موقف أهل الأهواء من المحكمات
هذا المقال كالذي سبقه[1]،
نعرضه على طريقة الحوار، بسؤال وجواب:
قال لي صاحبي وهو يحاورني: هل ورد مصطلح الأهواء في القرآن، واذكر الآية التي ورد
فيها؟
قلت: في قوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم:
{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ
أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}
[الجاثية: 18]، كما ورد في آياتٍ كثيرة من سورة المائدة.
قال: من هم المخالفون الذين يدخلون في هذا المصطلح القرآني «أهل الأهواء»؟
قلت: جاء لفظ أهل الأهواء شاملاً للمخالفين من الكفار والمنافقين، في قول الله
تعالى لرسوله عليه الصلاة والسلام:
{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ
أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}
[الجاثية: 18]، فهؤلاء المذكورون في الآية من أهل الأهواء هم الذين خالفوا شريعة
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم لا يعلمون الحق وإن زعموا أنهم من أهله، وألحَقَ
بهم أهلُ السنة والجماعة الفرقَ الضالة، من الخوارج والمعتزلة والباطنية، وهؤلاء هم
المعنيون بقوله تعالى:
{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَـجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ
مُخْتَلِفِينَ 118 إلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ
كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْـجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}
[هود: 118، 119]، وقد فصَّل الإمام الشاطبي في تفسير هذه الآية وأدخل فيها الكفار
والمنافقين وأهل الأهواء؛ والجامع بينهم أن خلافهم لأهل السنة والحق والهدى موصوف
بوصفين هما:
أنه خلاف في الأصول. وأنه خلاف مستمر.
قال: لو بينت بالمثال: لكان أوضح!
قلت: نعم، خلاف الكفار لأهل السنة في الأصول ومن ذلك خلافهم في التوحيد، وخلاف
المنافقين في الأصول أيضاً، ومن ذلك تشكيكهم في الوحي، وتركهم التحاكم إليه،
واتهامهم أصحاب رسول الله بأنهم سفهاء، كما في قوله تعالى لما أمرهم أن يؤمنوا كما
آمن الناس الذين تابعوا النبي صلى الله عليه وسلم وأسلموا:
{وَإذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ
السُّفَهَاءُ}
[البقرة: 13]، وهذا طعن في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما خلاف أهل
الأهواء لأهل السنة من بقية الفرق الضالة، فهو على درجات، أعلاها مخالفة الفرق
الباطنية لأهل السنة في التوحيد، وفي التشريع إذ يزعمون لأئمتهم العصمة، وأن الوحي
لهم لم ينقطع، وكذلك شابهوا المنافقين في الطعن في صحابة رسول الله صلى الله عليه
وسلم، واعتقادهم في الصحابة فاسد، وهو تكذيب للقرآن في تزكية أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وهذا خلاف بيننا وبينهم في الأصول.
وكذلك خلاف بقية الفرق ومنهم من خالف في مفهوم الإيمان والكفر كما هو خلاف الخوارج
في هذين الأصلين، وكذلك خلاف المعتزلة في الصفات، حيث نفوها وأبطلوا صحة رجوعها إلى
الشرع باعتبار أن دلالة نصوصه ظنية ولا تصلح مرجعية لذلك، واتخذوا المناهج المخالفة
مرجعية لهم، وكذلك خلافهم في القدر، كما شابهوا الخوارج في عقيدتهم في الإيمان
والكفر؛ وهذا خلاف في الأصول. كما نلاحظ هنا أنه خلاف مستمر، فيصدق عليه قول الله
«ولا يزالون مختلفين»، حيث عبر بالفعل المضارع الدال على الاستمرار، وهذه الأمثلة
التطبيقية هي بيان وشرح لما ذكره الشاطبي عند تفسير هذه الآية، ومن شاء فليراجع
كلامه في كتابه الاعتصام[2].
قال لي صاحبي: ولكن كثيراً من المتفقهة والدعاة في هذا العصر لا يفهمون هذا الفهم
ويقولون الخلاف سنة طبيعية ويستدلون على ذلك بهذه الآية:
{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَـجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ
مُخْتَلِفِينَ}.
