وليطوفوا بالبيت العتيق

وليطوفوا بالبيت العتيق


الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ شَعِيرَةٌ مِنْ أَعْظَمِ شَعَائِرِ الْمَنَاسِكِ، وَهُوَ رُكْنٌ فِي الْحَجِّ، وَرُكْنٌ فِي الْعُمْرَةِ، فَلَا حَجَّ إِلَّا بِطَوَافٍ، وَلَا عُمْرَةَ إِلَّا بِطَوَافٍ، وَلَا تَصِحُّ النيابةُ فِيـهِ، فَالعاجِز يطاف بِهِ مَحْمُولاً، نقل الإجماعَ عليه ابنُ المنذر فقال: «وأجمعوا على أن المريض يطاف به، ويجزئ عنه، وانفرد عطاء، فقال: يستأجر من يطوف عنه»[1]. فالخلاف فيه ضعيف، لم ينقل عن غير عطاء، رحمه الله.

وأما إذا تعذر الطواف به محمولاً؛ كمن أصيب قبل الطواف إصابة تمنعه من إكمال النسك مطلقاً ودائماً فإنه يستنيب من يكمل النسك عنه.

سئل شهاب الدين الرملي الشافعي عن حاج ترك طواف الإفاضة وجاء إلى مصر - مثلاً - ثم صار معضوباً بشرطه؛ فهل يجوز له أن يستنيب في هذا الطواف أو في غيره من ركن أو واجب؟

فأجاب بأنه: «يجوز له ذلك، بل يجب عليه؛ لأن الإنابة إذا أجزأت في جميع النسك ففي بعضه أولى، لا يقال النسك عبادة بدنية فلا يبنى فيه فعل شخص على فعل غيره؛ لأن محله عند موته أو قدرته على تمامه. وأما عند العجز عنه فيبني، فقد قالوا: إن الحاج لو وقف بعرفة مجنوناً وقع حجه نفلاً، واستشكل بوقوف المغمى عليه، فأجيب بأن الجنون لا ينافي الوقوع نفلاً، بخلاف المغمى عليه. وقالوا: إن للولي أن يُحرم عن المجنون ابتداء، ففي الدوام أولى أن يتم حجه ويقع نفلاً بخلاف المغمى عليه، وقالوا إن للولي أن يُحرم عن الصبي المميز وغير المميز والمجنون ويفعل ما عجز كل منهما عنه، ففي هاتين المسألتين تم النسك النفل بالإنابة، مع أنه لا إثم على من وقع له بترك إتمامه بخلاف مسألتنا لقوله صلى الله عليه وسلم : «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» ولأن الميسور لا يسقط بالمعسور، وقالوا: إن مَن عجز عن الرمي وقته وجب عليه أن يستنيب فيه وعللوه بأن الاستنابة في الحج جائزة، وكذلك في أبعاضه، فنزَّلوا فعل مأذونه منزلة فعله، فإذا كان هذا في الواجب الذي يجبر تركه ولو مع القدرة عليه بدم، فكيف بركن النسك؟ وإنما امتنع إتمام نسك من مات في أثنائه لخروجه عن الأهلية بالكلية»[2].

وقال الشيخ ابن باز - رحمه الله -: «إذا تكلف وأحرم، وجاء وعجز لكبر سنه أو مرضه الذي لا يرجى برؤه؛ استناب من يكمل عنه الحج لعجزه عن ذلك، وأما ما دام يستطيــــع أن يكمـــــل بنفســـــه أو محمـــــولاً فإنه يكمل»[3].

وَالطَّوَافُ اخْتُصَّتْ بِهِ الْكَعْبَةُ دُونَ غَيْرِهَا، كَمَا اخْتُصَّتْ بِالصَّلَاةِ إِلَيْهَا؛ فَالطَّوَافُ بِهَا تَوْحِيدٌ، وَالطَّوَافُ بِغَيْرِهَا شِرْكٌ. وَعِلَّةُ ذَلِكَ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَمَرَ بِالطَّوَافِ حَوْلَ الْكَعْبَةِ فَصَارَ عِبَادَةً، وَنَهَى عَنِ الطَّوَافِ بِغَيْرِهَا فَصَارَ شِرْكاً، وَأَمَرَ سُبْحَانَهُ الْخَلِيلَ - عليه السلام - بِبِنَاءِ الْبَيْتِ وَتَطْهِيرِهِ لِهَذِهِ الْغَايَةِ: {وَإذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26] فَنَسَبَ - سُبْحَانَهُ - الْبَيْتَ إِلَيْهِ، فَالطَّائِفُ يَطُوفُ بِبَيْتِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَكَفَى بِذَلِكَ شَرَفاً وَفَضْلاً، وَفِي مَنَاسِكِ الْحَجِّ قَالَ اللهُ - تَعَالَى -: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29].

وَجَاءَتْ عِلَّةُ مَشْرُوعِيَّةِ الطَّوَافِ مَنْصُوصاً عَلَيْهَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ إذ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «إِنَّمَا جُعِلَ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالمرْوَةِ وَرَمْيُ الْجِمَارِ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ»[4].

