• - الموافق2024/04/25م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
ثماني سنوات عجاف...أنتــهى زمــانهــا أم آن أوانهـــا؟

ثماني سنوات عجاف...أنتــهى زمــانهــا أم آن أوانهـــا؟

 تمرُّ علينا الذكرى الثامنة للاحتلال (الإنكلو - أمريكي) للعراق، ترافقه جيوش ثلاثين دولة بعدَّتهم وعتادهم، تحت ذريعة نزع أسلحة الدمار الشامل. هذه الذريعة الأكذوبة التي لم يجد مُطْلقُوها ما يؤيِّدها، وإن كانوا متأكدين من عدم وجودها أساساً، وإلا لَـمَا اضطر وزير خارجية الولايات المتحدة (كولن باول) للكذب أمام مجلس الأمن بشأن وجودها، ومن ثَمَّ بعد انكشاف عن هذه الكذبة عالمياً تحول شعار احتلال العراق إلى تحريره! ثم تلاحقت الأكاذيب والمبررات حتى وصل الأمر إلى نشر الديمقراطية، ليس في العراق فحسب، وإنما في المنطقة من خلال تجربتها في العراق، كل هذا تحت ذريعة أكبر هي تطبيق القانون الدولي، هذا القانون الذي يُنتهَك كلَّ يوم من قِبَل الكيان الصهيوني وأمريكا نفسها ومن شارك معها في احتلال العراق بشكل مباشر، من خلال إرسالها الجيوش أو الدعم اللوجستي للجيوش الغازية وللسياسة (الإنكلو - أمريكية)، التي رفضت كل النقاشات التي جرت في قاعات ودهاليز مجلس الأمن، والتي استمرت شهوراً وهي تحاول الحصول على تفويض أممي باجتياح العراق، من خلال عمليات التهديد والابتزاز السياسي؛ إلا أن كل جهودها باءت بالفشل.

ثم وقع الاحتلال، وصدر عن  مجلس الأمن القرار رقم 1483 عام 2003م، أناط بموجبه  إدارة العراق بأمريكا وبريطانيا كونهما دولتي احتلال، ووضع على عاتقهما مسؤولية قانونية، ليس من حقه أن يتخذ أي قرار من شأنه التأثير على مستقبل العراق باعتباره بلداً محتلاً. ولكن ما صدر من قرارات اتخذها ما يسمى الحاكم المدني بول بريمر، كانت مخالِفة لكل القوانين الدولية، نذكر منها على سبيل الذكر لا الحصر: حلَّ وزارة الدفاع والداخلية والأمن والمخابرات والإعلام مع تشكيل المحكمة الخاصة، ودمج الميليشيات بالوزارات الأمنية ومَنْحِهم الرتب العالية، وتشكيل مجلس الحكم بصيغة طائفية، وإصداره قانونَ إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية، الذي أصبح هو المعيار في كتابة الدستور لاحقاً بكل ما فيه من عيوب، وغيرها كثير من القرارات التي ما زلنا ندفع ثمنها.

لأن العراق في خطر

يُعَدُّ العراق أخطر بلد في العالم للسنة الثالثة على التوالي في تصنيف لبلدان العالم حول استتباب الأمن والسلام فيها، ويحتل من بين 180 دولة على مستوى العالم المركز الثالث لأكثر الدول فساداً في العالم، بعد الصومال وميانمار. أما بغداد فتقع في أسفل قائمة مدن العالم؛ على أنها أسوأ مدينة من حيث جودةُ ومستوى المعيشة عام 2010م.

وبلغ عدد ضحايا الغزو الأمريكي للعراق حتى شهر آذار  2009م  2.350.000 عراقي، يضاف إليهم 34.313 قتيل خلال عام 2009م، وأكثر من 4500 منذ مطلع عام 2010م. وبلغ عدد المهجَّرين في داخل البلد 2.77 مليون عراقي و 3 ملايين إلى خارجه، منهم 20 ألف طبيب وهو ما يشكل حوالي ثلث أطباء العراق. ويمثل العراقيون الجنسية الأكبر من حيث عددُ طلبات اللجوء في دول العالم؛ حيث وصلت إلى أكثر من 13 ألفاً خلال النصف الأول من هذا العام فقط، وهنالك 8 ملايين عراقي يعانون من الفقر الغذائي، و (4) ملايين هم تحت خط الفقر، وإن نسبة 70 % من العراقيين تفتقر إلى ماء الشرب النظيف، ونسبة 43 % تعيش على أقل من دولار واحد في اليوم الواحد، وثلث السكان يحتاجون إلى مساعدات طارئة.