قلت: إن أرادوا بيان استمرار الخلاف بين أهل الحق والباطل، فهذا معنى صحيح، وإن
أرادوا التبرير للخلاف، بين أهل السنة وأهل الباطل فمردود عليهم، وعلى أية حال فهم
قطعاً لم يرجعوا إلى التأصيل العلمي الموجود في كتب المفسرين وإنما يفسرون الآية
بمفاهيمهم العامة، واستدلالهم بهذه الآية ليس في موضعه.
قال: وهل هناك من يهون من الخلاف بين أهل السنة وأهل الأهواء؟
قلت: نعم.
قال: اذكر لي أمثلة تطبيقية تسهل عليَّ فهم هذا الموضوع!
قلت: هناك من يزعم في هذا العصر أن أهل الكتاب يلحقون بأهل الإيمان، لأنهم يؤمنون
بوجود الله، والحق أنهم مع إيمانهم بوجود الله إلا إنهم يشركون به ويخالفوننا في
التوحيد، والدليل على ذلك قوله تعالى:
{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ}
[يوسف: 106].
قال: ما مرجعيتك في تفسير هذه الآية؟
قلت: فسرها ابن عباس رضي الله عنهما لما سأله سائل كيف يؤمنون وهم مشركون؟ قال:
يؤمنون بأن الله خالق رازق ويشركون في عبادته.
قال: وما هي الأمثلة بالنسبة للمنافقين؟
قلت: يزعمون الإيمان ويخالفوننا في الأصول.
قال: ما الدليل على ذلك؟
قلت: قول الله تعالى:
{أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إلَيْكَ
وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ
أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالًا
بَعِيدًا 60 وَإذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإلَى
الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْـمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا}
[النساء: 60، 61].
فخلافهم لنا أننا نتحاكم إلى الشرع ولا نتحاكم إلى غيره وهم تارة يتحاكمون إلى
الشرع وتارة يتحاكمون إلى غيره وهذا خلاف في أصل، فنحن نرى أن الحاكمية لكتاب الله
وسنة رسوله والتحاكم إلى غيرهما ينافي الإيمان لقوله تعالى:
{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ
ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّـمُوا
تَسْلِيمًا }
[النساء: 65]، ولما سبق من تسمية إيمانهم زعماً أي: لا حقيقة له.
قال: بــيّن لي أمثلة تطبيقية عن أهل الأهواء.
قلت: يزعم دعاة الباطنية وكثير من أتباعهم أن الحج إلى غير بيت الله طاعة وقربة
لله، وهذا خلاف لأهل السنة في الأصول لم يقع من كفار قريش فإن كفار قريش لا يرون
الحج إلى غير بيت الله، وإن كانوا يحجون إلى بيت الله وهم مشركون.
وكذلك يخالفوننا في انقطاع التشريع وختم النبوة، فنحن لا نرى العصمة لغير الشرع
(الكتاب والسنة)، وهم يرون العصمة لأئمتهم؛ لأنهم معصومون باستمرار تلقيهم للعلم
اللدني والوحي الذي لا ينقطع عنهم، وكذلك خلاف بقية الفرق فإن خلافها في الأصول،
ولا يزال مستمراً.
قال: لماذا تحصر الانحراف في الفرق وتجمعاتها والمخالفين من الكفار والمنافقين مع
أن الشرك والخلاف في الأصول يقع من غيرهم؟
قلت: هذا سؤال جيد وجوابه: أن هناك من انحرف عن عقيدة أهل السنة في الأصول ولم ينحز
إلى هؤلاء.
قال: حسناً مثل لي؟
قلت: كثير من عباد القبور يخالفوننا في الأصول، ويصرفون العبادة لغير الله بجهلهم
زاعمين أن الأولياء يقربونهم إلى الله زلفى، وهذا الخلاف لا يزال مستمراً، ويصدق
عليه الوصفان، أنه خلاف في أصل وأنه مستمر، ومع ذلك فكثير منهم لم يتّبع طائفة
بعينها وإن كان بعضهم بالجملة يتبع طرائق التصوف الغالي والبدع الأخرى.
قال: فهمت الآن.
قلت: وما الذي فهمته بالتحديد؟
قال: فهمت أن المخالفين السابقين ينضمون إلى كيانات منظمة وفرق مشهورة، وأما هؤلاء
فمنهم ومنهم، وبعضهم انحرافه خاص به؛ لجهله، ولكنه لا ينتظم مع تلك الفرق الباطنية
المعلنة.
