لم يكن أكثر المراقبين يتوقعون قبل 15/3/2011م أن تقوم
حركة ناقدة في سورية فضلاً عن أن تكون متمردة بله أن تصبح مظاهرات وشعارات مناديةً
بالحرية والتعددية السياسية وغيرها من شعارات حقوق الإنسان؛ ذلك أن الأنظمة
الشمولية القمعية أجهضت أي محاولة للفكر الجمعي المنظم؛ إلا تحت سقف النظام
وأهدافه. ولذا فقد وُئدت جميع المحاولات السابقة لطرح فكرة التحرر منذ سنين طويلة
كان آخرها محاولة جماعة الإخوان المسلمين في ثمانينيات القرن الماضي التي سُحقَت
سحقاً شديداً وأوحت للمراقبين أنه لن تقوم قائمة لحركة تحررية بعدها. ولعل تلك المرحلة
وتداعياتها تركت آثارها في العقل الباطن لدى السوريين؛ من أن النظام البعثي القائم
من القوة والمكنة والبطش وسيطرة الحزب الواحد بحيث يستحيل مع ذلك مجرد التفكير
بالمواجهة أو إعادة التجربة. وهكذا نشأت أجيال تربَّت على عقدة الخوف من الأمن
وبطشه؛ جيل أو جيلين لم يعرفوا معنى للكرامة، ولا أبجديات الحرية؛ يتعايشون مع
الأجهزة الأمنية وكأنها قدره الذي لا مفر منه.
نبذة تاريخية (سياسية واجتماعية):
تشكِّل سورية فسيفساء دينياً وإثنياً وطائفياً متعددة
الألوان يسيطر عليه لون الأغلبية السُّنية بنسبة (80%)، وهي التي كانت وما تزال
تشكل الأغلبية الاجتماعية من أهل الحضر من التركمان، والأرياف حول المدن الكبيرة
الرئيسية، وتشمل جميع البدو ممن يحيون ضمن سورية لامتداد جذورهم التاريخية، كما
تمثل أغلب الكرد الذين استوطنوا سورية مع قدوم صلاح الدين الأيوبي، وجميع الشركس
والداغستان والشيشان الذين وفدوا لسورية أثناء قيام الاتحاد السوفييتي السابق
باضطهاد المسلمين هناك فراراً بدينهم إلى بلاد الشام. وهذه الطائفة كانت تمثل
استقراراً مادياً لاحتوائها شريحة التجار وبعض أصحاب النفوذ والحظوة لدى الدولة
العثمانية سابقاً.
أما باقي الطوائف فهي تشمل:
العلويين بنسبة (10%): وهم فئة عاشت على أطراف الخط الساحلي
مستوطنة تلك المنطقة التي سميت باسمهم (جبال العلويين) وللحقيقة أقول: لقد كانت
تلك الفئة على مدار عقود تحيا حياة البؤس والشقاء في ظروف بيئية واجتماعية قاسية؛
ولذا كان من السهل على أغلبهم مدُّ أيديهم لكل محاولة لانتشالهم من وضعهم؛ ولو
كانت تلك اليد يَدَ مستعمر أو حزب أو متآمر أو حاقد؛ فكانوا فريسة للصليبيين
قديماً ولحزب البعث وأهدافه التحررية التقدمية حديثاً.
وطائفةَ الدروز: وهم مجموعات من الناس استوطنت منطقة الجنوب
السوري أو ما سمي بـ (جبل العرب): وهي فئة شديدة الغموض في ما تتخذه من عقيدة، وهو
ما جعلهم معزولين اجتماعياً عن الآخرين وسَهُل كذلك احتواؤهم من قِبَل بعض الدول
خارجياً كان آخرها الدولة الصهيونية بعد احتلالها للقنيطرة؛ فقد شكلت مجموعة
عسكرية من دروز الجولان مهمتها التحقيق مع الفلسطينين لتجاوزهم مشكلة اللغة، ويشار
في هذا السياق إلى أنه ثمة (مشكلات تاريخية «عقيدية وسياسية» كانت بين الأقلية
العلوية والدرزية ولا زالت، وهم ممنوعون في دولة البعث الحالية من تولي مناصب
أمنية عليا).
