• - الموافق2024/04/20م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى

وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى

 لم تكن الانتصارات التي حققتها بعض الشعوب العربية في ثوراتها الأخيرة خاصة في تونس ومصر، بتدبير الثائرين، أو بإرادة الشعوب، بل كل من ينظـر إلى يوميات الثورة في البلدين يجد نفسه أمام سلسلة متتابعة من المواقف والأحداث غير المنطقية أدت إلى نتائج غير محسوبة أو متوقعة، وفي منعطفات كثيرة كادت الثورة أن تُخفق لولا أن الله - سبحانه وتعالى - شاء أن تنتصر الشعوب وأن يرتفع الظلم عن كواهلها، نعم، كان الشعب يريد ولكن الله كان وما يزال يفعل ما يريد.

نتناول في هذه المقالة أهم الشواهد الدالة على التدبير الإلهي المتمثلة في إبطال عمل الظالمين وكيدهم ومكرهم، بل وقلبه عليهم وتحويله إلى انتصارات للشعوب، ونحن لا نتكلم عن مجموعة من الهواة يواجهون للمرة الأولى احتجاجات شعبية، بل نحن أمام مؤسسات بالغة الاحتراف والإتقان تتمتع بمستويات متقدمة من التدريب والخبرة، تواجه مجموعات شبابية أغلبهم لم يسبق لهم ممارسة أي نشاط سياسي (نظرياً أو عملياً)، بعبارة أخرى: نحن أمام طرف يعلم جيداً ما يفعل، وطرف مقابل بالكاد يدرك أبعاد ما يفعله.

لعل من أهم مواطن التوفيق في الثورات العربية، هو تتابعها العجيب على النحو المعروف: (تونس، مصر، ليبيا)، ولنا أن نتخيل وقوع الثورات وَفْق ترتيب مختلف؛ فقد كانت الحركات الشبابية في مصر تمارس أعمالاً احتجاجية واسعة النطاق منذ سنوات دون أن تتوفر لها قدرة على الحسم أو رؤية للمستقبل، فكان هناك إعداد وتنظيم دون رؤية للنهاية. أما في تونس فقد اندلعت الثورة بطريقة عشوائية دون ترتيب مسبق واندفعت بقوة فائقة إلى الأمام لترسم لمن يلحق بها خريطة طريق تبدأ بـ «البو عزيزي» وتنتهي بالمشهد الشهير لهروب بن علي. ومن ثَمَّ وضحت الرؤية أمام الثوار في مصر فتحدد موعد 25 يناير بعد أن لمحوا ضوءاً في نهاية النفق المظلم، وعلى المنوال نفسه لو اندلعت الثورة في ليبيا أولاً، لكانت احتمالات انتقالها إلى تونس ومصر في الحدود الدنيا، بالنظر إلى طريقة القذافي «الجنونية» في حرق الدولة من أجل زعيمها.

من شواهد التوفيق الأخرى، قضية الحرية الإعلامية، فنحن أمام نموذجين متناقضين من حيث مستوى الحرية الإعلامية: تونس، ومصر، في الأولى اعتُبِر أن تكميم الأفواه والتضييق على الآراء وخنقها أحد الأسباب الرئيسية للاحتقان في تونس، بينما في المقابل كانت الأجواء في مصر أكثر حرية حتى أنه أصبح معتاداً تعرُّض الرئيس وأركان نظامه للانتقادات الحادة التي تصل إلى درجة السب، مع كشف مَواطن الفساد ورجاله، فكان من المنطقي - قياساً على الأوضاع التونسية - ألا يحدث احتقان.

إن ما حدث في مصر كان مفاجئاً؛ فقد تسببت هذه الحرية في تداول حجم هائل من المعلومات بين الناس حول فساد الحكم، وهو ما زاد من مستويات الاحتقان الشعبي، وفسحت الحريةُ المتاحة المجالَ واسعاً لتبادل الآراء والانتقادات الحادة حول أداء الحكومة وأجهزة النظام؛ إذن الاحتقان قائم سواء كانت هناك حرية إعلامية أو كبت إعلامي، بل ما يثير العجب أنه في كلا الحالتين يصبح «الكبت» أو «الحرية» سبباً مباشراً في الاحتقان.