قلت: حسناً، وإذا عرفنا أن خلافهم في الأصول عرفنا خطر مخالفتهم لأهل السنة، وظهر
لنا سبب عداوتهم.
قال: ومن المسؤول عن هذا الخلاف؟
قلت: الذي خلافه طارئ ومناقض للأصل الذي كان عليه اجتماع أهل الإسلام من عهد النبي
صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أن عهد النبي وخلفاؤه كان على إقامة أمر الإسلام
بعيداً عن جميع عقائد المخالفين التي ذكرناها سابقاً، ولهذا سماهم الله أهل النجاة
وهم أهل الهدى والرحمة.
قال: ما الدليل على هذين الوصفين، النجاة والرحمة؟
قلت: الدليل هو قول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الفرقة الناجية قال: ما
أنا عليه وأصحابي[3].
وأما الدليل على وصفهم بالرحمة فهو في قول الله تعالى كما في الآية السابقة التي
وردت في سياق الكلام على الكفار قال سبحانه:
{وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ 118 إلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ}
[هود: 118، 119]، والذي يقابل هؤلاء المختلفين هم أهل الرحمة الذين استثناهم الله
في هذه الآية وهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن اتبعهم من أهل السنة
والجماعة، ووصف الرحمة مدح لهم أخرجهم من الوصفين السابقين في الآية وهو الاختلاف
في الأصول، وكذا ديمومته واستمراره.
قال: هل يعني ذلك أنه لم يقع بينهم خلاف؟
قلت: الخلاف الذي وقع بينهم ليس من جنس خلاف هذه الفرق والملل، وإنما هو خلاف ينتهي
مع ظهور الدليل، فهو خلاف لم يضر، وذلك لانقطاعه وعدم استمراره ولأنه ليس في
الأصول.
قال: وما معنى لم يضر؟
قلت: لم يُدخِل على مجتمعاتهم عقائد أهل الأهواء والملل وقد عملوا بقول الله عز
وجل:
{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ
أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}
[الجاثية: 18]، فعملوا بالشريعة وتبرؤوا من أهواء المخالفين قولاً وعملاً وحموا
مجتمعاتهم من آثارها، ويبقى بينهم الخلاف السائغ ويرجحون فيه بناءً على الدليل.
قال: وهل استمر هذا المنهج بعد ذلك؟
قلت: نعم، وقام بحمايته وتجديده المجددون في الإسلام، يدعون الناس إلى الاجتماع على
أصول السنة ويجمعونهم على ذلك، ويحمونهم قولاً وعملاً من المناهج المخالفة.
قال: وهل قام أهل السنة ببيان خطر المذاهب الفكرية المعاصرة وانحرافاتها؟ وهل
مخالفتها في الأصول؟
قلت: نعم، خلافهم مذموم وهو في الأصول ومستمر، وقد بين ذلك علماء السنة في هذا
العصر.
قال: اذكر لي مثالاً أو مثالين.
قلت: المثال الأول العلمانية بشقيها المتدينة والملحدة.
قال: الملحدة أمرها واضح، فما شأن العلمانية المتدينة؟
قلت: تخالفنا في الأصول، فنحن نوجب ونلتزم التحاكم إلى الشريعة قولاً وعملاً، وهم
لا يرون ذلك.
قال: إذن هم من جنس المخالفين من أهل النفاق الذين يزعمون الإيمان ويتحاكمون إلى
غير القرآن.
قلت: نعم، ولا تصح دعوى الإيمان إلا بالصدق والتحاكم إلى الشرع بدون قيد ولا شرط.
وأما المثال الثاني فهو ما سموه الاشتراكية الإسلامية، وهي قائمة على مذهب
الشيوعية، فهؤلاء مخالفتهم في الأصول أيضاً، ومن ذلك مخالفتهم في الملكية الفردية،
وتحاكمهم إلى غير الشرع.
قال: إذن ينطبق عليهم الوصف «ولا يزالون مختلفين»، فخلافهم مستمرٌ وفي الأصول،
والعهدة والمسؤولية عليهم لأنهم خالفوا أصول الإسلام واستمروا في ذلك ولم يستجيبوا
لتحذير علماء الإسلام لهم، وخالفوا الأصل الذي كان عليه أهل الإسلام من قبلهم، ولا
يزالون يزعمون النقص في الإسلام وينقضون محكماته ويصدون الناس عن الحق الذي أنزله
الله على عباده ويعملون على نشر وتطبيع التغريب بين المسلمين.