والطائفة الإسماعيلية: وتضم فذة من الناس توارثت الفكر العبيدي
الفاطمي واستوطنت منطقة السَّلَمية شرقي مدينة حماة الشهيرة؛ وهم لا ينتمون
لمذهبهم ذلك الانتماء العقدي؛ وإنما شكَّل المذهب لهم في الفترة الأخيرة نوعاً من
الحاضن الاجتماعي وكياناً يضمن لهم الاستمرار والبقاء، ولقد تفشَّى بينهم بقوة
الفكر الشيوعي وأحزابه على اختلاف مشاربها وأطيافها؛ حتى سميت السَّلمية بـ (موسكو
سورية)، وهذه الفئة انتهازية مولعة بالعلم والسياسة.
ويبقى هناك بعض الفئات ممن لا أثر لهم في الأحداث
كاليزيدية التي لها بعض الانتشار في أوساط الأكراد شمال سورية وامتدادها في العراق
وشماله، وهي تمثل شريحة من الأميين الذين يحيون على الزراعة.
أما من حيث الأديان فهناك النصارى بطوائفهم المتعددة
المختلفة والمتخالفة في ما بينها، وهي معروفة بانتمائها لكل من يتولى الحكم في
سورية منذ الاستقلال؛ لأنها ترى في ذلك حفاظاً لها من التورط في أي مشكلة نظراً
لقلة عددهم، وبعضٌ منهم له ارتباط فكري وعقدي مع الأحزاب اللبنانية النصرانية، ولا
يُنكَر في هذا السياق وطنية ونضال بعضهم مما شهده الواقع تاريخياً مثل (فارس
الخوري) وحاضراً مثل (ميشيل كيلو)، ولقد كان لهم حضور ملحوظ في الأحزاب اليسارية
بشكل عام.
أما اليهود فلم يعد لهم وجود بعد أن سمح لهم نظام
(الممانعة) بالهجرة من سورية فاتجهوا للغرب ومنه إلى (إسرائيل)؛ حيث شكلوا فيها
ثقلاً مادياً نظراً لأن أغلبهم من التجار.
إرهاصات الاحتجاج داخل سورية:
مما لاشك فيه أن الحالة السورية تأثرت تأثراً واضحاً بما
جرى في مصر وتونس، والشعب السوري بطبيعته شغوف بمتابعة السياسة وممارستها؛ وهذا ما
لم يراعه النظام القائم؛ فقد كان ما جرى في هذين البلدين العزيزين - وخاصة مصر -
حديث المجالس العامة والخاصة؛ يضاف إلى ذلك توافر ممهدات فكر الثورة عموماً، وهي:
الظلم الاجتماعي الذي حل بالشعب السوري عموماً نتيجة انتشار الفساد الإداري
والمالي بسبب سيطرة أدعياء الحزب ابتداءً وأعوانِه ثم أبناء الطائفة الحاكمة
والمنتفعين معهم ثانياً، لتنتهي القضية بسيطرة أفراد الأسرة الضيقة من آل الأسد
ممن شكلت سورية لهم مزرعة يعطون فيها ويمنعون بمقدار الولاء لهم، وللأسف فقد كان
هناك زواج غير شرعي بين بعض تجار دمشق وحلب والمنتفعين وبين أفراد العائلة المالكة
«جمهورياً» (ولعل هذا ما يفسِّر تأخُّر قيام الثورة في دمشق وحلب).
كل تلك الممارسات جعلت من الشعب السوري شعباً فقيراً
يحيا أغلبه تحت خط الفقر بعد أن كان في مقدمة الشعوب العربية في مرحلة الستينيات،
وفي إحصائية لمكتب الإحصاء السوري جاء: أن معدل إنفاق الأسرة السورية من 5 أفراد
هو20 ألف ليرة سورية بينما أفاد المصدر نفسه أن معدل الدخل لا يتجاوز 14 ألف ليرة؛
أي أن هناك عجزاً مباشراً بـ 6 آلاف (أي ما يقارب مئة دولار أمريكي).