وَالتَّطَوُّعُ بِالطَّوَافِ لِلْقَادِمِ إِلَى مَكَّةَ أَفْضَلُ مِنْ نَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ؛ لِأَنَّهُ يَتَنَفَّلُ بِالْعِبَادَاتِ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَلَا يَتَأَتَّى لَهُ الطَّوَافُ إِلَّا فِي الْبَيْتِ، فَإِنْ كَانَ زِحَامٌ تَعَبَّدَ بِغَيْرِ الطَّوَافِ لِئَلَّا يُزَاحِمَ أَهْلَ النُّسُكِ. عن أبي بكر بن أبي موسى قال: سئل ابن عباس، عن الطواف أفضل أم الصلاة؟ فقال: «أما أهل مكة فالصلاة، وأما أهل الأمصار فالطواف»[5]. وعن سعيد بن جبير قال: «الطواف للغرباء أحب إليَّ من الصلاة»[6]، وعن حجاج قال: سألت عطاء فقال: «أما أنتم فالطواف، وأما أهل مكة فالصلاة»[7]، وعن عمر بن ذر قال: سمعت مجاهداً يقول: «الصلاة لأهل مكة أفضل، والطواف لأهل الآفاق»[8]، وقال القرافي: «وقد صرح مالك بأن الطواف للغـرباء أفضل من الصلاة بخلاف المكيين»[9]. ونَقل عن ابن القاسم قوله: «الطواف للغرباء أولى من الصلاة لأنهم يجدون الصلاة ببلدهم»[10]. وقال ابن قدامة: «يستحب لمن أتى مكة أن يطوف بالبيت؛ لأن الطواف بالبيت صلاة، والطواف أفضل من الصلاة، والصلاة بعد ذلك. يروى عن ابن عباس، قال: الطواف لكم يا أهل العراق، والصلاة لأهل مكة»[11].

والناس إزاء الطواف على أقسام ثلاثة:

• فَقِسْمٌ أَنْكَرُوهُ إِمَّا جَهْلاً وَإِمَّا اسْتِكْبَاراً، وَعَدُّوهُ مِنْ تُرَاثِ الْوَثَنِيَّةِ، وَهُمْ غَالِبُ أُمَمِ الْأَرْضِ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْعَلْمَانِيِّينَ الْعَرَبِ، وَهُمْ المنْكِرُونَ لِلتَّوْحِيدِ، الْمَحْرُومُونَ مِنْهُ، لَا يُؤْمِنُونَ بِالْإِسْلَامِ وَلَا بِالْقُرْآنِ.

• وَقِسْمٌ يَطُوفُونَ بِالْكَعْبَةِ وَيَطُوفُونَ بِغَيْرِهَا مِنَ الْأَضْرِحَةِ وَالْقُبُورِ وَنَحْوِهَا، وَهُمْ كَثِيرٌ فِي الْبِلَادِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَهَؤُلَاءِ خَلَطُوا تَوْحِيدَهُمْ بِالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ بِشِرْكٍ حِينَ طَافُوا بِمَا لَا يَجُوزُ الطَّوَافُ بِهِ.

وَقِسْمٌ هَدَاهُمُ اللهُ تَعَالَى لِلتَّوْحِيدِ، وَنَجَّاهُمْ مِنَ الشِّرْكِ، فَطَافُوا بِالْبَيْتِ الْحَرَامِ امْتِثَالاً لِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى، وَتَرَكُوا الطَّوَافَ بِغَيْرِهِ؛ اجْتِنَاباً لِنَهْيِهِ، وَهُمْ أَكْثَرُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَلِلهِ الْحَمْدُ وَالْفَضْلُ.

فالطَّوَافَ بِالْبَيْتِ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ لِمَنْ هُدِيَ إِلَيْهَا، وَأَخْلَصَ فِيهَا، وَلَا تَتِمُّ هَذِهِ النِّعْمَةُ إِلَّا بِاجْتِنَابِ الطَّوَافِ بِغَيْرِهِ، وَهَذَا الِامْتِحَانُ الْعَظِيمُ دَالٌّ عَلَى التَّسْلِيمِ لِشَرْعِ اللهِ تَعَالَى، وَالِانْقِيَادِ لِدِينِهِ، وَامْتِثَالِ أَمْرِهِ.

أنواع الطواف وشروطه:

الطَّوَافُ أَنْوَاعٌ: فَطَوَافٌ لِلْعُمْرَةِ، وَطَوَافٌ لِلْقُدُومِ فِي الْحَجِّ، وَطَوَافٌ لِلْإِفَاضَةِ وَهُوَ رُكْنُ الْحَجِّ، ويسمى طواف الزيارة، وطواف الحج، وَطَوَافٌ لِلْوَدَاعِ، وَطَوَافُ تَطَوُّعٍ. وَقَدْ جَاءَ فِي فَضْلِ الطَّوَافِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  يَقُولُ: «مَنْ طَافَ بِهَذَا البَيْتِ أُسْبُوعاً فَأَحْصَاهُ كَانَ كَعِتْقِ رَقَبَةٍ». أُسْبُوعاً؛ أَيْ: سَبْعَةُ أَشْوَاطٍ. وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «لَا يَضَعُ قَدَماً وَلَا يَرْفَعُ أُخْرَى إِلَّا حَطَّ اللَّهُ عَنْهُ خَطِيئَةً وَكَتَبَ لَهُ بِهَا حَسَنَةً»[12].

أما شروطه فهي:

أولاً: أن يكون سَبْعَةَ أَشْوَاطَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ، أي َيَطُوفُ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ مِنَ الْحَجَرِ إِلَى الْحَجَرِ، لَا يُنْقِصُ مِنْهَا، وَلَا يَزِيدُ عَلَيْهَا؛ لقول الله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29٩٢]، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم : «لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلِّي لا أحجُّ بعد حجتي هذه»[13].