قلت: وترتب على ذلك إصرار أهل الأهواء على الانتساب للشرعية ونزعها عن أهل السنة،
وهذا يكشف حقيقة الخلاف بيننا وبينهم، فمن لم يمض في ركابهم ويوافق على مسالكهم
وعلى الأقل يصمت عن منكراتهم وتبديلهم للدين ومخالفتهم في الأصول فإنه منحرف خارج
عن الشرعية المزعومة التي ادعوها لأنفسهم بالقوة والاستبداد.
قال: اتضح بجلاء أن ذم أهل الأهواء لأهل السنة والجماعة ومخالفتهم في الأصول ما زال
مستمراً، ومن ذلك أنهم يرموننا بالتطرف والتشدد، ويزعمون أن الحق معهم وأن شرعية
الوجود لهم، وجميع من ذُكِر من المخالفين يتعاونون على ذلك ويتناصرون ضد أهل الحق.
قلت: أحسنت الفهم، وهذا هو المُشترك بينهم وإن اختلفت درجاتهم في الانحراف.
قال: وما الحجة في تحديد الشرعية؟
قلت: الكتاب والسنة.
قال: كلٌّ يدعي السير على الكتاب والسنة!
قلت: الحجة في ذلك العمل بالكتاب والسنة كما عمل بهما النبي عليه الصلاة والسلام
وأصحابه رضوان الله عليهم، ولذلك ضوابط: منها وجوب العلم والعمل بالسنة والاجتماع
عليها، وهذا يُخرج المجتمعين على الجهل والضلال وإن ادّعوا اتباع الكتاب والسنة،
كما يخرج الأعمال المخالفة للسنة، وكذلك يخرج دعاة التصورات والأفكار المجردة
المبنية على قدسية العقل - كما زعم بعض أهل الأهواء - ولهذا سُمِّي أهل السنة أهل
الجماعة، لأنهم يتجمعون على الحق ويدعون الناس إليه ويدافعون عنه وينصرونه ويحمونه
وهذا يخرج المنافقين وأهل الأهواء والذين سماهم الله أهل الفرقة كما في قوله تعالى:
{إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي
شَيْءٍ}
[الأنعام: 159].
ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الفرقة الناجية قال: «ما أنا عليه
وأصحابي»، والذي عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هو العلم بالحق والعمل به
والاجتماع عليه ودعوة المخالفين له، هذا هو خُلُق أهل السنة به عُرفوا وبه مُدِحوا،
ولأجله عاداهم المخالفون.
وأما المخالفون فليس لهم هذا الشرف إلا إذا اهتدوا وعملوا بهذا المنهج وصدقوا في
نصرته والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
قال: هذا حق؛ فليس كل صاحب دعوى تُقبَل دعواه فالذي يُريد الكتاب والسنة يعمل كما
عمل النبي صلى الله عليه وسلم الذي دعا إلى الكتاب والسنة.
قلت: ومن ذلك أيضاً ما بيّنه القرآن من الحجة على المنافقين لما زعموا أنهم يؤمنون
بالكتاب والسنة وهم يخالفونهما، فأمرهم الله بترك الفساد، فادعوا الإصلاح، فقال
لهم:
{وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ
مُصْلِحُونَ}
[البقرة: 11]، وقبلها ادعوا أنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر، فقال الله لهم: إن
كنتم صادقين وتريدون الإصلاح وطريقة الكتاب والسنة فآمنوا كما آمن الناس الذين
اتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم، فطاشت عقول المخالفين، فقالوا: {أَنُؤْمِنُ كَمَا
آمَنَ السُّفَهَاءُ} [البقرة: ٣١]! فلما ردهم إلى العمل بالكتاب والسنة لتصحيح
دعواهم وأمرهم باتباع النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من أهل الحق من أصحابه رضي
الله عنهم نكصوا وانكشف أمرهم. وفيه دليلٌ أيضاً على ما ذكرناه سابقاً من إصرار
المخالفين على نزع الشرعية عن أهل الحق ووصفهم بأنهم سفهاء.