حكومات ناقصة الشرعية:

في 28 حزيران 2004م غادر بول بريمر العراق على متن إحدى الطائرات العسكرية، وتسلَّم إياد علاوي رئاسة الحكومة لما سُمِّيَت بالمرحلة الانتقالية، وهو الذي ارتُكبَت على يديه جريمة الفلوجة، وعمل خلال فترة حكمه على الإعداد للانتخابات، التي جرت في 31/1/2005م وقاطعها العرب السُّنة بكل أطيافهم ومكوناتهم السياسية والعسكرية، وفازت بها قائمة الائتلاف الشيعي التي شكلت الحكومة برئاسة إبراهيم الجعفري مؤسس القتل الطائفي، وجرى خلال فترة حكمه كتابة الدستور والاستفتاء عليه، وقد حصل على الموافقة بعد تداعيات الساعات الأخيرة وموافقة الحزب الإسلامي عليه. وبسبب ذلك وما شاب الاستفتاء من تزوير فقد عجزت ثلاث محافظات عن الاعتراض عليه بنسبة ثلثي الأصوات، فشُرِّع الدستور بكل ما تضمَّنه من مغالطات ونقاط ضعف وتفرقة وانشقاق وتأزيم للموافق، أكثر مما يدعو إلى الوحدة والانسجام. وجرت في فترة حكمه انتخابات شارك فيها أهل السُّنة والجماعة دون معارضة من جميع الفصائل العسكرية بشكل علني، أو بشكل ضمني من خلال عدم إبداء الرأي الواضح فيها، جاء ذلك بعد الجرائم الكثيرة الفظيعة التي ارتُكبَت خلال فترة حكم الجعفري.

ويبقى الاعتقال الطائفي في الليل - وهو المصدر الرئيسي للجثث مجهولة الهوية - سمة مهمة من سمات حكومة الجعفري والمالكي، وسميت تلك المرحلة بمرحلة خفافيش الليل التي كانت وما زالت مستمرة من قِبَل الميليشيات التي جرى دمجها في القوات المسلحة الجديدة وَفْقَ قانون بريمر المرقم بـ 91، وما زال أكثر مَنِ اعتُقِل خلال تلك الفترة مفقوداً، دون معرفة حاله بين الاعتقال في السجون السرية أو بين الجثث مجهولة الهوية، بينما عُثِر على عدد كبير من هؤلاء المعتقلين بين الجثث؛ سواء في الطب العدلي أو في حاويات الأوساخ أو على الأنهار المتروكة، وبشكل خاص في محافظة واسط قرب الحدود الإيرانية. فكانت مشاركة أهل السُّنة والجماعة والصمت من قِبَل جميع الفصائل؛ بحجة التقليل من هذه الانتهاكات بعد أن وُضِع اللوم عليها بسبب عدم المشاركة في الانتخابات السابقة، وهذا الاتهام غير صحيح؛ لأن المقاطعة - كما سنبين لاحقاً - كانت عامة.

وفاز الائتلاف الشيعي بهذه الانتخابات، التي جرى فيها استمرار الاصطفاف الطائفي الديني والعرقي، وتحت ضغوط أمريكية قَبِل العرب السُّنة بنتائجها رغم كل ما شابها من تزوير فاضح، وتم على أثرها اختيار المالكي لرئاسة الوزراء بدل الجعفري الذي تم رفضه بشكل كامل من قِبَل العرب السُّنة والأكراد، وإن اختلفت وجهة نظر كلٍّ منهما في ذلك؛ فالعرب السُّنة كان اعتراضهم على الجرائم الكثيرة التي ارتكبها هو وقواته وعلى سماحه للمليشيات بالعمل بحرية كاملة، بينما كان رفض الأكراد له بسبب أنه لم يمكِّنهم من مدينة كركوك.