أضف إلى ذلك ما سمي بتغيير الحالة الديموغرافية وسيطرة
أبناء الطائفة على مقدرات الدولة ووظائفها عموماً نتيجة الولاء والقرابة وتحكُّم
العقلية الأمنية في وظائف الدولة؛ وهكذا نلحظ في بعض مدن الداخل وجوداً غريباً
للأقلية وسطوتها على مفاصل الحياة جميعها، أضف إلى ذلك ما شحنت به هذه الأقلية من
مبادىء البعث من محاربة للإقطاع وغيرها؛ فشكل لديها حالة من الحقد الاجتماعي
ممزوجة بالطائفية مع تخلُّف البِنيَة العقلية لأغلبهم؛ لأنهم تولوا مناصب لم
يتقنوا بحثها العلمي ولا الأكاديمي؛ وإنما بمقدار ولائهم وحسب. وشيوع الفساد
الإداري بجميع مرافق الحياة ابتداء من القضاء الذي تدخَّل الحزب في تعيين أفراده
وعلمنة قوانينه - وهو معيار لصحة الأمم ورقيها عموماً - وانتهاء بالتعليم العالي
والأكاديمي وما لحق به من تردٍّ نتيجة إيفاد الشخصيات العلمية غير المؤهلة ليكونوا
محاضرين أومدرسين، كما أن العقلية التي كانت سائدة في حزب البعث من ضرورة الابتعاث
لدول المنظومة الاشتراكية بكل أطيافها وما لديها من أيديولوجيات علمية بائسة أورث
لدينا جيلاً من الجامعيين غير مؤهل. كل هذه التركيبة العقلية كان على المواطن
السوري تحمُّل وطأتها وقسوتها.
عوامل القوة لدى النظام السوري:
لاشك أن النظام السوري يعتبَر من أكثر الأنظمة مراوغة
ولعباً بالخيوط المتاحة بين يديه ولقد شكلت بعض النقاط إحراجاًَ لكل المعارضين
للنظام، وتمثَّل ذلك في:
1 – في ظل
تردي الوضع العربي وهشاشة معظم الدول العربية الممثلة لمعسكر الاعتدال برزت سورية
على أنها حاملة لواء الممانعة والوقوف عند الثوابت القومية المتعلقة بموضوع
فلسطين؛ وتجلى ذلك في دعمها شبه المطلق لحركات المقاومة الفلسطينية بشكل عام حتى
الإسلامية منها، مثل حماس والجهاد الإسلامي التي تتلقى من التسهيلات في سورية ما
لا تتلقاه - قطعاً - في أي قطر عربي آخر، ولا تزال المناهج المدرسية وتوجيهات
الإعلام كذلك تجعل من القضية الفلسطينية قضية محورية في العقل البعثي السوري،
وتسليط الإعلام السوري أضواءه على كل ما يحل بالواقع الفلسطيني من تطورات؛ ففي
أحداث غزة فتحت سورية جميع قنوات التبرع أمام حماس (وهي حركة غير مسبوقة)، ثم تبنَّت
كل المبعدين الفلسطينيين في تصرُّف غدا محرجاً لكل المعارضين للنظام؛ فهو يضعهم في
خانة معسكر التطبيع مع العدو الصهيوني وهي تهمة ترفضها المعارضة السورية بشدة،
ولقد اتكأ النظام على تلك المسألة اتكاءً كبيراً؛ ويبدو ذلك في تصريح وليد المعلم
لدى لقائه بالقيادات الفلسطينية لشرح الواقع العربي الجديد بعد سقوط نظام حسني
مبارك في مصر.
2 – الحنكة
والمهارة التي تتعامل بها وزارة الخارجية السورية أنقذتها من كثير من الأزمات خلال
الفترة الماضية؛ كان أشدها تعقيداً مسألة اغتيال رفيق الحريري، وما اكتنف المحكمة
الدولية من غموض استطاعت السلطات السورية تأخير صدور القرار الظني حتى الآن على
الرغم من كل الضغوط ولعلها استطاعت اللعب به أيضاً، وكذا مسألة تشكيل الحكومات
اللبنانية بدا أنها لا تتم دون تدخُّل سورية عبر وسطائها في لبنان؛ وهذا هو سبب
تأخُّر تشكيل الحكومة الحالية، وكذلك وجدت الحكومات العراقية نفسها مضطرة
للاستعانة بالسوريين لحل مشاكلهم الداخلية، وانهال المسؤولون العراقيون على سورية
ابتداءً من رئيس الحكومة حتى أصغر زعيم طائفي، وكذلك استطاع السوريون أن يكونوا
شوكة في حلق الأمريكيين إبَّان ظرف معيَّن في ما يتعلق بتسلل المقاتلين إلى
العراق، وكذلك استطاعوا أن يحافظوا على علاقاتهم مع إيران كدولة من محور الشر مع
استعادتهم لسفير أمريكا بدمشق، وعلاقات متينة مع تركيا العدو التاريخي لإيران،
ومحافظة على ماء الوجه مع الاتحاد الأوروبي عموماً.