قال: وهذا يؤكد أن المخالفين لا يزالون في كل عصر يعملون على نزع الشرعية عن أهل
الحق، ولهذا يجب علينا أن نحدد موقفنا الشرعي منهم ونبين لهم وللناس انحرافهم عن
الحق والهدى والأسباب التي حملتهم على ذلك، وهذا الذي يقوم به أهل السنة من البيان
إنما هو رغبة في هدايتهم وحماية للمسلمين من شرورهم، ودفاعاً عن أهل السنة
والجماعة.
قلت: هذا هو الواجب لتصحيح مسار الدعوة، ولنصرة أهل السنة والجماعة في كل مكان،
وخاصةً أن المفسدين في هذا العصر عملوا في القرنين السابقين على إدخال المذاهب
الفكرية المنحرفة كالشيوعية والعلمانية والحداثة والوجودية والقومية والبعثية إلى
آخر ما هنالك من العقائد المنحرفة وجعلوا لها شرعية وحموها بالقوانين الوضعية،
وزادوا على ذلك معاقبة من خالفهم في شأنهم العام وتجاوز حدود المسجد وقام بالنصيحة
لهم والإنكار عليهم، وأسقطوا عنه الشرعية ورموه بكل بلية، زاعمين لأنفسهم أنهم أعرف
بالدين وأنهم لا يخالفون الإسلام.
قال: الآن فهمت قول الله تعالى عن هؤلاء وأمثالهم:
{وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى
فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْـمُؤْمِنِينَ 47
وَإذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إذَا فَرِيقٌ
مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ 48 وَإن يَكُن لَّهُمُ الْـحَقُّ يَأْتُوا إلَيْهِ
مُذْعِنِينَ 49 أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن
يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِـمُونَ 50
إنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْـمُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ
لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ
الْـمُفْلِحُونَ}
[النور: 47 - 51].
قلت: نعم، دعوى عريضة لاتباع الكتاب والسنة لا حقيقة لها، وزعمٌ منهم بالإيمان
بالله والرسول والطاعة، وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين، أي إذا كان لهم مصلحة
في الإسلام، وقد بين الله أمرهم في هذه الآيات وكشف أستارهم، ودمغ باطلهم.
قال: فما شأن كثيرٍ من المفكرين المتنورين، والدعاة المنبهرين، والمتفقهة الغافلين
عن الحقيقة يقولون عن هؤلاء أنهم أحرارٌ في الفكر، ويريدون الإصلاح والتوفيق بين
الإسلام والتغريب، وينخدعون بهم ويسيرون في ركابهم؟
قلت: أما المنبهرون بالتغريب فليس هذا منهم بغريب، وأما بعض المتفقهة والدعاة فنقول
لهم: إن شبهة الإصلاح والتوفيق أجاب عنها القرآن كما سبق. كما أن القرآن الحكيم قد
حذر أهل الحق من الجهل والغفلة والتأويلات الفاسدة فقال:
{فَمَا لَكُمْ فِي الْـمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا
كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ
فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا}
[النساء: 88].
ونحن نقول هنا: أتريدون أن تهدوا الذين أفسدوا العالم الإسلامي بتلك المذاهب
المنحرفة بالسكوت عن باطلهم وانحرافهم، وترغبون في صلاحهم مجرد الرغبة، وتشتركون
معهم في الإصلاح المزعوم وبالوسائل والأدوات الغربية، ولا سواء، ففرقٌ بين من يدعو
للإسلام وبين من يحكم بالتغريب قرنين من الزمان، ولكن من ضعفت بصيرته من المسلمين
قلت حيلته، فبدلاً أن يكون رأساً في الإصلاح مستقلاً معتزاً بالإسلام أصبح ذنباً
تابعاً للذين قال الله عنهم:
{وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ
مُصْلِحُونَ}.
قال لي صاحبي: هذه المدة الطويلة لم نر من إصلاح التنويريين والتغريبيين نفعاً
للعالم الإسلامي فقد أضلوه عن مصالحه الحقيقية الدينية والدنيوية، وأما الذين
اغتروا بهم من الإصلاحيين وسعوا في ركابهم وطرائقهم في الإصلاح فقد رجعوا بخفي حنين
وشأنهم معهم كما قال عز وجل:
{كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إلَى الْـمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِه}
[الرعد: 14].
قال: إذن لم تدخل علينا الشرور والآفات إلا عن طريق المخالفين الذين انخدعنا بهم!