واشتراط أن تكون سبعة أشواط هو قول جمهور العلماء لفعل النبي صلى الله عليه وسلم . قال القرافي: «من شروط الطواف إكمال العدد وهو معلوم من ضرورة الدين»[14].

والأحناف يرون أن الفرض هو طواف أكثر الأشواط، وأما الإتمام فواجب وليس بفرض، بناء على قاعدتهم: أن الأكثر يقوم مقام الكل. قال الكاساني: «وأما مقداره فالمقدار المفروض منه هو أكثر الأشواط، وهو ثلاثة أشواط، وأكثر الشوط الرابع، فأما الإكمال فواجب، وليس بفرض حتى لو جامع بعد الإتيان بأكثر الطواف قبل الإتمام لا يلزمه البدنة، وإنما تلزمه الشاة وهذا عندنا»[15].

ثانياً: أن يجعل البَيتَ عَنْ يَسَارِه، وهو قول جمهور العلماء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم  فعل ذلك، والصحابة ومن بعدهم، قال ابن عبد البر: «فإن لم يطف كما ذكرنا، ونكس طوافه لم يجزه، وكان عليه إعادته»[16]. وقال أبو القاسم العبدري: «عد ابن شاس من شروط الطواف الترتيب وهو أن يجعل البيت على يساره ولو جعله على يمينه لم يصح»[17].

 وقال النووي - رحمه الله -: «الترتيب عندنا شرط لصحة الطواف بأن يجعل البيت عن يساره ويطوف على يمينه تلقاء وجهه، فإن عكسه لم يصح»[18]. والحنابلة جعلوه شرطاً لصحة الطواف[19].

والأحناف يخالفون الجمهور ويرون ذلك واجباً يجبر بدم، وليس شرطاً لصحة الطواف، قال ابن الهمام: «وأما جعل البيت عن يساره فاختلف فيه والأصح الوجوب بفعله صلى الله عليه وسلم  كذلك على سبيل المواظبة من غير ترك في الحج وجميع عمره مع ما ذكرنا أن ما فعله صلى الله عليه وسلم  في موضع التعليم يحمل على الوجوب إلى أن يقوم دليل على عدمه خصوصاً اقتران ما فعله في الحج بقوله: خذوا عني مناسككم، فعليه أن يعيد فإن لم يعد حتى رجع إلى أهله لزمه دم»[20].

ثالثاً: أَنْ يَطوف دَاخِلَ الْمَسْجِدِ لأن النبي صلى الله عليه وسلم  طاف داخل المسجد، وقد قال: «لتأخذوا مناسككم» ونقل النووي عليه الإجماع فقال: «واتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على أنه يجوز التباعد ما دام في المسجد، وأجمع المسلمون على هذا، وأجمعوا على أنه لو طاف خارج المسجد لم يصح»[21]. وقال أيضاً: «واتفقوا على أنه لو طاف خارج المسجد لم يصح طوافه بحال»[22].

رابعاً: أَنْ يَكُونَ الطواف مِنْ وَرَاءِ الْحِجْر، وذلك لأن الحِجْر من الكعبة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم  يطوف من ورائه. قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: «من طاف بالبيت فليطف من وراء الحجر»[23]. وفي لفظ لابن خزيمة: عن ابن عباس قال: «الحجر من البيت؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم  طاف بالبيت من ورائه، وقال الله: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]». قال ابن خزيمة عقبه: «هذه اللفظة الحجر من البيت من الجنس الذي أعلمت في غير موضع من كتبنا أن الاسم باسم المعرفة بالألف واللام قد يقع على بعض الشيء، والنبي صلى الله عليه وسلم  أمر عائشة أن تصلي في الحجر، وقال: «الحجر من البيت» أراد بعض الحجر لا كله، وابن عباس - رحمه الله - لم يرد بقوله الحجر من البيت جميع الحجر، وإنما أراد بعضه على ما خبرت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم  أن بعض الحجر من البيت لا جميعه»[24].

والدليل أن الحجر من الكعبة حديث عبد الله بن عمر، عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال لها: «ألم تري أن قومك لما بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم؟»، فقلت: يا رسول الله! ألا تردها على قواعد إبراهيم؟ قال: «لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت»، فقال عبد الله - رضي الله عنه -: لئن كانت عائشة رضي الله عنها سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم  ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم  ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر إلا أن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم»[25].

خامساً: إِذَا كَانَ لِلطَّوَافِ وَقْتٌ فَفِي وَقْتِهِ كَطَوَافِ الْإِفَاضَةِ؛ أي: لا يكون قبل وقته المشروع، وهذا متفــق عليــه بيــن الفقهــاء، ولكنهــم اختلفــوا فــي بدايــة وقتــه ونهايتـــه:

قال الكاساني: «وأما زمان هذا الطواف، وهو وقته فأوله حين يطلع الفجر الثاني من يوم النحر بلا خلاف بين أصحابنا حتى لا يجوز قبله... وليس لآخره زمان معين مؤقت به فرضاً بل جميع الأيام، والليالي، وقته فرضاً بلا خلاف بين أصحابنا لكنه مؤقت بأيام النحر وجوباً في قول أبي حنيفة حتى لو أخَّره عنها فعليه دم عنده، وفي قول أبي يوسف، ومحمد غير مؤقت أصلاً، ولو أخَّره عن أيام النحر لا شيء عليه»[26].

