تثيرني حالة التقمص التي يمارسها حسن نصر الله في خطاباته الحماسية التي يلقيها على
طلبة المدارس المصطفين على الكراسي أمام طلَّته البهية عبر (الشاشات الرقمية)؛ أعني
بهم حلفاءه الذين تبعث حالهم على الشفقة؛ إذ يجتمعون لمشاهدة شاشة ضخمة وكأنهم في
(دار سينما حزب الله)، وهي حالة تبعث على الدهشة ولا أعلم لها سابقة أو لاحقة في
عالم السياسة، ويزداد العجب عندما يُلقي نصر الله إحدى (قفشاته) المعهودة فينطلق
(المصطفون) في الاهتزاز من الضحك.
إن كان هؤلاء لن يَشرُفوا بملاقاة الزعيم وجهاً لوجه فما الذي يكبِّدهم عناء الحضور
والاصطفاف «المدرسي» أمام شاشة كبيرة، كان يكفي «السيد» أن يبعث لهم بخطابه عبر
اليوتيوب،
أو
الفيسبوك،
أو أي فضائية يختارها أو حتى على الفاكس.
لقد تسببت الثورات العربية المتلاحقة في اضطرار حلفاء حزب الله إلى الاصطفاف كثيراً
هذه الأيام لسماع «السيد حسن» يعلق على الأحداث ويصدر توجيهاته وتحليلاته، وفي كل
مرة يضيف عَلَماً جديداً إلى الصورة المعلَّقة في خلفيته، لتُصبح في الأخير خمسة
أعلام: تونس، مصر، ليبيا، البحرين، اليمن.
دققتُ النظر في باقة الأعلام تلك بحثاً عن أي أثر لعلم (سوري) أو (إيراني) أو
(عراقي) فلم أجد، فيبدو أن نصر الله لا يعترف بوجود ثورات أو احتجاجات في هاتيك
الدول؛ فالثورة في مفهومه تمشي الهوينى وتمر على كافة الدول العربية ثم تقفز قفزاً
فوق دمشق وطهران وبغداد. ومن يتأمل في شريط الأخبار على قناة المنار فسوف يجد مصطلح
الثورة والانتفاضة يُستخدَم في الدول العربية الخمس وغيرها. أما ما يحدث في سوريا
فهو (أحداث درعا).
يبدو أن نصر الله صدق فعلاً في ما يحاول الإيحاء به منذ سنوات طويلة: أنه قد صار
مصدر إلهام للحركات الاحتجاجية والتيارات الإسلامية في العالم العربي، وهو يقوم
بإجراء عملية اصطفاف وهمية للثائرين والتيارات الإسلامية والقوى الوطنية على طريقة
(صديق صديقي صديقٌ لي) من أجل تكوين المشهد النهائي؛ حيث يتبدَّى حزب الله في طليعة
قوى المقاومة في العالم العربي.
إبان الثورة المصرية جمع نصر الله حلفاءه يوم السابع من فبراير الماضي في مهرجان
خطابي حاشد تحت شعار (دعم عروبة مصر، وتعزيز نهج المقاومة في المنطقة)، وبعد أن ترك
الجميع يتكلمون، ختم نصر الله المهرجان بكلمته التي وجَّهها إلى المصريين قائلاً:
«يشهد الله أني أتلهف لو أستطيع أن أكون معكم لأقدِّم دمي وروحي، من أجل هذه
الأهداف الشريفة والنبيلة»، ثم أثلج صدور المصريين جميعاً وطمأنهم: «نضع كل
إمكاناتنا بتصرف شعب مصر وشبابها»[1].
يغفل «السيد حسن» (أو يتغافل) عن حقيقة مهمة وهي أن الثـورة في مصـر لا تحتـاج إلـى
استخبارات حـزب اللـه ولا ميلشياته ولا حيله الالتفافية ومكائده، بل هي ثورة علنية
سـلمية لا ترفع سلاحاً ولا تحيك مكائد، وهو نمط من الثورة لا يعلمه ولا يتقنه حسن
نصر الله وكل من تخرَّج في مدرسة الحرس الثوري الإيراني؛ كل ما في الأمر أن «السيد»
يحاول جاهداً أن يغسل عار سياساته الطائفية البغيضة تجاه سُنة لبنان، في طُهر
الثورات العربية، وهو نوع من «غسيل السياسات» لا يقل جرماً عن «غسيل الأموال».