قلت: نعم.
قال: وما المخرج؟
قلت: أن نكون على بينة من أمرنا، وندرك أن هؤلاء المخالفين من الكفار يصنعون
المبادئ المنحرفة للتغريب ونشر المذاهب الباطلة والمنافقون يوزعونها ويسوِّقونها
باسم الإصلاح والتطوير، وبقية أهل الأهواء يسهلون الأمر فيها، ومنهم من يحسنها
ويزينها، والجميع ينزعون الشرعية عن أهل السنة ويحاربونهم مادياً وفكرياً، هذه
حقيقةٌ مرةٌ ولكن لا بد أن نكشفها ونُحذّر من هؤلاء جميعاً ونحْذَر منهم، ونقول لمن
ينزعون عن أهل السنة الشرعية: رمتني بدائها وانسلت.
قال: ضربت لنا نماذج معاصرة، فهلا ضربت لنا نماذج سبقت في التاريخ!
قلت: أفعل، النموذج الأول من العهد المكي، فقد نشأت الحرب المادية والفكرية ضد
المهتدين من المسلمين الأوائل وانطلقت من العهد المكي بزعامة كفار قريش التي كانت
تدعي أنها على ملة إبراهيم الشرعية، وقد وسّعت قريش هذه الحرب عالمياً حتى وصلت إلى
الحبشة، حيث وصل الإسلام، وحرضوا النجاشي ملك الحبشة على حرب المهتدين للإسلام
ومارسوا ضدهم الاضطهاد والاستبداد والتشويه، ولكنهم فشلوا في ذلك والحمد لله، وكان
من أسباب فشلهم قيام المسلمين في الحبشة بالحق أمام المخالفين، فقد أعلن الصحابي
الجليل جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه الذي تربى على الإسلام واعتز به السبب الرئيس
في الخلاف بين الفريقين، وبيّن أصول دعوة الإسلام ومحكماته في بلاط النجاشي الذي
اجتمع فيه حينذاك ثلاث حضارات: الجاهلية العربية، والعقائد النصرانية، والإسلام،
فميّز جعفر الإسلام بمحكماته العظام وبيّن الحق وشهد به، حتى أقره النجاشي على ذلك
وتأثر به وطرد المجرمين الذين جاؤوا للتضييق على الإسلام وأهله في الحبشة.
قال: لو ذكرت لنا شيئاً من خطبته التي بين فيها المحكمات!
قلت: روت أم سلمة رضي الله عنها أن جعفراً خطب في بلاط النجاشي فقال: «أيها الملك،
كنا قوماً أهلَ جاهلية، نعبدُ الأصنام، ونأكل المَيْتَة، ونأتي الفواحش، ونقطع
الأرحام، ونُسيء الجوار، ويأكلُ القوِيُّ منَّا الضعيفَ، فكنَّا على ذلك حتى بعث
الله إلينَا رِسولاً منا، نعرف نسبه وصدقَه وأمانته وعفافه. فدعانا إلى الله،
لنوحّدَه ونعبده ونخلعَ ما كنَّا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان،
وأمَرَنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكفّ عن المحارمِ
والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزّور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا
أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، قال: فعدَّد
عليه أمورَ الإسلام، فصدَّقناه وآمنَّا، واتّبعناه على ما جاء به، فعبدْنا الله
وحده فلم نُشرك به شيئاً، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أَحَلَّ لنا، فعَدا
علينا قومُنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليَرُدُّونا إلى عبادة الأوثان منِ عبادة
الله، وأن نستحلَّ ما كنا نستحلُّ من الخبائث، فلما قهرونا وظلموِنا وشقُّوا علينا
وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك
ورجوْنا أن لا نُظلم عندك أيها الملك. قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن
الله منْ شيء؟ قالت: فقال له جعفر: نعم، فقال له النجاشي: فاقرأه عَلي، فقرأ عليه
صَدْراً من {كچـهيعـص} [مريم: ١]، قالت: فبكى والله النجاشيُّ حتىِ أخْضَلَ لحيته،
وبكتْ أساقفته حتى أَخْضَلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلاَ عليهم، ثم قال النجاشي: إن
هذا والله والذي جاء به موسى لَيَخرُج من مشكاة واحدة، انطلقا، فوالله لا أُسلِمَهم
إليكم أبداً ولا أُكادُ، قالت أم سلمة: فلَّما خرجا من عنده قالَ عمرو بن العاص:
والله لآتينهم غداً بما أَستأصل به خَضْرَاءَهم، قالت: فقال له عبد الله بن أبي
ربيعة، وكان أَتقى الرجليَن فينا: لا تفعلْ، فإن لهم أرحاماً وإن كانوا قد خالفونا،
قال: والله لأخبرنَّه أنهم يزعمون أن عيسى ابنَ مريم عبدٌ، قالت: ثم غدا عليه الغد،
فقال له: أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيماً، فأرسلْ إِليهم
فاسألهم عما يقولون فيه؟ قالت: فأرسل إليهم يسألُهم عنه، قالت: وَلم ينزل بنا
مثلُه، فاجتمع القومُ فقال بعضُهم لبعضٍ: ماذا تقولون في عيسى إذا سألكم عنه؟!
