التصريحات الإيرانية عن الثورة المصرية... والمرايا العاكسة
وصف المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران علي خامنئي في حديث له المظاهرات التي كانت تجري في مصر بأنها صحوة إسلامية، وأنها مستلهمة من الثورة الإيرانية، وأشار الإعلام الرسمي في إيران بصورة دعائية قوية إلى أن الذي يحدث في مصر هو «ثورة إسلامية». ومثل خامئني أدلى عدد من المسؤولين الرسميين بسلسلة تصريحات وبيانات مركَّزة في هذا السياق، ومنهم الجنرال يحيى رحيم صفوي المستشار العسكري لخامنئي الذي قال في تصريح لوكالة فارس شبه الرسمية: «إن مصير مبارك سيكون كمصير الشاه؛ تطيح به قوى الثورة الإسلامية».
كما أكد الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد على أن الشرق الأوسط «سيتخلص قريباً من الولايات المتحدة وإسرائيل»، متطرقاً في خطابه لمناسبة الذكرى الثانية والثلاثين لانتصار الثورة الإسلامية بالإضافة إلى ثورتَيْ تونس ومصر.
وقال أحمدي نجاد: «أقول للشعوب والشباب في الدول العربية والإسلامية وخصوصاً المصريين: كونوا متيقظين؛ من حقكم أن تكونوا أحراراً وأن تختاروا حكومتكم وقادتكم». وألقى أحمدي نجاد خطابه أمام حشد هائل في ساحة أزادي (الحرية) في وسط طهران. وردد الحشد هتافات دعم لثورتَي مصر وتونس وشعاريهما التقليديين «الموت لأمريكا» و «الموت لإسرائيل»[1].
كما ركب تلك الموجة أيضاً الإيراني الهوى والمذهب زعيم حزب الله اللبناني (حسن نصر الله) الذي أطل بكلمة ألقاها في مهرجان نظمته قوى متحالفة مع الحزب دعماً للثورة في مصر، اعتبر فيها أن ما يجري في مصر هو «ثورة وطنية»، وأكد أنه يضع إمكانات حزبه تحت تصرف المحتجين).
والتقط الإعلام المصري وقتها الخيط وظل يدندن حول علاقة إيران بما يحدث في مصر، في محاولة لربط كل ما يحدث بقوى خارجية ممثَّلة بـ (إيران) واصفاً إياه بأنه مؤامرة خارجية تستهدف أمن مصر، وفتح الإعلام المصري لكثير من الحناجر الصارخة من (مشايخ، وصحفيين، وسياسيين) أبوابه مشرعة لينفخوا في تلك النار؛ فالمشايخ تحدثوا عن خطر المذهب الشيعي على عقيدة الأمة، والسياسيون حذروا من الخطر التمدد النووي الإيراني الذي يريد أن يجتاح المنطقة، حتى وصل بالإعلام الرسمي المصري إلى إيراد شهادات تفيد برؤية أشخاص يحملون ملامح إيرانية؛ وكأن الإيرانيين أتوا من كوكب آخر، لهم ملامح مميزة على بقية البشر!
فهل صحيح أن النظام الإيراني يدعم ثورة المصريين على ظلم حكامهم، وأنه يريد أن يرى مصر دولة تسودها الحرية والأمن وتتمتع بقدرات اقتصادية وسياسية وعسكرية كبيرة في المنطقة؟ هل هذا فعلاً ما تريده إيران؟ وكيف يمكن لنا قراءة مثل تلك التصريحات؟
المرايا العاكسة وعربة الإسعاف:
كنت وأنا صغير لا أستطيع قراءة كلمة (إسعاف) المكتوبة فوق سيارات المستشفيات التي تحمل المرضى، ثم تبيَّن لي بعد ذلك أنه لكي أستطيع أن أقرأ الكلمة بشكل سليم، لا بد من النظر إليها من خلال مرآة عاكسة؛ لذلك فكلمة (إسعاف) كتبت بهذا الشكل خاصة لأصحاب السيارات، حتى إذا نظروا في مرآة سياراتهم استطاعوا قراءة كلمة إسعاف بشكل سليم؛ فيفسحوا لها الطريق.
فأحياناً لا نستطيع رؤية الحقيقة إلا إذا نظرنا لها في المرآة؛ بحيث نعكس مكوناتها فنتبين مرادها. وهذا الأمر ينطبق بشكل كبير على التصريحات الإيرانية الأخيرة.
فلنا أن نتمثل تصريحات خامئني عن إسرائيل بأنها سرطان يجب استئصاله، أو تصريحات نجاد العنترية التي تدعو لمحو إسرائيل من الخريطة. أو هتافات الجموع مع نجاد بالموت لأمريكا والموت لإسرائيل كل تلك التصريحات من لدن اندلاع الثورة الإيرانية عام 1979م وحتى الآن ما هي إلا مواقف إعلامية ساخنة تسعى لخداع جماهير المسلمين حتى صدَّق كثير من أبناء العالمين العربي والإسلامي تلك الشعارات وظنوا أنها حقيقة، دون أن يتنبهوا إلى نظرية المرآة التي أوردناها.