ومنذ خمس سنوات والمالكي يتربع على رأس هرم السلطة، وعلى الرغم من مشاركة العرب السُّنة في هذه الانتخابات وفي الحكومة إلا أن الجرائم ضدهم من قِبَل الحكومة والميليشيات الطائفية أمر لا يمكن تصديقه أو تصوُّره، بسبب حجم تلك الانتهاكات: من عمليات قتل وتهجير واختطاف واعتقال، كلها تجري على أسس طائفية، الأمر الذي أثبت فشل جدوى المشاركة في الانتخابات، وبشكل خاص الأصوات التي خرجت ضد جبهة التوافق؛ فقد جرت محاكمتهم على سوء أدائهم في الانتخابات الأخيرة، ولم يحصلوا إلا على خمـس مقاعد من بين 325 مقعداً عدد مقاعد مجلس النـواب. وفي زمن المالكـي ارتُكبَـت جـرائم أبشـع مـن ذلك؛ مـن خـلال سـرقة ما يقارب 300 مليار دولار، هي ميـزانية العراق الرسمية خلال السنوات الأربع الماضية، فظل الوضع على ما هو عليه: من انقطاع مستمر للكهرباء، وسوء الخدمات الصحية والبلدية والزراعية، والفساد في جميع وزارات الحكومة التي زادت عن ثلاثين وزارة.

وتمثل الميليشيات الشيعية المرتبطة بالأحزاب الحاكمة حجر الزاوية في العملية السياسية، بل هي الركن الأساسي لها خلال هذه السنوات الثمانية من زمن الاحتلال؛ فكانت هي اليد الضاربة لكل معارض ومنتقد لتلك الأحزاب، إضافة إلى استهدافها كبار الضباط والقادة من الجيش العراقي السابق وبخاصة الطيارين منهم، ولا يحتاج المرء كثيراً من الذكاء ليعرف أن هذه العمليات كانت تتم لصالح إيران، وإذا كان هذا على المستوى النخبوي فإن عامة الشعب كان لهم النصيب الأكبر من خلال العمليات العشوائية وما أكثرها! وجُلُّ الأعداد من ضحايا هذه الميليشيات وبشكل خاص بعد تفجير سامِراء، هذه الأكذوبة التي مع مرور أكثر من خمس سنوات عليها وما جرَّته على العراق من دمار ولم يتم الإعلان عن نتائج اللجان التحقيقية التي شكلت لكشف الحقيقة، وما يزال أكثر من 65 مسجداً من مساجد أهل السُّنة والجماعة مغلقة تحت سيطرة الميليشيات ولم يتم إعادتها رغم كل التصريحات الكاذبة. كل هذا يجري على مرأى ومسمع وتنسيق مع القوات الحكومية وقادتها السياسيين.

الجرائم والانتهاكات خلال سنوات الاحتلال:

تمثل الانتهاكات التي ارتُكبَت بحق العراقيين من قِبَل قوات الاحتلال والحكومة جريمة بحق الإنسانية، بل هي إبادة شاملة ضد طائفة معيَّنة، تحت أنظار العالم ومنظمة الأمم المتحدة التي تساوي بين الضحية والجلاد في كل تقاريرها عن حقوق الإنسان؛ فهي تشير في هذه التقارير إلى جرائم الحكومة والاحتلال والميليشيات الحكومية بـ (يزعم، زعم،...) وغيرها من المصطلحات المشوِّهة للحقيقة، مع ما تمثله من أدلة موثقة عن هذه الجرائم.

وتشير الإحصائيات الدولية إلى أن عمليات القتل والاعتقال والخطف والتهجير، هي أكثر من كل ما يجري الإعلان عنه. ومن بين الدراسات والبحوث التي أُجريَت في العراق عن عدد القتلى هناك بحث قامت به إحدى الجامعات الرصينة في بريطانيا في عام 2008م؛ حيث بيَّنت فيه أن عدد القتلى من العراقيين منذ الاحتلال وحتى تاريخ إعدادها التقرير، قد زاد عن مليون وأربعمائة ألف قتيل، وهناك أضعافهم من المصابين، وإذا كانت هذه الأرقام قبل سنتين فإنه بكل تأكيد مع استمرار القتل والخطف والاختفاء القسري الذي تمارسه حكومة المالكي؛ فإن العدد قد وصل الآن إلى مليوني قتيل.

وفي مجال الاعتقالات تشير الأرقام إلى زيادة عدد المعتقلين يومياً، وأنَّ من جرى اعتقالهم خلال سنوات الاحتلال، هم أكثر من مليون شخص، وإذا كان قد أُطلِق سراح بعض منهم أحياءً فإنه عاد إلى أهله بعاهات نفسية وجسدية، أو عثروا عليه جثَّة بين الجثث مجهولة الهوية خاصة في السنوات (2005 - 2006 - 2007م)، وإن من بقي في السجون السرية والعلنية يزيد عددهم عن أربعمائة ألف معتقل، هم من أهل السُّنة والجماعة باستثناء أقل من ألفين منهم من التيار الصدري[1].