وقال النووي: «قـــد ذكرنـا أنه يدخــل وقـــــت طواف الإفاضـة بنصــف ليلة النحــر، وهذا لا خلاف فيه عندنا»[27].

وقال ابن قدامة: «وأول وقته بعد نصف الليل من ليلة النحر؛ لحديث أم سلمة، والأفضل فعله يوم النحر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم  لما رمى الجمرة أفاض إلى البيت في حديث جابر. وإنْ أخَّره جاز؛ لأنه يأتي به بعــــــد دخـول وقته»[28].

سادساً: سَتْرُ الْعَوْرَةِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : «أَلاَ لاَ يَحُجُّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ، وَلاَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ»[29].

سابعاً: الطهارة من الحدث، وهي شَرْطٌ لِصِحَّةِ الطَّوَافِ عند جماهير العلماء. قال النفراوي المالكي: «شروط الطواف هي: الطهارة من الحدث والخبث، وستر العورة. فلو طاف محدثاً ولو عجزاً أو نسياناًَ أو أحدث من حال طوافه ابتدأه ويرجع له ولو من بلده إن كـــان الطواف ركناً...»[30].

وقال الشيرازي: «ومِن شرطِ الطواف الطهارة لقوله صلى الله عليه وسلم : «الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله تعالى أبــاح فيـــه الكلام»[31].

وقال النووي: «يشترط لصحة الطواف الطهارة من الحدث والنجس في الثوب والبدن والمكان الذي يطؤه في طوافه، فإن كان محدثاً أو مباشراً لنجاسة غير معفو عنها لم يصح طوافه»[32].

وقال المرداوي: «إذا طاف محدثاً، فالصحيح من المذهب وعليه الأصحاب أنه لا يجزيه، قال القاضي وغيره: هو كالصلاة في جميع الأحكام إلا فـــي إباحـــــة النطق»[33].

ولم يجعل الأحناف الطهارة شرطاً لصحة الطواف، وقالوا بوجوبها، قال السرخسي: «طواف المحدث معتدٌّ به عندنا، ولكن الأفضل أن يعيده، وإن لم يعده فعليه دم»[34].

واختار ابن تيمية أن الطهارة للطواف ليست شرطاً ولا واجباً، وإنما مستحبة، فقال: «فمن أوجب له الطهارة الصغرى فلا بد له من دليل شرعي وما أعلم ما يوجب ذلك. ثم تدبرت وتبين لي أن طهارة الحدث لا تشترط في الطواف ولا تجب فيه بلا ريب ولكن تستحب فيه الطهارة الصغرى؛ فإن الأدلة الشرعية إنما تدل على عدم وجوبها فيه، وليس في الشريعة ما يدل على وجوب الطهارة الصغرى فيه»[35].

من سنن الطواف وأحكامه:

وَالسنة في طَوَاف الْعُمْرَةِ وَطَوَاف الْقُدُومِ فِي الْحَجِّ بالِاضْطِبَاعِ فِيهِمَا، وَهُوَ إِخْرَاجُ الْكَتِفِ الْأَيْمَنِ فِي الْإِحْرَامِ، قال ابن قدامة: «ومعنى الاضطباع: أن يضع وسط الرداء تحت عاتقه الأيمن، ويجعل طرفيه على منكبه الأيسر، ويبقى منكبه الأيمن مكشوفاً»[36]، وَبالرَّمَلِ فِي الْأَشْوَاطِ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ مِنْها، وَهُوَ الْإِسْرَاعُ فِي الْمَشْيِ مَعَ تَقَارُبِ الْخُطَى، وَتَحْرِيكُ الْمَنْكِبَيْنِ، قال ابن قدامة: «معنى الرمل: إسراع المشي مع مقاربة الخطو من غير وثب. وهو سنة في الأشواط الثلاثة الأول من طواف القدوم، ولا نعلم فيه بين أهل العلم خلافاً»[37].

وَكَانَتِ الْحِكْمَةُ مِنْهُمَا إِغَاظَةَ المشْرِكِينَ، وَإِظْهَارَ الْقُوَّةِ لَهُمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رضي الله عنه -: «قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم  وَأَصْحَابُهُ مَكَّةَ، وَقَدْ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ، قَالَ المشْرِكُونَ: إِنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ غَداً قَوْمٌ قَدْ وَهَنَتْهُمُ الْحُمَّى، وَلَقُوا مِنْهَا شِدَّةً، فَجَلَسُوا مِمَّا يَلِي الْحِجْرَ. وَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم  أَنْ يَرْمُلُوا ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ، وَيَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ، لِيَرَى الْمُشْرِكُونَ جَلَدَهُمْ، فَقَالَ المشْرِكُونَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّ الْحُمَّى قَدْ وَهَنَتْهُمْ، هَؤُلَاءِ أَجْلَدُ مِنْ كَذَا وَكَذَا»[38]. وعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنه - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  إِذَا طَافَ الطَّوَافَ الأَوَّلَ خَبَّ ثَلاَثاً وَمَشَى أَرْبَعاً» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ[39].