إن الثورات العربية لا تعرف نهج «المقاومة الارتكازية» الذي يتَّبعه حزب الله في
لبنان؛ حيث يقف «الفيل» على «العصا» بطريقة بهلوانية؛ وأعني بذلك الاتكاء على
«مزارع شبعا» من أجل تمرير النفوذ الإيراني في المنطقة.
في مهرجان آخر نظَّمه الحزب لدعم الاحتجاجات الطائفية في البحرين تحت شعار مضلل هو
(دعم الثورات العربية)، انتقد نصر الله إرسال قوات (درع الجزيرة) وقال: «لقد تم
إرسال الجيوش إلى البحرين للدفاع عن نظام غير مهدَّد بالسقوط؛ إذ إن المعارضة هناك
سلمية بحتة»، ثم أكد أن ما يحدث في البحرين لا علاقة له بالطائفية فقال: «ما يجري
في البحرين ليس تحركاً طائفياً ومذهبياً؛ وإنما القول بذلك هو سلاح يستخدمه العاجز
في مواجهة حق أي إنسان له حق، وهذا لن ينال من إرادة الثائرين في البحرين»، ثم توجه
بوصيته إلى (الثائرين البحارنة) ألا يتأثروا بأصوات الطائفيين وأن يصبروا ويصابروا
ويثبتوا في الدفاع عن حقوقهم: «... ودماؤكم وجراحكم ستهزم الظالمين والطواغيت
وتجبرهم على الاعتراف بحقوقكم المشروعة»[2].
إن التحليل الأوَّلي للتركيبة الاجتماعية والدينية والثقافية للثائرين في دول عربية
مثل: تونس، أو مصر، أو ليبيا، أو اليمن... إلخ، تعطي نتيجة بالغة الأهمية؛ وهي:
أنهم لا ينتمون إلى طائفة أو شريحة أو عرق بعينه، بل هم يمثلون كافة شرائح المجتمع
وطوائفه وقِطاعاته، من أجل ذلك كانت تسميتها بأنها «ثورة» تسميةً صادقةً وصحيحةً.
أما ما يحدث في البحرين فهو احتجاجات طائفية بامتياز دون شك أو ريب؛ وذلك لمجموعة
أسباب:
أوَّلها:
أن الشعب منقسم إلى شقَّين بالنسبة لهذه الاحتجاجات؛ فغالبية الطائفة الشيعية
تؤيدها، وغالبية الطائفة السنية ترفضها، وقد عبَّرت الأخيرة عن موقفها من خلال
تظاهرة حاشدة شارك فيها عشرات الألوف.
ثانيها:
السوابق التاريخية في البحرين تكشف أن هذا النمط من الاحتجاجات يتكرر بصورة دورية
من قِبَل القوى الشيعية الرئيسية؛ فمنذ حوالي 15 عاماً اندلعت أحداث مشابهة أدرجتها
الذاكرة الشيعية تحت اسم (انتفاضة التسعينات) وقد استمرت ما يقرب من أربع سنوات،
تخللها ارتكاب كثير من ممارسات العنف مثل تفجير أنابيب الغاز، وإشعال الحرائق،
وإلقاء زجاجات الملوتوف بله العمليات التخريبية التي نفذها (حزب الله البحريني).