إرهاصات الثورة :
ذكرنا سابقاً من تأثُّر الواقع السوري بما جرى في مصر
وتونس؛ وإن كان الواقع السوري أقرب إلى الدولة الأمنية التونسية منها إلى المصرية،
وتسللت حركة الوعي للشعب السوري عموماً وكذلك المنتديات التي تضم حقوقيين وسياسيين
وسجناء سابقين، وممن يهتمون للشأن العام مثل منتدى جمال الأتاسي، ويغلب على تلك
المنتديات طابع العَلمانية والحركات اليسارية المفعمة بالمبادئ الثورية.
وبعد التشاور مع النخب الثقافية تم إنشاء صفحة للثورة
السورية على الإنترنت تضم مجموعة من الهواة الإلكترونيين وأبناء العائلات المشردة
من قِبَل النظام وذلك بالتنسيق والمتابعة مع بعض النخب في الداخل، وكان لشباب
الصحوة الإسلامية المفعمين بروح الثورة والإسلام دورهم في ذلك، وكان ثمة جدال حول
من يشعل الثورة وتوقيتها فكان الرأي أن لا يظهر الإسلاميون على الأقل في الوقت
الحلي بالواجهة كي لا يلتف النظام عليهم وعلى ثورتهم ويظهرَها بمظهر حركة دينية متطرفة
ومن ثَمَّ تسهُل محاصرتُها والسيطرة عليها واتفقوا أن يكونوا وقود الثورة لا
شرارتها الأولى، وللحقيقة فإن الثورة في سورية لم تقم على أيدي العلماء؛ وإنما
كانت ثورة يقودها الشباب المثقف الواعي لأهميتها، المشبع بتعاليم الإسلام مع
محاولة لحياة عصرية بقيم الحـرية والعـدالة؛ بل كان لبعض العلماء - لأسف - دور
محبط في قيام التظاهرات؛ إذ كانت صورة الثمانينيات جاثمة أمام أعينهم بمآسيها
وبؤسها.
يوم 15/3/2011م:
اختار شباب الثورة الخروج في مناطق ذات بُعْد تراثي
واجتماعي بغية تعاطف جماهير المواطنين معهم وكانت الشعارات حينها منادية بالحرية،
مؤكدة على سلمية التظاهر وحق المواطن في إعلام حر، وسارت الشرارة الأولى للتظاهر
من جامع بني أمية الكبير بدمشق مخترقة سوق الحميدية؛ وهو سوق تراثي ذو بعد سياحي
(كان له في عام1980م أثره في قلقلة النظام)، وهكذا سارت المظاهرة البسيطة وسط ذهول
تجار دمشق وحرفييها الذين تسمَّروا مكانهم من غرابة ما يقع وكان التعامل الأمني
مقبولاً بالنسبة لحجم المظاهرة؛ حيث جرى اعتقال بعض المتظاهرين والتعامل معهم على
أنهم أفراد لا قيمة لهم في مسار الأحداث، ولكنَّ الذي غاب عن بال النظام أن هذه
المظاهرة شكلت الشرارة الأولى التي سوف تُشعِل الثوراة في كل المحافظات، وأنها
كسرت حاجز الخوف الذي ران على قلوب الملايين سنوات طوال.
وبعدها بدأ يتنامى إلى أسماع المواطنين أخبار عن ملصقات
على الجدران وكتابات تنادي بالحرية في شتى الأماكن؛ وهو ما أثار استغراب الأمن
والمواطنين على حد سواء، ولم تتجاوز تلك المقولات شعارات الحرية والعدالة ومحاربة
الفساد، ومن ثَمَّ قامت دعوات ليكون يوم 18/3/2011 جمعة للتظاهرات فأخذت التنسيقات
العفوية بُعْداً جدياً.
في الجمعة المذكورة تداعت الجماهير في المحافظات السورية
عبر شبكة من الوعي للقيام بالتظاهرات، فكانت مدينة درعا في الجنوب السوري هي
السباقة لذلك، وخرجت الجماهير منادية بالإصلاح، وبما أن النظام لا يملك سوى لغة
واحدة فقط تورط بالدم في درعا؛ وكان ذلك بعد أن خرج المحتجون مطالبين بأطفال لهم
كتبوا شعارات مناوئة للنظام على طريقة المصريين، إلا أنهم فوجئوا بنيران الأمن
السياسي برئاسة عاطف نجيب (ابن خالة الرئيس السوري) الذي تعامل مع الموضوع بالشق
الأمني فقط متجاهلاً خصوصية المنطقة التي يحكمها، وهي التي تتميز بروابط عشائرية
وعائلية كبيرة يصعب التعامل معها بمنطق التعسف وحدَه، فكانت هبَّة شعبية كبيرة
لإنقاذ المدينة المبتلاة بشبابها، فلم يكن ردُّ النظام إلا مزيداً من الدماء، دخلت
الأجهزة الأمنية بعد ذلك نفقاً مظلماً تتخبط فيه كل يوم بروايات مختلفة تزيد الوضع
إرباكاً.