وَبَقِيَتْ هَاتَانِ السُّنَّتَانِ حَتَّى بَعْدَ ذَهَابِ سَبَبِهِمَا؛ لِلتَّذْكِيرِ بِنِعْمَةِ اللهِ تَعَالَى عَلَى المؤْمِنِينَ؛ إِذْ قَوَّاهُمْ بَعْدَ الضَّعْفِ؛ وَلِتَرْسِيخِ إِغَاظَةِ أَهْلِ الشِّرْكِ فِي وِجْدَانِ المسْلِمِ؛ لِيَتَذَكَّرَ وَهُوَ يُطَبِّقُ هَاتَيْنِ السُّنَّتَيْنِ أَنَّ إِغَاظَةَ الْمُشْرِكِينَ أَصْلٌ فِي دِينِنَا، وَأَنَّهَا مِنَ التَّوْحِيدِ. قَالَ عُمَرُ ابْنُ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه -: «فِيمَ الرَّمَلانُ الْآنَ، وَالْكَشْفُ عَنِ الْمَنَاكِبِ، وَقَدْ أَطَّأَ اللهُ الْإِسْلامَ، وَنَفَى الْكُفْرَ وَأَهْلَهُ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا نَدَعُ شَيْئاً كُنَّا نَفْعَلُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم »[40].

وَالطَّائِفُ بِالْبَيْتِ يَبْتَدِئُ طَوَافَهُ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَيَسْتَلِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ إِنِ اسْتَطَاعَ، يَفْعَلُ ذَلِكَ طَاعَةً لِلهِ تَعَالَى، وَتَعْظِيماً لِأَمْرِهِ، لَا تَعْظِيماً لِحَجَرٍ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ، كَمَا فَعَلَ الْفَارُوقُ عُمَرُ رضي الله عنه؛ فَإِنَّهُ جَاءَ إِلَى الحَجَرِ الأَسْوَدِ فَقَبَّلَهُ، فَقَالَ: «إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ، لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ، وَلَوْلاَ أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم  يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ»[41].

وَيَقُولُ إذَا اسْتَلَمَهُ: «بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ»، وَإِنْ شَاءَ قَالَ: «اللَّهُمَّ إيمَاناً بِك وَتَصْدِيقاً بِكِتَابِك وَوَفَاءً بِعَهْدِك وَاتِّبَاعاً لِسُنَّةِ نَبِيِّك مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم »[42].

وَهَذَا الدُّعَاءُ يُؤَكِّدُ مَسْأَلَةَ التَّوْحِيدِ الْكُبْرَى وَهِيَ الِامْتِثَالُ وَالطَّاعَةُ لِلهِ تَعَالَى الَّتِي كَانَتْ فُرْقَاناً بَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالشِّرْكِ. فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِلَامِهِ وَتَقْبِيلِهِ أَشَارَ إِلَيْهِ، كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، قَالَ: «طَافَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم  بِالْبَيْتِ عَلَى بَعِيرٍ، كُلَّمَا أَتَى عَلَى الرُّكْنِ أَشَارَ إِلَيْهِ»[43]. وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه السُّجُودُ عَلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ[44].

فَالرُّكْنُ الْأَسْوَدُ يُسْتَلَمُ وَيُقَبَّلُ، وَالْيَمَانِيُّ يُسْتَلَمُ وَلَا يُقَبَّلُ، وَالْآخَرَانِ لَا يُسْتَلَمَانِ وَلَا يُقَبَّلَانِ، وَالِاسْتِلَامُ هُوَ مَسْحُهُ بِالْيَدِ[45].

قال شيخ الإسلام: «اتفق المسلمون على أنه لا يشرع الاستلام ولا التقبيل إلا للركنين اليمانيين؛ فالحجر الأسود يستلم ويقبَّل واليماني يستلم. وقد قيل: إنه يقبَّل وهو ضعيف. وأما غير ذلك فلا يشرع استلامه ولا تقبيله؛ كجوانب البيت والركنين الشاميين، ومقام إبراهيم والصخرة والحجرة النبوية وسائر قبور الأنبياء والصالحين»[46]. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنه - قَالَ: «لَمْ أَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم  يَسْتَلِمُ مِنَ البَيْتِ إِلَّا الرُّكْنَيْنِ اليَمَانِيَّيْنِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ[47].

وَالسُّنَّةُ أَنْ يَقْتَرِبَ مِنَ الْكَعْبَةِ حَالَ الطَّوَافِ إِلَّا إِذَا كَانَ زِحَامٌ وَلَا يَسْتَطِيعُ الرَّمَلَ فَيَبْتَعِدُ وَيَرْمُلُ، فَالرَّمَلُ مَعَ الْبُعْدِ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ مَعَ الْقُرْبِ، قال ابن قدامة: «يستحب الدنو من البيت؛ لأنه هو المقصود، فإن كان قرب البيت زحام فظن أنه إذا وقف لم يؤذِ أحداً وتمكن من الرمل وقف ليجمع بين الرمل والدنو من البيت، وإن لم يظن ذلك وظن أنه إذا كان في حاشية الناس تمكن من الرمل فعل، وكان أولى من الدنو، وإن كان لا يتمكن من الرمل أيضاً أو يختلط بالنساء فالدنو أولى، ويطوف كيفما أمكنه وإذا وجد فرجة رمل فيها»[48].

وقال النووي: «قال أصحابنا: فإن تعذَّر على الرجل القرب من الكعبة مع الرمل للزحمة فإن رجا فرجة استحب أن ينتظرها ليرمل إن لم يؤذِ بوقوفه أحداً وإن لم يرجُها فالمحافظة على الرمَل مع البعد عن البيت أفضل من القرب بلا رمَل»[49].

