شعبية الإسلاميين... متى تساوي صفراً؟

شعبية الإسلاميين... متى تساوي صفراً؟

كيف تقاس شعبية الإسلاميين على اختلاف توجهاتهم في الدول الإسلامية؟

على الرغم من التقنية والإنترنت وثورة «الميديا»، فإن قياس توجهات الرأي العام في العالم الإسلامي لا يزال قابعاً في العصر الحجري، إذا ما قورن بما يحدث في دول غربية؛ حيث تصل دقة استطلاعات الرأي إلى إعطاء نتيجة تقريبية للانتخابات قبل انتهائها.

وفي المقابل فإنه حتى نتيجة الانتخابات نفسها في دول عربية، لا تعطي تقديراً حقيقياً لتوجهات الرأي العام؛ وإنما تعبِّر عن تفضيلات القوى السياسية المسيطرة.

في هذا الخضم تبدو شعبية الإسلاميين لغزاً غير قابل للقياس في الوقت الحالي؛ إذ يمكن فقط  تلمُّس بعض المؤشرات من هنا وهناك، مثل: التجمعات الشعبية، وانتشار سمات التدين، والإقبال على الكتب الدينية في معارض الكتاب، وشعبية بعض الدعاة والعلماء... إلخ.

وتعد نتائج الانتخابات من أهم المؤشرات التي يمكن من خلالها قياس شعبية الإسلاميين، أو على الأقل بعض تياراتهم، ولكنه قياس غير دقيق في حدِّه الأعلى؛ أي أنه يعطي تقديراً أقل من الحقيقي بسبب الإشكالات المعهودة حول نزاهة الانتخابات، وقدرة الإسلاميين على تقديم مرشحين في جميع الدوائر، وتدنِّي نسب المشاركة الجماهيرية.

إن التفسير البسيط لغياب (أو تغييب) المعلومات الإحصائية حول هذه القضية، هو أن هذه المعلومات لا تدعم موقف خصوم الإسلاميين، وإلا فلن يكون هناك أي فائدة في حجبها أو منع الوصول الحر إليها؛ فإذا كانت الحقيقة هي تواضع شعبية الإسلاميين، فإن ردَّ فعل خصومهم سوف ينطلق من مفهوم: (انشر تؤجر). أما إذا كانت العكس، فإن القاعدة الذهبية هي: (ليس كلُّ ما يُعرَف يقال).

بدلاً من القياس الحيادي يلجأ خصوم الإسلاميين - خاصة في مواسم الانتخابات - إلى استخدام مصطلحات وعبارات تقليصية مثل: أقلية، لا يعبِّرون عن الشعب، الجماهير أصبحت واعية بأهدافهم ومقاصدهم... إلخ.

ويستخدم هؤلاء معيار الانتخابات بطريقة لا تخلو من طرافة؛ فنتيجة الانتخابات تعكس شعبية الإسلاميين في اتجاه واحد، هو خسارة المقاعد تعني تدهور الشعبية؛ بينما الفوز بعدد كبير من المقاعد لا يعني تزايد شعبيتهم، بل كل ما في الأمر أنهم يجيدون التنظيم والتنسيق وحَشْدَ الأتباع، أو بتعبير محمد حسنين هيكل فإن الإسلاميين يفوزون لأن «بحر السياسة فاضي ما فيش فيه حاجة أبداً، راحوا للإسلام هو الحل.. اتجهوا إلى الملكوت الآخر الذي يَعِد بهذا»[1]؛ فإذا فازوا في دورة انتخابية فلأن منافسيهم تكاسلوا وهم نشطون، ثم إذا خسروا في الدورة التالية؛ فلأن الشعب أدرك حقيقتهم. إن المأزق هنا أنه لو فاز الإسلاميون في دورة ثالثة؛ فماذا سيكون التفسير؟

من التفسيرات المتكررة لخسارة الإسلاميين في الانتخابات: أنهم لا يملكون برنامجاً انتخابياً واضحاً؛ ولذلك أدرك الناخب مدى خَوائهم السياسي فأعرض عنهم.