فإيران الثورة التي تنادي بالموت لإسرائيل لم تطلق رصاصة واحدة تجاه الصهاينة، بينما عرفت كثيراً منها [أي الرصاصات] صدور أهل السُّنة في العراق وأفغانستان؛ فقد نقلت صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية في 9/2/2002م عن الرئيس الإيراني السابق علي أكبر هاشم رفسنجاني قوله: «إن القوات الإيرانية قاتلت طالبان، وساهمت في دحرها، وأنه لو لم تساعد قواتهم في قتال طالبان لغرق الأمريكيون في المستنقع الأفغاني».
وأضاف: «يجب على أمريكا أن تعلم أنه لولا الجيش الإيراني الشعبي ما استطاعت أمريكا أن تُسْقط طالبان».
وبمثل تلك التصريحات أكد محمد على أبطحي نائب الرئيس الإيراني للشؤون القانونية والبرلمانية الذي وقف بفخر في ختام أعمال مؤتمر الخليج وتحديات المستقبل الذي ينظمه مركز الإمارات للدراسـات والبحـوث الإسـتراتيجيـة سـنوياً بإمـارة أبو ظبي مساء الثلاثاء 15/1/2004م ليعلن أن بلاده «قدمت كثيراً من العون للأمريكيين في حربيهم ضد أفغانستان والعراق»، مؤكداً أنه «لولا التعاون الإيراني لما سقطت كابول وبغداد بهذه السهولة».
فتلك التصريحات لم تَصُب إلا في مصلحة إسرائيل؛ بحيث تُظهرُها أمام العالم على أنها دولة مضطهدة ومهددة؛ لذا فهي تستحق كل الدعم، حتى حديث النظام الإيراني عن امتلاك التكنولوجيا النووية هو في النهاية يعطي شرعية أكبر لإسرائيل النووية.
ومن التناقضات العجيبة أنه في توقيت متزامن مع تلك التصريحات أوردت وكالات الأنباء خبراً عن اقتحام قوات الأمن الإيرانية مصلىً لأهل السُّنة في طهران وأغلقته بالشمع الأحمر، إضافة إلى اعتقال «مولوي عبيد الله موسى زاده» الذي يؤم الناس فيه.
ونسب موقع (العربية نت) إلى مصادرَ قولَها: إن السـلطات لا تسمح لأهل السُّنة بإنشاء مساجدَ لهم في طهران رغم المساعي التي بذلها أهل السُّنة منذ انتصار الثورة الإسلامية، وأنها أوعزت إلى قوات الأمن باقتحام المصلى الخاص بأهل السُّنة، والواقع في منطقة سعادت آباد في طهران، وختمته بالشمع الأحمر، واعتقلت إمام المصلى وهو «مولوي عبيد الله موسى زاده»[2].
وذكر الموقع أيضاً: «أنه لمن المؤسف في الوقت الذي لا يمتلك أهل السُّنة في العاصمة الإيرانية أي مسجد لكي يقيموا فيه صلواتهم الخمس، لا يتحمل المسؤولون فيها وجود حتى مصلَّيات لأهل السُّنة؛ بحيث تواجه هذه المصليات خطر إغلاقها بالشمع الأحمر؛ وذلك خلافاً للقانون والشريعة الإسلامية، هذا في الوقت الذي لا تتصرف الدول غير الإسلامية مع الأقليات المسلمة بمثل هذه الطريقة».
أليس تناقضاً عجيباً أن تغلَق مصليات أهل السُّنة في طهران الذين ليس لديهم مسجد واحد في العاصمة الصفوية، في حين أن الذين يتظاهرون في مصر خرجوا رفضاً للظلم والذل وإهدار الحقوق.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: ما الذي يريده النظام الإيراني من وراء تلك التصريحات؟
نستطيع أن نقرأ التصريحات الإيرانية الأخيرة بشأن النظام المصري في ضوء عدد من النقاط:
أولاً: إذا نجحت الثورة فسيكون للنظام الإيراني فضل السبق في الترحيب بالثورة في الوقت الذي تتواتر فيه الأخبار عن صمت معظم الأنظمة العربية، بل أشارت تقارير إخبارية كثيرة إلى أن بعض دول المنطقة كانت تقوم بالفعل بالضغط على أمريكا لكي لا تنحاز للشعب المصري وتتخلى عن مبارك سريعاً، فيكون للنظام الإيراني بذلك يد عند النظام الجديد، والسبق بالانحياز إليه.
إن النظام الإيراني كان يلاقي فتوراً في العلاقات بينه وبين النظام المصري [السابق] منذ فترات طويلة، وصل هذا الفتور إلى ذروته إبان الكشف عن خلايا لحزب الله الشيعي في مصر، وهو يريد أن يحجز له مقعداً متقدماً في الصفوف الأولى، على أمل أن تتغير معادلة العلاقات بينه وبين النظام المصري الجديد.