وفي مدينة حمص كانت الهبة الجماهيرية من جامع له رمزيته
التاريخية وهو مسجد الصحابي الجليل خالد بن الوليد وبعض المساجد التي آزرته وسط
حشود أمنية لم تستطع ردَّ الجماهير عن بغيتها، ومن ثَمَّ تجمعت في مركز المدينة
حتى دخلت في صراع مع الأجهزة الأمنية انفضت بعدها المظاهرة بعد أن كسرت حاجز الخوف
من النظام.
مفاجآت الثورة:
لن ندخل في إطار سرد زماني للأحداث، فقد عُرفَت من خلال
شبكة الإنترنت؛ ولكننا لو أردنا الوقوف على التسلسل الزماني والمكاني للأحداث
لوجدنا أنفسنا إزاء مجموعة عوامل تستحق التأمل:
1 - لقد كان
تفاعل أبناء الريف السُّني عموماً مع الثورة أمراً أثار الاستغراب من أبناء المدن،
والاستهجان من النظام الذي كان يرى فيهم عملاء مطمئنين لنظامه بعد أن أتخم رؤوسهم
بالكلام عن الإصلاح الزراعي وعقدة الريف والمدينة واضطهاد البرجوازيين من أبناء
المدن لهم. ومنَّ عليهم بفتات من الوظائف الحكومية يتنافسون عليها، وهو ما جعل
بعضهم يمثل الواجهة الخلفية للنظام الطائفي؛ لذلك كان مدهشاً حقاً ذلك التفاعل
منهم.
ويرى المراقبون أن ذلك مردُّه إلى إحباط الأجيال
المتلاحقة من أبناء الريف من أطروحات النظام وبعثه ولغته الخشبية التي لم تعد
قادرة على حل مشاكلهم. أضف إلى ذلك أن توسع دائرة المعارف الإعلامية زاد من
اطلاعهم على واقع كانوا يجهلونه. ولعلَّ الأجيال الشابة لها أثر في ذلك.
أضف إلى ذلك أن موجة من الوعي الديني مردُّها إلى
الانفتاح الإعلامي الذي اكتسح الشارع برمَّته وأصاب الريف منها خير وافر.
2 - لقد وضع
النظام نفسه في وضع لا يحسد عليه؛ وذلك باستعدائه لعشائر البدو عموماً وخاصة في
حوران وضواحي مدينة حمص؛ فقد قام باستنفار بعض عناصره وتابعيه للتصادم مع البدو
بقصد تأديب من شق عصا الطاعة منهم، ولم يدرك أن العقلية العشائرية أعقد من أن
يحُلَّها التعامل الأمني فحسب؛ ففي حمص وجد النظام وأتباع طائفته أنفسهم في صراع
مع عشائر العقيدات والفواعرة وبني خالد والمشاهدة وغيرهم؛ وذلك عندما قتل لهم
عدداً من الشهداء في معارك هي أقرب إلى الانتقام، وأدرك النظام خطأه وحاول
الاستدراك، ولكن سبق السيف العذل؛ فقد انضم عدد غير قليل من شباب البدو إلى
المسيرات المؤيدة ولم تفلح جهود رؤساء العشائر في تهدئة الخواطر؛ بل وُجِدَت بعض
الأشرطة والبيانات التي تدعوا للقيام على النظام من شباب العشائر؛ وتدعوا كذلك
للتمرد على زعمائهم لِـمَا رأوا فيهم من ممالأة للسلطة بغرض الانتفاع من وجودها.
3 - أثبتت
المسيرات المناهضة أن هذا الجيل قد تجاوز عقدة الخوف من بطش النظام، وأن منطق
التظاهر السلمي هو أكثر إحراجاً للنظام من الحل المسلح؛ فهو لا يدع مجالاً للنظام
ليمارس هوايته في سحق الأرواح دون رادع من ضمير، كما أثبت الشباب الثائر بكل
أطيافه قدرته على استخدام وسائل التعبئة بقدرة فائقة وعقلية عملية تجاوزت كل
العوائق الأمنية التي يضعها النظام في وجه التكنولوجيا، بدئاً بشبكة الاتصالات إلى
عالم النت وغيره؛ فقد كانت الأحداث تصل مباشرة للقنوات الإعلامية على الرغم من كل
المصاعب؛ ولذا كانت الأجهزة الأمنية حريصة أشد الحرص في المظاهرات على عدم السماح
بالتصوير لأي صورة كانت، وشرعت في مصادرة أي أجهزة قد ترى فيها نوعاً من الإعلام
المحرج.