أما في مجال التهجير، فتشير الأرقام المعلنة من قِبَل المنظمات الدولية ومنها: الأمم المتحدة، ودوائر الهجرة ووزارات الداخلية في الدول التي هاجر إليها العراقيون إلى أن أعدادهم تزيد عن أربعة ونصف مليون، أغلبهم في سوريا والأردن ومصر، وبنِسَب أقل متفاوتة في بقية أنحاء العالم. أما عن أعداد المهجَّرين في الداخل فإن الإحصائيات الدولية والمعلومات المتوفرة تشير إلى أن أعدادهم لا تقل عن ثلاثة ملايين شخص، ولم يرجع من المهجرين في الداخل والخارج بحسب آخر إحصاء صدر مؤخراً عن دائرة الهجرة الحكومية سوى 62 ألف عائلة، ومما هو واضح لنا من خلال متابعتنا في المجال، فإن هذه العوائل لم تعد إلى منازلها وإنما تريد بيعها والانتقال إلى منطقة أخرى، بعد أن أصبح الفرز الطائفي أمراً واقعاً لا يمكن إنكاره. وقد قدَّمت تلك العوائل طلباً للحكومة لكي تساعدها على إخراج الميليشيات منها، وبشكل خاص بعد الخلاف والصدام المسلَّح بين المالكي وجيش المهدي الذي نشب بعد الصراع على اقتسام عائدات النفط المسروق من أنابيب النفط في البصرة عام 2008م.

وشمل الاعتقال والقتل والتهجير والخطف كلَّ شرائح المجتمع (نساءً وأطفالاً وشيوخاً)، ومن الأساتذة والكفاءات العلمية أعداداً كثيرة جداً، وعلى الرغم من عدم وجود إحصائية دقيقة تبيِّن كلَّ حالة وحجم كل شريحة من شرائح المجتمع، فإن القتل كان من نصيب أكثر من ألفي أستاذ جامعي، وثلاثمائة صحفي، وآلاف المثقفين، بينما شمل الخطف والتهجير أرقاماً لم تُحصَ بسبب الخوف من حجم الكارثة؛ ليس على قوات الاحتلال وحكوماته المتعاقبة، وإنما على المجتمع الدولي الذي لزم الصمت عن مثل هذه الجرائم.

ويوجد في العراق أكثر من مليون امرأة أرملة، وخمسة ملايين طفل يتيم، يمثلون غالبية عظمى من عدد الأميين في العراق الذي وصل عددهم فيه حسب آخر إحصائية رسمية إلى 40% من الشعب العراقي (بعد أن كان العراق قد قضى على الأمية عام 1979م)، وغزت الشهادات المزورة جميع دوائر الحكومة بعد الاحتلال، حتى شملت مرشحين فائزين في انتخابات مجالس المحافظات الأخيرة التي جرت عام 2009م، فضلاً عن الكشف عن 54 شهادة مزورة لمرشحين في الانتخابات الأخيرة لمجلس النواب.

ويحتل العراق المرتبة الثالثة عالمياً في الفساد المالي والإداري طيلة فترة الاحتلال، هذا بحسب منظمة الشفافية العالمية، ولم يسبقه في ذلك سوى منيمار والصومال التي دمرها الاحتلال الأمريكي أيضاً، وتركها مكاناً للصراعات الحزبية. وإذا ما أردنا أن نقارن بين ميزانيتي الصومال ومنيمار اللتين لا تتعديان ملياراً، وبين ميزانية العراق التي تزيد عن سبعين مليارٍ سنوياً كلها تذهب في مشاريع وهمية أو غير ذات جدوى، فإن العراق يحتل المرتبة الأولى في الفساد دون منازع، ونسبة من يعيش تحت خط الفقر المدقع أكثر من 34% من عدد سكان العراق حسب الإحصائيات الحكومية الرسمية.