تلك هي النكتة؛ فهم يفترضون أن الناخب العربي يجلس متربعاً في بيته معه كوب من الشاي وأمامه برامج الأحزاب المترشحة، وبعد قراءة متأنية يقرر أيَّ حزب سيرشِّح بناءً على البرنامج الذي قرأه. ليس ذلك فقط، بل إن هذا «الناخب الألمعي» يعيد تلك الجلسة من جديد بعد أربع سنوات بغرض التقويم ومعرفة أي الأحزاب التزم بالبرنامج وأيها كان مخادعاً.

إن هذه الصورة الخيالية لا تحدث حتى في الديمقراطيات الغربية؛ فعندما يتنافس المرشحون في انتخابات الرئاسة الأمريكية - على سبيل المثال - فإن المفاضلة بينهم تكون في بنود معيَّنة يَعِدُ بها كل رئيسٍ ويُضَمِّنُها برنامجَه، وتتمحور حولها التغطية الإعلامية واهتمام الرأي العام، مثل: التعليم، الضرائب، التأمينات، الحرب في العراق وأفغانستان، تأمين فرص عمل جديدة، الإجهاض... إلخ.  نعم، قد تهتم شرائح مثقفة نخبوية بالنسخة الكاملة من البرنامج السياسي، لكنهم يظلون أقلية والأغلبية تحكم من خلال المؤشرات السابقة، ولذلك يُبرِزها مرشحو الرئاسة ويجعلونها محوراً لحملاتهم الانتخابية.

الحقيقة الغائبة إذن: هي أن الإسلاميين يتمتعون بشعبية واسعة متزايدة؛ سواء خسروا الانتخابات أم كسبوها، وهذا يصل بنا إلى السؤال التالي: ما هي أسباب شعبية الإسلاميين؟

ترتكز شعبية الإسلاميين على ثلاثة عوامل أساسية، هي: تبنِّي قضية الإسلام، والتضحية والاضطهاد، وحسن السيرة والسلوك:

    • فلأنهم يحملون قضية مشتركة مع الجماهير، هي قضية الدين الذي هو أساس الحياة، فإنهم يكسبون محبة الناس وتعاطفهم؛ سواء كان الناس قريبين من التدين، أم بعيدين عنه؛ فكثير من المسلمين يجدون في تأييدهم للإسلاميين ودعمهم في صناديق الانتخابات - مثلاً - نوعاً من التعويض عن ضعف تديُّنهم، وهذه مزية تفتقدها الأحزاب العَلمانية.

    أما الاضطهاد الناجم عن التضحية من أجل القضية، فإن تأثُّر الرأي العام وتعاطفه مع المضطهدين أمر ملاحَظ ومشهود؛ سواء مع الإسلاميين أو غيرهم؛ خاصة إذا كان الاضطهاد بسبب التمسك بعقيدة أو مبدأ أو قيم أيّاً كان مصدرها.

    أما حُسْن السلوك، فلا مجال لإنكار أن الإسلاميين يحظون بسمعة جيدة في مختلف المجالات التي يشاركون فيها، وأي مقارنة حيادية بين أدائهم وأداء منافسيهم فستثبت جدارتَهم؛ على الرغم من السلبيات والأخطاء التي يقعون فيها.

بينما على الجـانب الآخـر المنافـس، فأننا نجد عكس ذلك تماماً في ما يتعلق بأسباب اكتساب الشعبية:

فهم لا يكتفون بنبذ الدين من برنامجهم، بل ينكرون على من يرفع رايته بحجة أنه لا دين في السياسة، وأن الدين أشرفُ من أن يُهتَك سِتْره بدسائس السياسة وخبائثها، وهذا اعتراف بأن السياسة الحالية تفتقد إلى معايير الشرف، وليس أفضل من الدين لغسل وتطهير من فَقَد شرفه.