ويكثر من ذكر الله تعالى أثناء الطواف، قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - رحمه الله -: «وَيُسْتَحَبُّ لَهُ فِي الطَّوَافِ أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى وَيَدْعُوَهُ بِمَا يُشْرَعُ، وَإِنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ سِرّاً فَلَا بَأْسَ، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرٌ مَحْدُودٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم  لَا بِأَمْرِهِ وَلَا بِقَوْلِهِ وَلَا بِتَعْلِيمِهِ. بَلْ يَدْعُو فِيهِ بِسَائِرِ الْأَدْعِيَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَمَا يَذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مِنْ دُعَاءٍ مُعَيَّنٍ تَحْتَ الْمِيزَابِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَلَا أَصْلَ لَهُ. وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم  يَخْتِمُ طَوَافَهُ بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201] كَمَا كَانَ يَخْتِمُ سَائِرَ دُعَائِهِ بِذَلِكَ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ ذِكْرٌ وَاجِبٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ»[50].

والسنة أن يُصَلِّي خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ - رضي الله عنه -: «قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم  فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعاً، وَصَلَّى خَلْفَ المَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، وَطَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ، وَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ»[51]. فَإِنْ كَانَ وقت زِحَام صَلَّى فِي أَيِّ مَكَانٍ خَالٍ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَلَا يُضَايِقُ الطَّائِفِينَ، فَإِنْ كَانَ الْحَرَمُ مُمْتَلِئاً أَوْ وَقَعَ مِنْهُ حَدَثٌ يَحْتَاجُ إِلَى وُضُوءٍ صَلَّى رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ فِي بَيْتِهِ أَوْ خَيْمَتِهِ. وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَيَرْجِعَ لِيُصَلِّيَهُمَا، وَيَعْسُرُ ذَلِكَ جِدّاً وَقْتَ الزِّحَامِ، فَيَتَأَذَّى وَيُؤْذِي غَيْرَهُ؛ لما روى مالك عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف: أن عبد الرحمن بن عبد القاري أخبره أنه «طاف مع عمر بعد صلاة الصبح بالكعبة فلما فرغ عمر من طوافه نظر فلم يرَ الشمس فركب، ولم يسبح حتى أناخ بذي طوى، فصلى ركعتين على طوافه»[52].

قال ابن قدامة: «وحيث ركعهما ومهما قرأ فيهما جاز؛ فإن عمر ركعهما بذي طوى. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال لأم سلمة: إذا أقيمت صلاة الصبح، فطوفي على بعيرك والناس يصلون ففعلت ذلك، فلم تصل حتى خرجت»[53]. وقال أيضاً: «والموالاة غير معتبرة بين الطواف والركعتين، بدليل أن عمر صلاهما بذي طوى، وأخَّرت أم سلمة ركعتي طوافها حين طافت راكبة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخَّر عمر بن عبد العزيز ركوع الطواف حتى طلعت الشمس»[54].

وَالسُّنَّةُ أَنْ يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ خَلْفَ الْمَقَامِ إِنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ؛ لحديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر - رضي الله عنه - قال: «حتى إذا أتينا البيت معه، استلم الركن فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام، فقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] فجعل المقام بينه وبين البيت، فكان أبي يقول - ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم : كان يقرأ في الركعتين قل هو الله أحد وقل يا أيها الكافرون، ثم رجع إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب إلى الصفا»[55].

وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِالطَّوَافِ فَيَقْرِنَ طَوَافَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ لَا يُصَلِّي سُنَّةَ الطَّوَافِ إِلَّا بَعْدَهَا جَمِيعاً فَلَا بَأْسَ، فَقَدْ فَعَلَهُ جَمْعٌ مِنَ السَّلَفِ؛ لِأَنَّ الطَّائِفَ وَهُوَ يَمْشِي يَنْشَطُ عَلَى الطَّوَافِ مَرَّاتٍ عِدَّةً، فَرُبَّمَا لَوْ صَلَّى لِكُلِّ طَوَافٍ بَعْدَ انْتِهَائِهِ مِنْهُ ثَقُلَ وَلَمْ يَطُفْ مَرَّةً أُخْرَى.

عن محمد بن السائب بن بركة المكي، عن أمه: «أنها طافت مع عائشة بالبيت ثلاثة أسابع لا تصلي بينهن فلما فرغت صلت لكل سبع ركعتين»[56] وعن ابن طاوس: «أن أباه كان لا يرى بقرن الطواف بأساً، وربما فعله»[57].

وعن ابن جريج قال: «كان عطاء لا يرى بقرن الطواف بأساً، ويفتي به ويذكر «أن طاوساً، والمسور بن مخرمة كانا يفعلانه» قال: وسأل إنسان عطاء، عن طواف الأسبع ليس بينهن ركوع حتى يركع عليهن ركوعهن بعدما يفرغ منهن قال: «بلغني ذلك عن المسور بن مخرمة، وعن طاوس وما أظن ذلك إلا شيئاً بلغهما» قلت: لعطاء: ما بلغك ذلك عن غيرهما؟ قال: قال: «وما لي لو فعلته؟ قال: ما أظن بذلك بأساً لو فعلته» قال ابن جريج: وقال عمرو بن دينار بلغني عن المسور بن مخرمة «أنه كان يطوف الأسبع لا يركع بينهن»[58].

