الغائب والحصول على بركته ودعمه
والتحضير لظهوره.
أمَّا المشائية، فهي تراهن على تجيير الكتلة
الشعبية الموجودة خارج اللعبة السياسية: من (قوميين وعَلمانيين لا يرون به رجل
دين، ومن إسلاميين معتدلين لا يرون به محافظاً متشدداً، وربما من فئات أخرى ترى
فيه نقطة التقاء مع توجهاتها).
نتائج المعركة بين
المعسكرين وانعكاساتها:
إن حرص نجاد على إقالة صالحي أو دفعه
للاستقالة كان يتعلق بمدى تقييمه لدور وزارة الاستخبارات في الانتخابات المقبلة -
سواء البرلمانية أو الرئاسية - وبضرورة أن يكون المركز لأحد المقربين لدائرته مع
مشائي. ولعل استفحال «حالة النجادية» وإدراك المرشد وتياره لهذه المعطيات عجَّل
بجعل ملف مصلحي معركة كسر عظم بين المعسكرين، فاستنفر المرشد الأعلى وتياره
وأنصاره والتابعين له في المؤسسات بما فيها البرلمان الذي يرأسه لاريجاني خصم نجاد
لمواجهته.
لقد أسفرت هذه المعركة حتى عن أضرار كبيرة
لنجاد وحلفائه، كان منها:
1 - اضطرار الرئيس للعودة عن اعتكافه بعد 11 يوماً، مع بقاء
موضوع صالحي.
2 - اعتقال عدد كبير من أنصار الرئيس والمقربين ومن دائرته
الخاصة (ما يقرب من 25 شخصاً) ، تردد أن من بينهم الشيخ عباس أميري فار الذي يرأس
الدائرة الدينية في القصر الرئاسي الذي أنتج فيلم «ظهور إمام الزمان»، بذرائعَ
شتى، منها ترويجهم للخرافة وتقديس نفس الرئيس بزعم أنه من الممهدين لظهور المهدي
المنتظر.
3 - تقييد الرئيس والتقليل من دوره من خلال تقليص حجم
حكومته بإخراج عدد من الوزراء الموالين له في وزارات أساسية مثل النفط و «الصناعة
والمناجم» و «الشؤون الاجتماعية»، مع أن الرئيس فسَّر ذلك على أنه استجابة للمخطط
الخماسي الخامس (2010 - 2015م).
4 - تعرُّضه لحملة كبيرة تجبره على وجوب «الطاعة العمياء»
للمرشد وعدم المناقشة أو المجادلة.
والحقيقة هي: أنَّ نجاداً يبدو غير مستسلم
إلى الآن، فهو مراوغ وعنيد؛ إذ أعاد التصريح بأنَّه من أشد المدافعين عن المرشد
الأعلى وأن هناك من يحاول استخدام ولاية الفقيه كأداة ضدَّه وأن هناك من يحبون
المرشد، ولكن لا يعرفون كيف يدافعون عنه فيروجون لخوارقه. (كان إمام جمعة قم «محمد
سعيدي» زعم أنَّ آية الله علي الخامنئي نطق عند ولادته عبارة «يا علي!» مكرراً
إياها عدة مرات).
كما تلقَّى الرئيس رسالة تأييد ودعم له
ولصهره من 13 حاكم محافظة في إيران، مما جاء فيها: «إن هناك مجموعة منحرفة
(استخدموا مصطلحهم) تحاول إيذاء الحكومة من خارج السلطة».
يحاول بعض المراقبين والكتاب العرب أن
يقولوا: أن الوضع عادي؛ فقد حصلت معارك سابقة بين الرئيس والمرشد وأدت في النهاية
إلى إقصاء الرئيس كما في حالة بني صدر، واستمر النظام الإيراني بشكل طبيعي. في
الشكل هذا صحيح، لكن في المضمون كان النظام الإيراني في الثمانينات يتمتع بمشاركة
واسعة من مختلف الأطياف والتيارات الدينية والسياسية التي تعمل تحت عباءته وتصلح
بديلاً له. أما اليوم وكما شرحنا، فقدأصبحت جميع التيارات والأطياف خارج النظام
باستثناء أنصار المرشد ونجاد.
صحيح أن نجاد قد يتحول إلى بطَّة عرجاء إذا
ما استمر ضغط المرشد وأنصاره عليه وتقييده من صلاحياته وتحركاته، لكن وإن حصل ذلك
أن انتصر تيار المرشد الأعلى فإن النظام الإيراني بكافة أركانه ومؤسساته سيتحول
إلى اليمين المتطرف بعدما تم إقصاء جميع التيارات وهو الأمر الذي سيهدد بانفجاره
داخلياً، ومن غير الواضح ما إذا كان سيتم اللجوء إلى اللعبة السابقة عبر الإتيان
بإصلاحيين في الانتخابات القادمة وهو أمر مستبعد إلى الآن.
:: البيان تنشر - مـلـف خـاص- (الـخـطـر
الإيـرانـي يـتـمـدد)