وبعضهم يقدم أعذاراً واهية لنفي الدين من الواقع السياسي، ففي مصر - على سبيل المثال - يقولون: إنه لا يمكن السماح برفع شعارات دينية مثل: (الإسلام هو الحل)؛ لوجود أقلية قبطية ترفض أن يكون الإسلام حلاً لمشاكلها؛ فماذا يكون الحل إذن؟ العَلمانية هي الحل... (اللا دينيـة) هي الحل... لكن أليس في ذلك إهدار وتجاوز لاختيار الأغلبية مراعاة لاختيار الأقلية؟

إن الديمقراطية كما يطبقها مخترعوها في الدول الغربية تعني أن  يقول الشعب كلمته من خلال نوابه، وأن تلتزم الحكومة وكلُّ مؤسسات الدولة بتنفيذ كلمة الشعب؛ فإذا جاء البرلمان الفرنسي - مثلاً - وقرر بأغلبية ساحقة أن يسحب الجنسية من المسلمين في فرنسا ويطردَهم إلى بلادهم الأصلية، فلن يستطيع أحد الاعتراض، حتى الدستور يمكن تغييره بهذه النسبة؟ وإذا جاء برلمان جديد في العام الذي يليه وقرر إعادة هؤلاء مرة ثانية، فلا يمكن الاعتراض أيضاً... هذه هي الديمقراطية.

إن القضية باختصار: هي «كراهية للدين» بدعوى «احترام الدين». يقول محمد حسنين هيكل: «الإسلام ملك كل الناس، الإسلام ملك التقدم، ملك الإنسانية، ملك البشرية؛ لكن أرجوك لا تدخله في قضايا الخلاف»[2]. إن هذا القول يتناقض تماماً مع كون الإسلام هو الحل للقضايا الخلافية والمنازعات، كما قال - تعالى -: {فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، وقال - جل شأنه -: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلَى اللَّهِ} [الشورى: 10].

إنهم جعلوا الإسلام كالميت، إكرامه في التعجيل بدفنه، بينما إكرام الإسلام حقيقةً في التعجيل بنشره وتطبيقه. إنهم يرفضون التعاطي مع أي نموذج إسلامي مهما بلغت درجة «اعتداله» حتى النموذج التركي الذي يقبل بالدور السياسي للمرأة، ويقيم علاقات مع الكيان الصهيوني، ويحترم العَلمانية، ويسعى لعضوية الاتحاد الأوروبي، هو نموذج مرفوض تماماً بالنسبة للعَلمانيين العرب.

أما الحديث عن التضحية والاضطهاد فلا مجال له. والحال أن هؤلاء هم من يضطهدون الإسلاميين.

العامل الثالث في اكتساب الشعبية هو: حسن السير والسلوك. ومظاهر الفساد المستشرية في كثير من الدول الإسلامية خير شاهد على سِيَرهم وسلوكهم.

إذن: متى تساوي شعبية الإسلاميين... صفراً؟

الحل سهل وميسور، والدعوة مفتوحة أمام العَلمانيين لتطبيقه على الفور:

أولاً: عليهم أن يسلبوا الإسلاميين نقطة قوَّتهم الرئيسة، وهي: حمل قضية الإسلام، أو على الأقل يزاحموهم فيها بأي شعار يريدون ووَفْقَ أي نموذج موجود في الساحة.

ثانياً: ليس مطلوباً منهم أن يتعرضوا للاضطهاد، وهذه مزية مشمولة ضمن العرض.

ثالثاً: مطلوب منهم أن يتوقفوا عن الفساد فترة زمنية كافية حتى يقتنع الناس بهم ويصدقوا توبتهم.

في هذه الحالة إذا نُفِّذت الشروط السابقة، فأتوقع جازماً أن يتحول الناس في أي انتخابات - برلمانية أو رئاسية - لاختيارهم، مُعرِضين في الوقت نفسه عن الإسلاميين الذين سيفقدون بريقَهم وشعبيتهم، لكنهم لن يخسروا، بل سيكونون هم الفائزون؛ ولكن على طريقة غلام الأخدود: (إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك).

 



[1] محمد حسنين هيكل، المشهد الدولي والعربي، ج3، الجزيرة نت 16 - 12 - 2010م. 
[2] المرجع السابق.

 
 

أعلى