الطائفية وادعاءات النظام:
لقد دأبت الحركة الاحتجاجية - رغم
كل المآسي التي مرت بها - على الإصرار على طرح شعارات سلمية منادية
بالحرية والمساواة ومحاربة الفساد الإداري وغير ذلك من شعارات التحرير. ولكن
حجم التحرك الشعبي كان من الضخامة إلى درجة أحرجت النظام ووضعته أمام استحقاقات
ضرورية نتيجة المطالب الشرعية التي اعترف بعض أعضاء النظام بها؛ لذلك لم يجد
النظام أمامه إلا اللغة القديمة في الخطاب وهي نظرية المؤامرة التي تضع سورية
دائماً ضمن هذه الدائرة؛ فهي مستهدفة - كما يدَّعون - من أميركا
وإسرائيل ودول معسكر الاعتدال، ثم يفاجأ الشارع السوري بنظرية أن هناك من يريد
إشعال فتنة طائفية بالنظام متكئين على كلمة ألقاها الدكتور يوسف القرضاوي[1] تدعم ما يذهبون إليه، وجيَّشوا لذلك الإعلام
المرئي والمكتوب والمسموع بغية الرد على أولئك الذين يسعون لتخريب الوحدة الوطنية،
ليجد المتظاهرون أنفسهم وسط دوامة من الخيانة والتهم الجاهزة؛ وذلك في ظل غيابٍ
كامل لرئيس الجمهورية وإشاعات بقرب ظهوره على الإعلام. ولكن
لم تظهر في تلك الفترة سوى مستشارة الرئيس بثينة شعبان، وأصبحت هي بوق النظام الذي
يحاول تهدئة الأمور. وبدأت وعود النظام تنهال على الناس في
الإصلاح وإزالة قانون الطوارئ وغيرها، كل ذلك على لسان المستشارة، وللحقيقة فقد
وجد الثائرون أنفسهم أمام حدٍّ مقبول من الإصلاح لو تم؛ لذلك قاموا بعدة محاولات
بقصد تهدئة الأمور ريثما يخرج الرئيس على الملأ يعلنها صراحة، وجاء خطاب الرئيس
بعد حشد جماهيري مصطنع دعي إليه موظفوا الدولة وطلاب المدارس وعساكر الجيش، فجاء
الخطاب ليشكل مفاجأة لأبناء النظام قبل معارضيه، وليشكل انتحاراً سياسياً للرئيس
الذي استدعى في خطابه نبرة الثمانينيات التي استخدمها والده؛ والتي تخاطب الجماهير
خطاباً ذا وتيرة استعلائية تتجلى في النبرة القومية لسورية ودورها الإستراتيجي في
القضية الفلسطينية؛ وذلك مقدمة لما ظن الناس أنه سيكون قرارات إصلاحية، ثم يفاجأ
الجميع بعدها بنظرية المؤامرة التي طرحها الإعلام نفسه وأن هناك من يهدد كيان
البلد. وكانت التهمة جاهزة لكل من تسوِّل له نفسه
انتقاد النظام وألا مكان للحياد في تلك الفتنة،
لقد وردت شائعات تقول بأن الرئيس إصلاحي وأن من حوله
يُدفَعون للإصلاح دفعاً؛ وكان ذلك محاولة للظهور بمظهر المسيطر على الأحداث ليس
أكثر.
بعد هذا الخطاب (الذي
أسمته المعارضة بيان الحرب على التظاهرات) زادت
المظاهر الأمنية بشكل ملفت للنظر وعم البلدَ مظاهر غريبة من رجال مدنيين بعصيٍّ،
ودوريات تجول الشوارع، وغير ذلك من المظاهر التي استدعت للذاكرة مرحلة الثمانينيات
من القرن الماضي، وظن ظانٌّ أن الثورة قد أجهضت في مهدها، ولكن إرادة الشعب كانت
أكبر من ذلك، فأخذ يظهر بمظهر العنيد الذي لا يقهر.