ثماني سنوات من المقاومة:

شهدت الساحة العراقية فرزاً طائفياً في مجال الجهاد، وبخاصة بعد إعلان المرجع السيستاني فتواه بعدم التصدي لقوات الاحتلال، وكذلك صدر عن محمد باقر الحكيم زعيم فيلق بدر آنذاك أمر إلى جميع أتباعه، (بتوجيه من إيران بحسب ما صرح به ونُقِل عنه)، أن لا يتم التعرض لا للقوات الأمريكية ولا للسياسة الأمريكية في العراق، وهنا نضع نقطة رأس سطر، فقد انتهى الموضوع بالنسبة لأتباع المذهب الشيعي وأصبح الاحتلال في دينهم تحريراً.

وإذا كان الوضع العام في العراق يسير من سيئ إلى أسوء، في ظل الاحتلال الأمريكي ومن جاء به ومعه على دباباته، وأوهمهم أن الشعب العراقي سيستقبلهم بالورود، فإن ما يَسُرُّ في هذا المشهد المفجع بصوَرِه المؤلمة هو الصمود البطولي للمجاهدين، وضرباتهم الموجِعة لقوات الاحتلال، فقد أشار أحد مراكز البحث الأمريكية إلى تكبد قوات الاحتلال أكثر من 33 ألف قتل، وما يزيد عن (70) ألف مصاب بجروح مختلفة، أغلبها بتر في الساقين واليدين، إضافة إلى عشرات الألوف من المصابين بأمراض نفسية، وسجلت نسبة الانتحار في صفوفهم أرقاماً قياسية في تاريخ أمريكا؛ حتى تجاوزت أرقام حرب فيتنام بمرات، وإذا كانت تلك الحرب كما نشاهد من الأفلام الوثائقية قد أوجعت الجنود الأمريكان، فإن نسبة الانتحار في صفوفه الآن تدل على حجم ما يعانونه من هول وقلق يعيشونه بسبب ضربات المجاهدين، بينما تشكِّل الخسائر المالية أرقاماً مذهلة، يعدُّها الخبراء السبب الرئيسي في الانهيار الاقتصادي الذي أصاب العالم، وألحق بالمصارف الأمريكية خسائر فادحة، حتى إن عدد من أعلن إفلاسه منها، قد زاد على كل ما أُعلِن خلال القرن الماضي.

وأدَّت معركة الفلوجة الأولى في نيسان 2004م إلى زيادة تنظيم العمل المسلح ولو في فصائل متعددة، الأمر الذي آتى ثماره بعد ذلك، على الرغم من عدم وجود تنسيق بين هذه الفصائل يوازي حجم التهديد الذي يحيط بها وبالعراق؛ إلا أن ضرباتها قد أثَّرت تأثيراً كبيراً ليس على قوات الاحتلال في العراق فحسب، وإنما على كل سياسة أمريكا في العراق والمنطقة، واستمر الوضع على هذه الصورة وأصبحت أكثر مدن الوسط خارج سيطرة قوات الاحتلال والحكومة حتى عام 2007م، وهذا ما أزعج الاحتلال فبدأ الاختراق الأمني في جميع الفصائل يؤتي أُكُلَه: من الانشقاقات في بعض الفصائل وتشكيل فصائل أخرى، إلى الاقتتال في ما بينها.

فضلاً عمَّا قدَّمته مجالس الصحوات، من خدمات جليلة للاحتلال يستحقون عليه منحهم الجنسية الأمريكية ونحن نشهد لهم بذلك، فقد أنقذوا الاحتلال الأمريكي من الوحل ومن مستنقع الهزيمة دون مقابل يذكر؛ ففي الوقت الذي كانت في الولايات المتحدة، مستعدة لتعطي كلَّ شيء من أجل الخروج من العراق بماء وجهها فقط، جاءتها الصحوات، وعرضت نفسها ذليلة للاحتلال، لمجرد أن يرضى عنها، وبعد كل ما قدمته له من خدمات قلَّ نظيرها؛ حتى أنها فاقت ما قدمه العملاء الآخرون، بل فاقت جنودها الذين لم يستطيعوا أن يحفظوا لأمريكا ماء وجهها، كما فعل عناصر العملاء من الصحوة، والنتيجة ها هم يستجدون كالأيتام على مائدة اللئام، بعد أن تم رميهم كما ترمى المناديل الورقية بعد استخدامها في المرحاض.