وسئل الإمام أحمد عن الرجل يقرن الطواف؟ فرخص فيه، وقال: قد قرنت عائشة والمسور بن مخرمة[59].

 وَعَلَى مَنْ يَطُوفُ تَطَوُّعاً أَنْ يُرَاعِيَ مَسْأَلَةَ الزِّحَامِ، فَلَا يُضَايِقُ مَنْ يَطُوفُونَ لِأَنْسَاكِهِمْ.

وَإِنْ شَكَّ فِي عَدَدِ الْأَشْوَاطِ الَّتِي طَافَهَا عَمِلَ بِالْيَقِينِ وَاطَّرَحَ الشَّكَّ، فَإِنْ كَانَ شَكُّهُ بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْمَطَافِ فَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى شَكِّهِ، لأن ورود الشَّكِّ والذِّمَّة قد برئت لا يُلتفت إليه[60].

وَمَنْ صَلَّى دَاخِلَ الْحِجْرِ كَانَ كَمَنْ صَلَّى دَاخِلَ الْكَعْبَةِ؛ لِأَنَّ جُزْءاً مِنْ الْحِجْرِ هُوَ مِنَ الْكَعْبَةِ.

وَالدُّعَاءُ الْجَمَاعِيُّ فِي الطَّوَافِ يُنْهَى عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ مُحْدَثٌ، وَيُشَوِّشُ عَلَى الطَّائِفِينَ، وَخَاصَّةً مَعَ رَفْعِ الْأَصْوَاتِ بِهِ. وَالْأَصْلُ فِي الدُّعَاءِ أَنْ يَكُونَ خُفْيَةً، وَأَنْ يَدْعُوَ الطَّائِفُ بِمَا يُنَاسِبُهُ، وَحَاجَاتُ النَّاسِ تَخْتَلِفُ {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إنَّهُ لا يُحِبُّ الْـمُعْتَدِينَ} [الأعراف: ٥٥].

وَتَشْتَدُّ حُرْمَةُ الْمُحَرَّمَاتِ إِذَا وَقَعَتْ فِي الطَّوَافِ كَإِطْلَاقِ الْبَصَرِ فِي النَّظَرِ إِلَى النِّسَاءِ، أَوِ الْكَلَامِ بِمُحَرَّم كَغِيبَةٍ أَوْ نَمِيمَةٍ أَوْ كَذِبٍ، وَكَذَلِكَ تَحْرُمُ الْخُصُومَةُ فَضْلاً عَنِ المشَاجَرَةِ، وَيَقَعُ ذَلِكَ مَعَ شِدَّةِ الزِّحَامِ؛ فَعَلَى الطَّائِفِ أَنْ يُجِلَّ بَيْتَ اللهِ تَعَالَى مِنْ أَنْ يُحْدِثَ فِيهِ حَدَثاً، أَوْ يَرْفَعَ فِيهِ صَوْتاً، أَوْ يَقُولَ هُجْراً؛ فَإِنَّ حُرْمَةَ الْبَيْتِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى عَظِيمَةٌ.

وعِبَادَةُ الطَّوَافِ قد شَرَّفَ اللهُ تَعَالَى بِهَا المسْلِمِينَ فَجَعَلَهَا حَوْلَ بَيْتِهِ، وَجَعَلَهَا لِإِقَامَةِ ذِكْرِهِ، وَدَلِيلاً عَلَى تَوْحِيدِهِ عز وجل. وهي عِبَادَةٌ تَشَرَّفَ بِهَا المؤْمِنُونَ، وَاسْتَنْكَفَ عَنْهَا المسْتَكْبِرُونَ، فَحُرِمُوا مَا فِيهَا مِنْ عَاجِلِ الثَّوَابِ وَآجِلِهِ. وهي عِبَادَةٌ اخْتُصَّتْ بِبَيْتِ الرَّبِّ جَلَّ وَعَلَا الَّذِي بَنَاهُ الْخَلِيلُ عليه السلام، وَطَهَّرَهُ مِنَ الشِّرْكِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم ، وَحَجَّ إِلَيْهِ النَّبِيُّونَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.

وعِبَادَةُ الطَّوَافِ عِبَادَةٌ جَمَعَتْ جُمْلَةً مِنَ الْعِبَادَاتِ الْقَلْبِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ وَاللِّسَانِيَّةِ؛ يَظْهَرُ التَّوْحِيدُ فِي كُلِّ عِبَادَةٍ مِنْهَا؛ لِيَطُوفَ الْقَلْبُ وَالْفِكْرُ فِي عَظَمَةِ اللهِ تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ مُصَاحِباً طَوَافَ الْبَدَنِ حَوْلَ الْكَعْبَةِ؛ فَالْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي هَدَانَا لِعِبَادَتِهِ، وَعَلَّمَنَا شَرِيعَتَهُ، وَنَسْأَلُهُ - سُبْحَانَهُ - أَنْ يَقْبَلَ مِنَّا وَمِنَ المسْلِمِينَ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.

 


 


[1] الإجماع (ص: 56).

[2] فتاوى الرملي (2/ 93-94).

[3] فتاوى نور على الدرب (18/8).