ثانياً: إن الأمر الذي أرى أن النظام الإيراني يهدف إليه حقيقة، هو إعطاء غطاء إعلامي لحملات التخويف التي يطلقها النظام المصري من صعود قوى إسلامية إلى منصة السلطة في مصر في وجه القوى الدولية؛ فكثير من السياسيين أعربوا عن خشيتهم من قفز الإسلاميين على السلطة، وإعلام النظام المصري يلوح بعملية تخوين جماعية للمتظاهرين بربطهم بجماعة الإخوان ومن ثَمَّ إيران. ومن ثَمَّ جاءت التصريحات الإيرانية كأنها تقول: إن كل تخوفاتكم من الإسلاميين صحيحة، والحديث عن مؤامرة خارجية من خلال اليد الإيرانية ليس مستبعَداً.
وقد أعجبني رأي أحد المحللين عندما أشار إلى أنه لو قدِّر أن تلك الثورة في مصر شيعية حقيقة؛ لأسرع النظام الإيراني إلى التبرؤ منها، خاصة في الظرف الدولي الحالي؛ حتى لا يجري إجهاضها سريعاً.
ثالثاً: نستطيع أن نقرأ أيضاً تلك التصريحات في ضوء أنها رسالة موجهة للداخل الإيراني أيضاً؛ فخامنئي الذي وقف متفاخراً وهو يخاطب الشعب الإيراني بقوله: (إن هذه الثورة من أصدائكم) يريد أن يقول بذلك: إن ثورات المسلمين السُّنة هي مستلهمة من ثورة إيران وانتفاضتها ضد الشاه.
رابعاً: منع الشعب الإيراني من التضامن مع الثورة المصرية. ولم يتوقف الأمر عند المنع؛ بل ترافق مع موجة اعتقالات جديدة في أوسـاط المعارضة، بينمـا حوصر أحد أبرز شـخصيات الإصلاحيين الرئيس السابق لمجلس الشورى مهدي كروبي في منزله[3].
وقامت السلطات الإيرانية في نهاية المطاف بسحق حركة الاحتجاج هذه وقمعها بشدة، وهو ما أدى إلى سقوط عشرات القتلى واعتقال كثيرين بينما صدرت عقوبات قاسية في بعض الأحيان بحق سياسيين ومثقفين من المعارضة.
والجمعة الماضية سُمِح فقط لمناصري السلطة بالتجمع بكثافة والنزول إلى الشوارع للاحتفال بذكرى الثورة الإسلامية بعدما حذرت السلطات المعارضين من أي محاولة للمساس بـ (الوحدة الوطنية).
ففي الوقت الذي جرى فيه قمع المظاهرات الإيرانية (الحركة الخضراء) التي نزلت فيها ملايين تابعة للحركة إلى الشارع هاتفين «أين صوتي؟» مطالبين بحقوقهم، التي تمَّ سلبهم إياها من قِبَل النظام، وهو الأمر الأقرب شَبَهاً بواقع الثورة المصرية، من وصف خامئني لها بالثورة بالإسلامية؛ لذلك حرص النظام الإيراني وإعلامه على أن يسحب تلك الثورة إلى رصيده بادِّعائه أنها مستلهَمة من الثورة الإيرانية.
وأخيراً نستطيع أن نقول: إن النظام المصري لم يكن في حالة من التوافق التام مع النظام الإيراني، إلا أن الإيرانيين يشعرون بالخوف من حدوث هزة إقليمية قوية تفتح أمام الشعوب المنطقة العربية ذات الأغلبية السُّنية أبواب الحرية، وهو ما سيكدر الوسط الملائم الذي يعمل من خلاله النظام الإيراني الذي يتحدث عن مظلومية الشعوب وقهرها ويلعب كثيراً على هذا الوتر.
كما أن مصر القوية ذات النفوذ - على الأقل في محيطها الإقليمي - ستكون خصماً ولا شك للنفوذ الإيراني المتنامي، وفي هذا إحباط للمخططات الإيرانية الرامية للهيمنة على الإقليم؛ لذا يبتعد كثيـراً من يظن أن النظام الإيراني يرغب حقيقة في نجاح تلك الثورة الوليدة.
:: البيان تنشر - مـلـف
خـاص- (الـخـطـر الإيـرانـي يـتـمـدد)
[1] نجاد: «الشرق» سيتخلص من أمريكا و (إسرائيل)، خبر على موقع فلسطين أون لاين، الجمعة 11 فبراير 2011م.
[2] إغلاق مصلى أهل السُّنة في طهران بالشمع الأحمر واعتقال إمامه، العربية نت، الأربعاء 6 ربيع الأول 1432هـ - 9 فبراير 2011م.
[3] طهران تمنع المظاهرات المؤيدة لمصر، الجزيرة نت، الأحد 10/3/1432 هـ - 13/2/2011 م.