ثالثها:
أن الحديث عن اختراقات خارجية تتجلى تأثيراتها على الأحداث في البحرين ليس محض
افتراء، بل هو حقيقة ثابتة لا تقبل الشك، وهذا واقع مستمر منذ اندلاع الثورة
الإيرانية عام 1979م؛ حيث تعرَّضت البحرين لسلسلة متتابعة من المؤامرات الإيرانية
التي تهدد سلامة أراضيها واستقلالها، وما يُرصَد من مواقف للقوى السياسية الشيعية
من إيران لا يُعطي أي طمأنينة حول مدى التغلغل الإيراني في الواقع الشيعي البحريني،
وسنذكر بعض الأمثلة التي من شأنها تكوين صورة دقيقة عن الموقف الشيعي البحريني من
إيران، مع ملاحظة أن هذه الأمثلة تغطي أغلب التيارات السياسية الشيعية:
•
في محاضرة ألقاها رجل الدين المعروف عبد الله الغريفي بعنوان (الإمام الخميني
والمشروع السياسي) قال: «بعد هذه القراءة لمكوِّنات المشروع السِّياسي الذي يعتمد
ولاية الفقيه، هل تصحُّ تلك الدعاوى التي تتهم نظام ولاية الفقيه بأنَّه نظامٌ
دكتاتوري؟ وحتــى أحــدث الأنظمة الديمقراطية في العالم لا تملك المميزات المتقدمة
التي يتوفَّر عليها نظام ولاية الفقيه»[3].
•
في خطبة الجمعة بمسجد فاطمة بـ «سترة» خطب الشيخ حيدر الستري النائب البرلماني عن
جمعية الوفاق، فقال: «رأينا في عصرنا كيف حققت الجمهورية الإسلامية في إيران
المعجزات وانتصرت على دول العالم الكبرى مجتمعة. انتصرت الجمهورية الإسلامية في
نشأتها إبان الحرب التي أشعلها النظام البعثي البائد في العراق... حققت انتصارها
مؤخراً بعد عملية انتخابات تاريخية بفضل مخزون القوة الذي تمتلكه قيادة الولي
الفقيه والتفاف المؤمنين حولها، وقد اتضح للعالم أن ولاية الفقيه هي الهدف الأول
الذي توجِّه نحوه الدول الكبرى سلاحها وسهامها وكافة إمكاناتها الإعلامية
والاقتصادية وتحالفاتها السياسية».
•
وفي موقع الولاية القريب من تيار الوفاء، تبدو في الصفحة الرئيسية صورة لرجل الدين
المعروف عبد الجليل المقداد، وبجوارها عبارة منسوبة إليه يقول فيها: «رَبْط العمل
السياسي بالولي الفقيه هو حكم شرعي»[4].
•
وكتب الصحفي الشيعي فريد أحمد حسن في صحيفة الوقت، ينتقد ظاهرة التعلق المفرط
بخامنئي، فقال: «يعتبر البعض منا هنا في البحرين السيد الخامنائي مقدَّساً فيعلِّق
صورته في المآتم وربما المساجد، ولا يقبل من أحد أن ينتقده أو حتى يناقش آراءه
ناسياً أنه رجل سياسة إلى جانب كونه عالم دين وناسياً أنه شخصية عامة وغير مقدسة»[5].
•
الناشط السياسي كريم المحروس المتحدث السابق باسم الجبهة الإسلامية، يقول: «من ينفي
القول بأن جزءاً كبيراً من مجتمعنا يميل كل الميل بشعوره وعواطفه إلى الثورة
الإسلامية في إيران وإلى حزب الله في لبنان عقائدياً وسياسياً وربما حزبيا؛ فهو ممن
يتهرب عن عرض الحقائق كما هي... لماذا إذن لا نعترف بالحقائق حتى تنطبق ألفاظنا
تماماً على معانيها؛ فنسمي الأشياء بأسمائها بعيداً عن التورية السياسية وغيرها من
آلات الغموض والتقية»[6].
نختم هذه المقالة بإعادة عبارات المحروس مرة أخرى، وهي: لماذا لا نعترف بالحقائق
ونسمي الأشياء بأسمائها بعيداً عن التقية والتورية؟ سؤالاً للعقلاء.
:: البيان تنشر - مـلـف خـاص- (الـخـطـر
الإيـرانـي يـتـمـدد)
[1]
صحيفة
الخليج:
8/2/2011م.
[2]
بي
بي
سي:
19/3/2011م.
[3]
موقع
الغريفي
على
الإنترنت.
[4]
http://www.welaya.net/page3-4.php
[5]
مقال:
ولائي
للخمنائي،
12/1/2010م.
[6]
كريم
المحروس،
مقال:
عشر
بحرانيات
من
وحي
العشرة
ج8،
وجحد
المفسدون
بولاءنا
ظلماً
وعلواً،
شبكة
النعيم
الثقافية:
15/3/2005م