فخرجت مظاهرة يوم 2011/3/25م لتكون أول مجزرة يرتكبها النظام بحق أهل درعا وضواحيها وأهالي اللاذقية،
وبدأ الناس يسمعون لأول مرة عن مظاهر البلطجة والشبيحة الذين سماهم النظام (المندسين)؛ وما هم - حقيقة - إلا
جهلاء الطائفة وبعض أفراد الأمن من ذوي المهام القذرة، وفُسِّر ذلك بأن النظام لا
يستطيع الاستعانة إلا بأفراد الفرقة الرابعة وأفراد الأمن بأطيافه ولا يثق بالجيش
لاحتمال اختراقه من قِبَل بعض الجماعات والضباط غير الموالين للسلطة، وجاءت نظرية
الاستعانة بأفراد من حزب الله لتؤكد على تلك الفرضية، وكانت نتيجة كل ذلك عشرات
الضحايا من المدنيين الذين قُتِلوا بدم بارد وبشكل فظيع قنصاً على يد عصابات الأمن
فكانت مجزرة في قرى حوران وحمص، ووصلت المظاهرات والمجازر للساحل السوري في صورة
تمرُّد مدينة اللاذقية ذات الأقلية السُّنية المضطهدة، وفي هذه المرحلة بدا النظام
في صورة المضطرب الذي يهرب للأمام من أجل خطوات استباقية وبدأت تتفاقم مظاهر
النقمة والغضب الشعبيين على النظام وقدوة القتل فيه متمثلة في ماهر الأسد (أخو
الرئيس بشار) والقوى الأمنية عموماً، واستنفر الرأي العام
العالمي ضد سورية وما تنجر إليه قواتها.
في هذه السياق وجد بعض علماء سورية أنفسهم أمام موقف
تاريخي يجب أن يقولوا كلمتهم تجاهه، فكان بيان علماء حمص الذي أكد على مطالب الشعب
بكل أطيافه؛ وهي التي تشمل الحرية والكرامة ومحاربة الفساد وغيرها من مطالب
الإصلاح؛ مع أن الثورة لم تنشأ بدفع من العلماء أبداً؛ بل لعل دورهم كان مثبطاً في
كثير من الأحيان. كان هذا البيان بمثابة خروج من الصمت وإشعار
بأن الشعب بدأ يصطف خلف قياداته الدينية حتى التقليدية منها. وهذا
ما لا يريده النظام الذي كان يرغب باظهار المتظاهرين كجُزُر معزولة لا يربطها رابط. ولذا
سارعت الدولة بحركة استباقية إلى استدعاء جميع الفعاليات الاجتماعية والدينية
وشيوخ العشائر في محاولة للتهدئة ونزع فتيل الأزمة ومحاصرة الحَنَق الاجتماعي الذي
يزداد باطراد، في هذه الأثناء عادت إلى الظهور شخصية رئيس الجمهورية ولوحظ انحسار
للمد الأمني عموماً، وهو ما فُسِّر من قِبَل بعض المتابعين بأنه امتداد للخط
السياسي الذي يرغب بالحل السلمي لمعالجة الأزمة، هذا الحل الذي يتبناه الرئيس مع
مجموعة من المستشارين؛ وخاصة ضباط الأمن صغيري السن الذين درسوا في الحياة
الجامعية ولوحظ وجودهم في أكثر من قِطَاع أمني، ويغلب عليهم الحقوقيون بشكل عام،
في مقابل ما بات يعرف بأصحاب الحل الأمني أو الاستئصاليين كما يحلو للبعض تسميتهم؛
وهم ثلة من قدامى رجال الأمن الذين تربى على عقليتهم شقيق الرئيس ماهر الأسد. ويتصدر
هؤلاء المستشارين هشام بختيار (شيعي دمشقي) واللواء (حافظ
مخلوف) ابن عدنان مخلوف رئيس الحرس الجمهوري.
وبعد لقاء عدد من العلماء والفعاليات مع رئيس الجمهورية
بجلسة اتَّسمت بالمصارحة التامة من قِبَل العلماء لم تكن لها سابقة من قبل، طرح
عليه العلماء مطالب الشعب، وأصروا على ضرورة معالجة القضايا المعقدة وعلى رأسها
المسألة الأمنية التي يرونها لب العقدة وأم المشاكل، ثم طرحوا تعقيدات المسألة
الطائفية وما تستتبعها من مشاكل، ووصلوا إلى أن الرئيس يفصله عن الشعب مسافات
كبيرة، وأنه ربما لم يسمع ببعض هذه المشاكل من قَبْل وأن الموضوع من رؤيته ربما لا
يتجاوز متطلبات معيشية أو حاجيات اقتصادية، وأن المشاكل الاقتصادية في طريقها للحل
مع إعطاء الدولة مهلة كافية لاستيفاء الدراسات والمناقشات. أما
في ما يتعلق بالمواضيع الشائكة فقد طلب منهم إمهال الدولة قليلاً لاستكمال بعض
الإجراءات (غير المفسرة) وربما
يعتقد المراقبون أن الرجل غير ممسك بكل مفاصل المسألة الأمنية وأنه ربما في إطار
معالجتها.