[4] رواه أبو داود (1888) والترمذي، وقال: حسن صحيح (902)، وأحمد (24351)، والدارمي (1895)، وصححه ابن خزيمة (2882) وابن الجارود (457). واختلف في رفعه ووقفه؛ قال البيهقي: ورواه أبو قتيبة عن سفيان فلم يرفعه، ورواه يحيى القطان عن عبيد الله فلم يرفعه، وقال: قد سمعته يرفعه ولكني أهابه. ورواه عبد الله بن داود وأبو عاصم عن عبيد الله فرفعاه، ورواه ابن أبي مليكة عن القاسم عن عائشة فلم يرفعه، ورواه حسين المعلم عن عطاء عن عائشة فلم يرفعه السنن الكبرى (5/236).

وفي سنده عبيد الله بن أبي زياد القداح، قال ابن طاهر المقدسي في ذخيرة الحفاظ: والقداح هذا ضعيف (2081) وللاستزادة ينظر: ضعيف أبي داود - الأم، للألباني (328).

[5] رواه ابن أبي شيبة (15042).

[6] رواه ابن أبي شيبة (15041).

[7] رواه ابن أبي شيبة (15043).

[8] رواه ابن أبي شيبة (15044).

[9] الذخيرة (3/ 175).

[10] الذخيرة (3/ 249).

[11] المغني (3/ 477).

[12] رواه الترمذي وقال: حديث حسن (959)، وأحمد (5701)، وصححه الحاكم (1799)، وحسنه الشيخ أحمد شاكر في شرح المسند (5701)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6380).

[13] رواه مسلم (1297).

[14] التاج والإكليل لمختصر خليل: (4/ 90).

[15] بدائع الصنائع: (2/ 132) وينظر: المبسوط (4/45).

[16] الكافي: (1/367).

[17] التاج والإكليل: (4/97-98). وينظر: القوانين الفقهية (89)، ومواهب الجليل: (3/69).

[18] المجموع: (8/60).

[19] ينظر: كشاف القناع (2/485)، دليل الطالب (109)، وكشف المخدرات (1/327).

[20] شرح فتح القدير (3/ 58).

[21] المجموع شرح المهذب (8/ 39).

[22] الإيضاح في مناسك الحج والعمرة (ص: 223).

[23] رواه البخاري (3848).

[24] صحيح ابن خزيمة (2740).

[25] رواه البخاري (1583) ومسلم (1333).

[26] بدائع الصنائع (2/132).

[27] المجموع (8/221).

[28] الكافي (1/ 525).

[29] رواه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: البخاري (1622)، ومسلم (1347).

[30] الفواكه الدواني (1/ 357)، وينظر: التاج والإكليل (4/94).

[31] المهذب في فقة الإمام الشافعي (1/ 403).

[32] المجموع (8/ 15).

[33] الإنصاف (4/ 16).

[34] المبسوط (4/38).

[35] مجموع الفتاوى (26/199).

[36] المغني (1/ 418).

[37] المغني (3/340).

[38] رواه مسلم (1266).

[39] رواه البخاري (1644)، ومسلم (1261).

[40] رواه أحمد (317)، وأبو داود (1887)، وابن ماجة (2952)، وصححه ابن خزيمة (2708) والحاكم وقال: على شرط مسلم (1669).

[41] رواه البخاري (1597)، ومسلم (1270).

[42] فتاوى ابن تيمية (26/120-121).

[43] رواه البخاري (1612).

[44] عن جعفر بن عثمان القرشي، من أهل مكة قال: «رأيت محمد بن عباد بن جعفر قبَّل الحجر وسجد عليه ثم قال: رأيت خالك ابن عباس قبَّله وسجد عليه فقال ابن عباس: رأيت عمر بن الخطاب قبله وسجد عليه ثم قال عمر: لو لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم  قبله ما قبلته» رواه الطيالسي (28) وصححه ابن خزيمة (2714) والحاكم (1672).

[45] ينظر: فتاوى ابن تيمية (26/121).

[46] مجموع الفتاوى (4/ 521).

[47] رواه البخاري (1609)، ومسلم (1267).

[48] المغني (3/ 391).

[49] المجموع (8/ 39).

[50] مجموع الفتاوى (26/122).

[51] رواه البخاري (396)، ومسلم (1234).

[52] الموطأ، ورواه عبد الرزاق في المصنف عن معمر عن الزهري به (9008)، وصححه النووي في المجموع وقال: على شرط البخاري ومسلم (8/50).

[53] المغني (3/ 347-348).

[54] المغني (3/ 349).

[55] رواه مسلم (1218).

[56] رواه عبد الرزاق (9017).

[57] رواه عبد الرزاق (9013).

[58] رواه عبد الرزاق (9014).

[59] مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود السجستاني (ص: 181).

[60] الشرح الممتع (3/ 379) وقال الشيخ ابن عثيمين أيضاً: «أما من شك فإنه يُنظر، إما أن يشك بعد الفراغ من كل الطواف، وإما أن يشك في أثناء الطواف. فإن شك في أثناء الطواف فهل يبني على اليقين، أو على غلبة الظن؟

الجواب: في ذلك خلاف، كالخلاف في من شك في عدد ركعات الصلاة، فمن العلماء من قال: يبني على غلبة الظن؛ ومنهم من قال: يبني على اليقين... والصحيح أنه يعمل بغلبة الظن كالصلاة... أما بعد الفراغ من الطواف، والانصراف عن مكان الطواف، فإن الشك لا يؤثر، ولا يلتفت إليه، ما لم يتيقن الأمر» الشرح الممتع (7/249-250).

  

أعلى