قالوا: نقول والله فيه ما قال الله وما جاء به نبيُّنا، كائناً في ذلك ما هو كائن،
فلما دخلوا عليه قال لهم: ما تقولون في عيسى ابن مريم؟ فقال له جعفر بن أبي طالب:
نقول فيه الذي جاء به نبيُّنا: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمتُه ألقاها إلى مريم
العذراءِ البَتُول، قالت: فضرب النجاشيُّ يدَه إلى الأرض فأخذ منها عوداً، ثم قال:
ما عَدَا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العودَ، فتناخَرَتْ بطارقتُه حوله حين قال ما
قال، فقال: وإن نخرْتم والله! اذهبوا فأنتم سُيُوم بأَرضي، والسُّيُوم: الآمنون،
مَن سبَّكم غُرّم، ثم من سبكم غُرِّم، فما أُحب أن لي دَبْراً ذهباً وأني آذيتُ
رجلاً منكَم، والدّبْر بلسان الحبشة الجبل»[4].
قال: ما النموذج الثاني؟
قلت: النموذج الثاني: حركة المنافقين السرية في العهد المدني، فقد قامت بنشر الشبه
بين المسلمين وزعزعة المحكمات بالتدريج، واستعملوا جميع الأساليب الماكرة لصد
المسلمين عن دينهم، وهذه الحرب الفكرية التي قام بها المنافقون تارةً عن طريق
التصريح وتارةً بطرقٍ أخرى لم تنقطع مدة عشر سنوات في العهد المدني حتى تمكن أهل
الإسلام من القضاء على فتنتهم وإبطال مخططاتهم.
نموذج ثالث: الحرب الفكرية التي سلطها أهل الأهواء على أهل السنة، وقد بدأ بها
الخوارج وقاتلوا أهل السنة نازعين عنهم الشرعية، وكذلك استبد المعتزلة بالدولة
العباسية في عصرها الذهبي واضطهدوا علماء أهل السنة والجماعة، فمنهم السجين ومنهم
الطريد ومنهم من كان تحت الإقامة الجبرية، وما شأنهم مع إمام السنة المبجّل أحمد بن
حنبل رحمه الله بخافٍ في التاريخ.
نموذج رابع: الحركات الباطنية التي أنشأها المنافقون، ومنها حركة الرافضة التي
أنشأها المنافق عبد الله بن سبأ، وقد شنت حرباً فكريةً شرسة على صحابة رسول الله
صلى الله عليه وسلم وطعنت في الإسلام وفي كتابه القرآن وفي حملته من الصحابة
الكرام، وكفّرتْهم إلا عدداً يسيراً، وما زالت هذه الحرب الفكرية موصولة إلى عصرنا
الحاضر ضد أهل السنة والجماعة.
قال لي صاحبي: ما أشبه الليلة بالبارحة، صدق الله:
{أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}
[الذاريات: 53]، وكلٌّ له من الطغيان نصيب بحسب درجة مخالفته.
قلت: وفي الآية إشارة إلى استمرار هذا الطغيان على أهل السنة في كل زمان وتعاون
المخالفين على الظلم والعدوان، وهذه قاعدة قرآنية تكشف طغيان المخالفين.