ووعد أن القبضة الأمنية حتماً ستخف وكان في نبرته لمن
قابلهم شيء من الاستجداء ومحاولة الاسترضاء؛ ربما لامتصاص النقمة التي لمسها فيهم،
وطلب منهم المساعدة في محاولة التهدئة الشعبية ظناً منه أن العلماء هم الذين
أخرجوا المظاهرات من المساجد، والحقيقة أن العلماء لم يستطيعوا أن ينقلوا تلك
الثقة للناس وجاء يوم الجمعة 2011/4/15م وخرجت المظاهرات غير مبالية بما جاء في
لقاء الفعاليات مع رئيس الجمهورية لترى شيئاً مما وعد به حتى الآن؛ حيث لم يلمسوا
حضوراً أمنياً ذا قيمة؛ وإنما مظاهر عادية لم تتعرض للمتظاهرين؛ بل تُركَت الجموع
لتجوب شوارع سورية بهدوء وإن خرجت عن السيطرة في بعض الحالات وأسقطت تمثالاً
للبائد حافظ الأسد؛ وهي جريمة لا تقل عقوبة مرتكبها عن الإعدام في وقت سابق.
رؤية مستقبلية :
يرى المتابعون للأحداث أن أمامنا ثلاثة سيناريوهات محتملة
لسير الأحداث القادمة :
أولاً: أن تستمر التظاهرات بالوتيرة نفسها أو تزداد
زيادة مطردة وينضم إليها أهالي العاصمة (وبدون انضمام أهلها لاتسقط حكومة)، وقد
بدت إرهاصات ذلك في جامعة دمشق ومسجد الشيخ عبد الكريم الرفاعي، ولو تطور ذلك
فسيجد النظام نفسه أمام سيل بشري كبير هادر يصعب عليه مواجهته؛ ولذا يعتقد
المراقبون ومن خلال متابعتهم لشخصية الرئيس المهلهلة أن يتنازل عن الحكم ويغادر
البلاد إلى بريطانيا التي تأكدنا أنها أعطته جنسيتها نظراً لزواجه من بريطانية من
أصل سوري منذ 4 سنوات؛ علماً بأن ذلك مخالف للدستور السوري
الذي ينص على أن رئيس الجمهورية يجب أن يحمل الجنسية السورية فقط.
ثانياً: أن يفشل الحل السلمي ويسيطر الاستئصاليون
على الحكم ويعيدوا للأذهان شيئاً من مآسي حماه في قمع الشعب ضاربين بذلك عرض
الحائط بكل المواثيق والقيم الدولية متكئين على علاقتهم القوية بإيران كقوة
إقليمية قادرة على حمايتهم في المحافل الدولية مستغلة علاقاتها الجيدة بالصين
وروسيا. ولكن المتابعين يستبعدون هذا الاحتمال لسبب
واحد فقط؛ وهو وجود تركيا لاعباً إقليمياً ودولةً لها حدود مع سورية، ويهمُّها ألا
يصاب الاستقرار في سورية بأية هزة بل يعتقد بعض المتفائلين أن تركيا ربما لن تقف
مكتوفة الأيدي في المسالة السورية.
ثالثاً: أن يستجيب الرئيس لمطالب الجماهير تحت زيادة
الضغط الاجتماعي ويقوم باصلاحات جدية: من إفراج عن المعتقلين، وأن يصدر قانون وئام
عام (سمعنا عنه منذ 10 أعوام) يقضي
بعودة المهجرين. وهذه الممارسات - إن
جرت - ربما ستخفف النقمة الشعبية عند الناس، وربما يقبلون به
مرحلة انتقالية ريثما تنتهي ولايته ثم يمضي لحاله وهذا السيناريو ربما هو الأكثر
قبولاً لدى الناس؛ على الأقل في المرحلة الحالية تجنباً لأي حالة من الفراغ قد تجر
صعوبات على البلد في ظل المسألة الطائفية التي افتُعلت من قِبَل أبناء الطائفة
وغيرهم من الأجهزة الأمنية الذين سيبقون في الشارع لو زال النظام، وسيسببون حرجاً
لكل جديد على الحكم فحبذا.
[1] الكلمة هي: الأسد أسير طائفته.