ونسرد في ما يلي أبرز الشواهد الدالة على تدبير الله - عز وجل - وإرادته في خذلان الظالمين وإبطال كيدهم، مع الاعتماد على أحداث الثورة المصرية كنموذج لذلك:

 الغشاوة التي تكسو العين فلا يرى صاحبها ما يُحدق به: وتمثل ذلك في وضوح ما يخطط له الثوار ويدبِّرون له، ولم يكن هناك عمل في الخفاء؛ بل السمة الرئيسة هنا أن الاحتجاجات تحمل شعار «انشر تؤجر»، ومع ذلك لم يستفدْ النظام من هذا الإعلان قيد أُنمُلة، بل أصبحت العلانية نقطة قوة لأصحابها، وهذا خلاف ما هو معهود في الثورات والأعمال الاحتجاجية التي تستند في نجاحها بالدرجة الأولى على سرِّيتها المطلقة.

 الإستراتيجية التي اتبعها حبيب العادلي في مواجهة الاحتجاجات جاءت بنتائج عكسية بنسبة مائة بالمائة، وهذه بعض الأمثلة:

- كان الأسلوب المتبَع في بداية التظاهرات يوم 25 يناير بعد الظهر هو «الاحتواء الهادئ»؛ يعني: منع الانتشار دون مواجهات مباشرة استناداً إلى أنها «مظاهرة وتعدٍّ»، وكان هذا بالضبط ما يحتاجه المتظاهرون الذين ضموا بين صفوفهم كثيرين ممن هم على حرفٍ وخوف، فكان الهدوء الأولي مناسباً لهم لالتقاط الأنفاس واكتساب الثقة والقدرة على الاستمرار.

 بعد اكتساب الثقة انتقلت إستراتيجية العادلي إلى أسلوب القمع المباشر، ليزيد من ثبات وصمود المتظاهرين ويبدأ كسر حاجز الخوف حيث تصبح كل ساعة تمر وهم لا يزالون في الميدان دليلا واضحا على اختلال ميزان القوى لصالحهم.

 بعد ذلك بدأت عمليات القنص والقتل لتكتسب الثورة زخما شديدا من خلال تداول مصطلحات: الشهداء، التضحية، الفداء، الوطنية.. إلخ، ويضاف عنصر «الانتقام» كدافع جديد يجلب مزيدا من الثوار.

 اتبع وزير الداخلية (حبيب العادلي) إستراتيجية «الفراغ الأمني» لإرباك الخطوط الخلفية للثوار، وهو ما حدث بالفعل فترة من الوقت؛ إلا أن بروز ظاهرة «اللجان الشعبية» المقتبسة من التجربة التونسية، أدى إلى اكتساب الثوار بُعْداً جديداً؛ حيث ازداد تلاحم الجماهير معهم كما ارتفعت قدراتهم التنظمية والإدارية وباتوا يمثلون «ظاهرة وطنية» غير مسبوقة في المجتمع المصري، وهذا كله جعل الشعب يشعر بالانتماء المتبادل بينه وبين الثوار.

 قدَّمت سياسات النظام روافعَ قوية للثورة نقلتها من مرحلة إلى أخرى كلما أوشك وقودها على النفاذ، من أمثلة ذلك: بعد خطاب حسني مبارك الثاني الذي صيغ بلغة عاطفية لاستمالة الناس، تعرَّضت الثورة إلى هزة حقيقية؛ حيث اقتنع كثيرون بأن الاحتجاجات بلغت نهاية مقبولة، وأنه ليس هناك داع للاستمرار، ولكن ما إن جاء اليوم التالي حتى اندلعت أحداث «موقعة الجمل» الشهيرة  بتخطيط من أقطاب النظام، فعادت الثورة لتشتعل من جديد مع إصرارٍ أكبرَ على المواصلة حتى النهاية، كما اكتسب الجمهور «حصانة» ضد خطابات مبارك التي تَلَت ذلك.