وما زالت أغلب الفصائل تعمل وبشكل مهني ومحترف، بعد أن خبرت أسلوب المعركة، بينما يرجع سبب قلة الضربات الآن إلى انسحاب القوات المحتلة من المدن وتمركزها في قواعدها، واستخدامها الحيطة والحذر في تنقُّلها داخل المدن، وليس لانتهاء العمل المسلح، إضافة إلى نشرها أعداداً كبيرة من الجواسيس والعملاء لرصد تحركات المجاهدين، وتأمين الطرق التي تسير عليها، وانحسار الدعم المالي لها.

الميليشيات:

أما الحديث عن ما يسمى بمقاومة جيش المهدي فما هي إلا طريقة: إما لتحقيق مكاسب سياسية حزبية؛ فقادتها مشاركون في العملية السياسية ولهم وزراء فيها، وإما لاغراض طائفية: من تسهيل حركة أتباعهم في المجال المسلح ضد أهل السُّنة والجماعة، وقد حصلوا على وزارة الصحة والنقل والزراعة، وهي من بين خمس وزارات استلمها التيار الصدري للقتل والتصفيات الطائفية بشكل علني، وإما لمنافع مالية بتقسيم الغنائم بين الشركاء في الحكومة من خلال سرقة المال العام بشكل مباشر، أو من خلال التعيينات الوهمية التي تزيد عن احتياجات الوزارات بشكل كبير جداً، حتى إنهم قاموا بتعين بعض أئمة الحسينيات في دوائر الحكومة، ويستلمون الرواتب من غير دوام.

أما الميليشيات الأخرى التي تدَّعي أنها من المقاومة فهي ميليشيات (عصائب أهل الحق) التي يقول مقتدى الصدر بأنها انشقت عنه لِـمَا ارتكبت من أفعال لم يسمِّها، ولكن بكل تأكيد ليس بسبب جرائمها ضد أهل السُّنة  والجماعة؛ وإنما بسبب اختطافهم للخبير المالي البريطاني (بيتر مور) مع أربعة آخرين من مركز ما لي في بغداد عام 2007م، والعملية جرت لصالح إيران وَفْق التصريحات الرسمية من قِبَل الحكومة البريطانية؛ حيث جرى نقل الرهائن إلى إيران، قبل أن يتم تسليم جثثهم للحكومة، مقابل إطلاق سراح قادة هذه الميليشيات ومنهم ليث الخزعلي شقيق قائدها قيس الخزعلي، الذي أُطلِق سراحه هو الأخر بعد تسليم جثة الرهينة الخامس، ومن بين أهم الشخصيات في هذه الميليشيات: سلام المالكي وزير النقل في حكومة الجعفري، وعبد الهادي الدراجي الناطق باسم مقتدى الصدر، الذي أُطلِق سراحه ضمن الصفقة نفسها، وهذه العملية تمَّت أيضاً؛ لأن عمل الخبير كان منصبّاً على تنصيب برنامج متطور، يتتبَّع تحويل المليارات من خزينة الحكومة إلى الميليشيات المرتبطة بإيران.

لأن حرية العراقيين في خطر

في العراق أكبر عدد سجون في العالم؛ حيث بلغت (36) سجناً عدا سجن (أبو غريب) الذي يُعَدُّ الأرحم من بينها رغم فضائحه الفظيعة، وتضم هذه السجون (400 ألف) معتقل منهم (6500) حدث و (10 آلاف) امرأة، وأكثر من (420) مركز اعتقال سري في العراق تجري فيها انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان، من قِبَل قوات الاحتلال أو من قِبَل السلطات الحكومية بمختلف طوائفها، وإن 92% من المعتقلين أو ذويهم أصيبوا بالكآبة وأمراض نفسية أخرى مثل الفصام والذهان؛ بينما تراجع المستوى العلمي لأبنائهم بنسبة 82 %، وهناك 56 % من ذويهم فقدوا معيلهم.

المشهد الأخير:

لا يمكن بكل تأكيد حصر المشهد العراقي بكل ما فيه من تناقضات وتضارب وأطماع في مشهد واحد؛ ولذلك وجب أن تكون القراءة في المشهد الأخير، على صعيد الداخل والخارج، بما فيه من تناقضات ومصالح لدول الجوار، وعلى رأسها مصالح أمريكا التي ضحت بكل شيء من أجل أن تفرض هيمنتها على العراق؛ خاصة بعد أن قويت شوكتها بعد تلك السنوات العجاف التي مرت عليها وهي في أحلك الظروف. وإذا كان وضعها في العراق قد تحسَّن بسبب العوامل التي ذكرناها، فقد قررتِ الانسحاب قبل أن تسوء الأوضاع من جديد، وهو أمر متوقَّع في ظل توقُّف بعض المقاومين عن العمل، على اعتبار أن أمريكا ستنسحب ومن ثَمَّ فليس هنالك داعٍ للخسائر، ولكن في حال عدم انسحابها فإنها ستعيد كلَّ هذه الحسابات والأرقام إلى الشارع؛ إذاً فإن الانسحاب بصورته العامة قائم؛ إلا أن هذا لا يعني انتهاء الاحتلال، فإن لم توجد قوات عسكرية بحِرَفية ومهنية عالية بحجة التدريب  - وهذا أمر متوقع - فإنه توجد سفارة تم الانتهاء من بنائها مصمَّمَة لتضم أكثر من خمسة آلاف موظف، وهي أكبر سفارة في تاريخ البشرية، بكل ما فيها من تقنيات حديثة ومتطورة وعناصر مؤهَّلة، لا لإدارة العمل الدبلوماسي؛ وإنما للتصدي لكل طارئ، ولا يتوقع من العاملين في هذه السفارة أن يصطحبوا عوائلهم كما هو الحال في كل سفارات العالم.

وفي الوقت الذي تُعِد أمريكا فيه العدة للانسحاب العسـكري، يتزايد الدور الإيراني في العـراق بشكل مطَّرد، وما تهافُت الأحزاب التي شاركت بالانتخابات الأخيرة على إيران إلا دليل قاطع يؤكد الدور الإيراني قبل الانتخابات وبعدها، ومنها عمليات الاجتثاث وتصريحات نجاد الواضحة حول ذلك؛ وخاصة أنها كانت قد طلبت أن يكون لها دور في إدارة شؤون العراق بعد انسحاب القوات الأمريكية. ويبدو أن الدبلوماسية السرية بين دولتي الاحتلال (أمريكا وإيران) قد أتت أُكُلَها في هذا الصدد، وما التصريحات النارية بين الطرفين إلا من باب تحقيق المكاسب من خلال المفاوضات؛ خاصة في ظل حال متواضعة لدول الجوار العربية. وما زيارات عدد من قادة الكتل والأحزاب الفائزة بالانتخابات إلى السعودية إلا لذرِّ الرماد في العيون، والقرار النهائي اتُّخذ في طهران، وهو ما دعا علاوي أن يطلب من إيران دعوته لزيارتها.

وإذا كان هذا في الوضع الخارجي، فإن الوضع الداخلي لا يقل تشويشاً عنه، وهو ما لمسناه في السنوات الثمانية من الاحتلال: من قتل وتدمير تمارسه الأحزاب الحاكمة لتأجيج الوضع الطائفي، لتحقيق مكاسب سياسية، وما تفجيرات قبَّتي الإمامين في سامراء وتفجيرات كبيرة كانت تقع في مناطق شيعية إلا مِن فعل الأحزاب الحاكمة لتحرِّك ميليشياتها، وكذا تصريحات المالكي الأخيرة التي هدد فيها بعودة التدهور الأمني بشكل لا تُحمَد عقباه والحرب الطائفية إذا لم يتم إعادة الفرز لأوراق الانتخابات يدوياً. وللمالكي - كما هو معلوم - دور كبير في تفخيخ السيارات التي تبناها حزب الدعوة في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، ولم تمضِ سوى أيام قلائل على تهديد المالكي، حتى جرى تفجير سبعة مبانٍ مدنية في مناطق شيعية.

إن الوضع بما فيه من انشقاق طائفي على المستوى السياسي والشعبي، مع تراجع السيطرة الأمريكية على الأحزاب لصالح إيران، واتفاق سياسي على أن لإيران دوراً مهماً في مستقبل تشكيل الحكومة، وانحسار الموقف العربي الموحَّد لجميع القضايا في العراق، كل هذا له دَوْر في مستقبل العراق والعراقيين في أمنهم وقوَّتهم، ويبقى السؤال الكبير الذي يطرح نفسه: هل هي ثماني سنوات عجاف انتهى زمانها، وولى دمارها وقتلها واعتقالها، أم هي ثمانية قد آن أوانها؟


 

 


[1] صرَّح بذلك مقتدى الصدر يوم السبت 10/4/2010م لقناة الجزيرة في برنامج حوار مفتوح مع غسان بن جدو.

 

أعلى