قال: أليس لتغير الزمان والمكان أثرٌ في تخلف هذه القاعدة؟
قلت: لا، فإن أوصاف المخالفين بحسب درجاتهم سببها إما الكفر وإما النفاق وإما
الأهواء، فهذه لها أوصاف ثابتةٌ في كل زمان وكل حال، لا تتغير بتغير الزمان
والمكان، وإنما تتغير بالتوبة والرجوع عن تلك الأوصاف، فإذا رجع الكفار والمنافقون
إلى الإسلام فإنهم يصبحون إخواناً لنا مناصرين، وإذا رجع أهل الأهواء صاروا كذلك،
وإذا بقوا على انحرافاتهم استمرت فتنتهم وطغيانهم.
قال لي صاحبي: عرفت الآن لماذا اجتمع أهل البدع في مؤتمر الشيشان (قزويني) على نزع
الشرعية عن أهل السنة وتسليط الحرب الفكرية عليهم، وزعموا أن الشرعية لهم.
قلت: أحسنت، نعود الآن إلى حقيقة المعركة اليوم التي يحاول فيها أهل الكفر والنفاق
والأهواء إثبات الشرعية لهم ونزعها عنا، تماماً كما حدث في النموذج الأول في العهد
المكي حيث ادعت قريش أنها على ملة إبراهيم وأن المسلمين خارجون عنها.
قال: ولماذا يصرُّ المخالفون على الحرب الفكرية ضد أهل السنة؟
قلت: أولاً: لإثبات أنهم متطرفون ضالون، وأن على العالم أن يتعاون ويتخلص من
أفكارهم. ثانياً: تسليط القتل عليهم أو السجن أو التشريد والتهجير وغير ذلك من
العقوبات.
قال: إذن الأهداف تقاطعت بين المخالفين مع اختلاف الاتجاهات والشارات، والهدف هو
القضاء على أهل الحق.
قلت: نعم، إن أهل السنة والجماعة اليوم يتعرضون لأكبر هجمةٍ عليهم في التاريخ، فقد
تعاون عليهم الأعداء من كل صوب.
قال: إن مما يُضعف أهل السنة أمام هذه المعركة اختلافهم فيما بينهم، فما هي أقرب
الوسائل لاجتماعهم وقوتهم؟
قلت: يعملون بهذا التوجيه الرباني الذي قام على ركنين رئيسين: الاعتصام بالشريعة،
والحذر من المخالفين وطرائقهم.
وقد جاء ذكر الركن الأول صريحاً في قول الله تعالى في سورة آل عمران:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ
إلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ 102 وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا
تَفَرَّقُوا}
[آل عمران: 102، 103]. وأما الركن الثاني ففي قوله تعالى:
{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ
الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
[آل عمران: 105].
قال: هل البينات من أوصاف المحكمات التي وردت في أول سورة آل عمران؟
قلت: نعم، المحكمات بينات، جامعةٌ لأهل السنة، وأساس لعلمهم وعملهم، وقوة لجماعتهم
تعصمهم من المتشابهات التي تؤدي إلى الاختلاف في الدين والتنازع فيه، لأنهم يردون
إليها، وينشرون من خلالها الدين للعالم، هدايةً ورحمة للعالمين.
قال: سمعتك في بعض محاضراتك تقول: إن الاجتماع على المحكمات من خصائص أهل السنة
والجماعة وأرغب في بيان الأدلة على ذلك وذكر التطبيقات العملية التي تؤكد ذلك.
قلت: نعم هذا يحتاج إلى بيان وسيكون محله في المقال الثالث إن شاء الله تعالى.
[1] منشور بمجلة البيان بعنوان: «نماذج
من السيرة النبوية في التعامل مع المخالفين»، العدد السابق (365).
[2] الباب التاسع (2 / 165،172)، طبعة دار المعرفة - بيروت، تعليق رشيد رضا 1402هـ.
[3] سنن أبي داود، ت الأرنؤوط (7/ 5). حديث صحيح، وهذا إسناد حسن من أجل محمَّد
بن عمرو - وهو ابن علقمة الليثي- خالد: هو ابن عبد الله الواسطي. وأخرجه ابن ماجه
(3991)، والترمذي (2831) من طريقين عن محمَّد بن عمرو، به. وقال الترمذي: حديث حسن
صحيح. وهو في: مسند أحمد (8396) وصحيح ابن حبان (2647)، و(6731).
[4] مسند أحمد، ت شاكر (2/ 357 - 259).