من روافع الثورة التي قدَّمها النظام أيضاً، اعتقاله للناشط «وائل غنيم» حتى أصبح إطلاق سراحه مطلباً أساسياً للثوار، ومع تردُّد اسمه على ألسنة المسؤولين انتهاءً برئيس الوزراء أحمد شفيق، تحول وائل غنيم إلى «أيقونة» للثورة، واختار النظام توقيتاً عجيباً لإطلاق سراحه، وهو ليلة الثلاثاء 8 فبراير؛ حيث كان مقرراً تنظيم تظاهرة مليونية نهار الثلاثاء، وكانت الثورة قد وصلت إلى مرحلة غامضة من الجمود وخشي كثيرون من تحوُّل المظاهرات إلى حدث عادي لا يشكِّل ضغطاً على النظام.

 بعد الإفراج عنه مباشرة ظهر غنيم في برنامج «العاشرة مساءً» ليبكي في موقف مؤثر وهو يشاهد صور بعض زملائه من الذين قُتِلوا في بداية الأحداث، ثم لم يتمالك نفسه وانصرف بطريقة تلقائية من البرنامج؛ أدى ذلك إلى تأثُّر مئات الألوف من المشاهدين الذين عبَّروا عن غضبهم بالمشاركة في تظاهرات اليوم التالي الذي وصف بأنه أشد الأيام ازدحاماً بالمتظاهرين منذ بدء الثورة. ومنذ ذلك اليوم تحولت الأيام كلها إلى تظاهرات مليونية حتى يوم التنحي 11/2/2011م.

 الحصار الإعلامي لفعاليات الثورة أدى إلى نتائج عكسية تماماً، فقد أدى حجب مواقع التواصل الاجتماعي ثم قطع الإنترنت إلى نزول أعداد متزايدة من الشباب إلى الشارع بعد أن كانوا جالسين أمام حواسيبهم طيلة اليوم، كما أدت محاولات حجب قناة الجزيرة وقَطْع بثِّها على النايل سات إلى شعور الناس بأن ما تبثه القناة مختلف عن بقية القنوات، فأقبل كثيرون عليها متتبعين تردُّداتها الجديدة، كذلك أدى غلق مكتبها إلى ظهورِ نمط جديد من المتابعة الإعلامية، وهو الاعتماد بصورة مباشرة على اتصالات شهود العيان من موقع الحدث وهو ما جعل الثوار ينصبون شاشات كبيرة في وسط ميدان التحرير لبثِّ إرسال القناة، وهذا الأسلوب اقتبسته فضائيات أخرى من الجزيرة ولا يزال متبعاً حتى الآن في تغطية الثورة الليبية.

 في محاولة لامتصاص الغضب الجماهيري قام حسني مبارك (الرئيس المخلوع) باتخاذ خطوات «إصلاحية» لإرضاء الشعب؛ تمثلت في إقالة العادلي، وأحمد عز أمين تنظيم الحزب الوطني الحاكم، ووزراء السياحة والتجارة والإسكان، والتحفظ على أموالهم. هذه الخطوة كان المقصود منها تهدئة الناس، ولكنها كانت من «الرعونة» بحيث إنها اعتُبرَت اعترافاً مباشراً من النظام بأنه والغ في الفساد، وهو ما زاد الناس إصرار على إسقاطه.

 إنه خذلان وأي خذلان، عندما يتسم كل ما يقوم به المرء بالإخفاق والبطلان، ينشد نصراً فيلقى هزيمة، ويقصد أمناً فيعاني خوفاً.

كانت الشعوب في تونس ومصر وليبيا تعيش في ظل القهر عقوداً متتالية، ولكن عندما أراد الله - عز وجل - أن يرتفع الظلم والقهر يسَّر لعباده من السبل والوسائل ما حققوا به ذلك على أرض الواقع {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْـمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 17] .

أعلى