البلد الأمين

البلد الأمين


قد أقسم الله تعالى بمكة ونعتها بالأمن، وفي ذلك امتنان وتنبيه إلى واجب الشكر، وهذا النعت في سياق هذا القسم المفخم للمقسم به يدل على أهمية هذه النعمة، ومما يدل على ذلك أمور أخرى كثيرة، منها:

أن جنس الأمن من نعيم أهل الجنة، كما قال تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِـحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ: 37].

وأيضاً الأمن نعمة أعظم من نعمة الرزق بالمطعم، ولذلك قُدمت نعمة الأمن على نعمة المطعم في الآية الكريمة: {وَإذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْـمَصِيرُ} [البقرة: 126].

فبدأ بالأمن قبل الرزق لسببين:

الأول: أن استتباب الأمن سبب للرزق، فإذا شاع الأمن واستتبَّ ضرب الناس في الأرض، وهذا مما يدر عليهم رزق ربهم ويفتح أبوابه، ولا يكون ذلك إذا فُقد الأمن.

الثاني: أنه لا يطيب طعام ولا يُنتفع بنعمة رزق إذا فقد الأمن.

فمن من الناس أحاط به الخوف من كل مكان، وتبدد الأمن من حياته ثم وجد لذة بمشروب أو مطعوم؟! قال الرازي رحمه الله: «سئل بعض العلماء: الأمن أفضل أم الصحة؟ فقال: الأمن أفضل، والدليل عليه أن شاة لو انكسرت رجلها فإنها تصح بعد زمان، ثم إنها تقبل على الرعي والأكل. ولو أنها ربطت في موضع وربط بالقرب منها ذئب فإنها تمسك عن العلف ولا تتناوله إلى أن تموت، وذلك يدل على أن الضرر الحاصل من الخوف أشد من الضرر الحاصل من ألم الجَسَد»[1].

وقد امتن الله تعالى في القرآن على عباده بهذه النعمة في مواضع كثيرة: قال تعالى: {أَوَ لَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص: 57]، وقال سبحانه: {أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت: 67]، وقال: {وَإذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة: 125].

وامتن الله بهذه النعمة على أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال: {وَاذْكُرُوا إذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال: 26].

والأمن مطلب سراة الناس وعقلائهم جميعاً:

فإبراهيم عليه السلام يدعو الله أن يجعل بلده آمناً: {وَإذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35].

ويوسف عليه السلام يطلب من والديه دخول مصر مخبراً باستتباب الأمن بها: {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف: ٩٩].

ولما خاف موسى أعلمه ربه أنه من الآمنين ليهدأ رَوْعه، وتسكن نفسه: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يَعْقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ} [القصص: 13].

ولما رحم النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة يوم فتحها ذكرهم بما ينالون به الأمن؛ مما يدل على أهميته لدى المؤمنين والكافرين، فقال: «من دخَل دارَ أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقَى السّلاحَ فهو آمن، ومن دخل المسجدَ فهو آمن»[2].

ومما يبين أهمية الأمن أن العبادة لا يتأتى القيام بها على وجهها الأكمل إلا في ظل الأمن:

فالصلاة قال الله عنها: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ صلى الله عليه وسلم٨٣٢صلى الله عليه وسلم) فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 238، 239]، وقال تعالى: {وَإذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا 102 فَإذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْـمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا} [النساء: 102، 103١] ، فقوله: {فَإذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} أي: أدوها بكمالها وصفتها التامة.

ومن شروط وجوب الحج الأمن، فإذا وجد الإنسان نفقة الحج ولم يكن الطريق إليه آمناً فلا يجب عليه الحج قولاً واحداً، قال الله تعالى: {فَإذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْـحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِن الْهَدْيِ} [البقرة: 169]. ولما أخبر الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم بأنهم سيدخلون البيت الحرام ويؤدون نسكهم بعدما صدهم المشركون عنه قرن ذلك بالأمن فقال: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْـحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْـمَسْجِدَ الْـحَرَامَ إن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 27].

ومما يبين أهمية الأمن أن انتشار الدعوة الإسلامية المباركة يكون في وقت الأمن أكثر من غيره من الأوقات، قال الله تعالى عن موسى عليه السلام: {فَمَا آمَنَ لِـمُوسَى إلَّا ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإنَّهُ لَـمِنَ الْـمُسْرِفِينَ} [يونس: 83]، ولكن لما أغرق الله فرعون ودمَّر ما كان يصنعه وقومه دخل كثير من الناس في دين الله، ففي حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه سواداً عظيماً قال: «وَرَأَيْتُ سَوَاداً كَثِيراً سَدَّ الْأُفُقَ، فَرَجَوْتُ أَنْ تَكُونَ أُمَّتِي، فَقِيلَ: هَذَا مُوسَى وَقَوْمُهُ»[3]. وتأمل كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى الحديبية كان معه خمسمئة وألف من أصحابه، فلمَّا انعقد الصُّلح وكان من بنوده: وقف الحرب عشر سنوات يأمن فيها الناس، دخل كثير منهم في دين الله، فبعد عامين وبضعة أشهر خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم لفتح مكة عشرة آلاف من المسلمين.

ومما يدل على أهمية الأمن قول نبينا صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِناً فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا»[4]. ولمّا كان الأمن بهذه المثابة فلا غرو أن يكرم الله به أولياءه في دار كرامته؛ إذ لو فُقد فُقد النعيم، قال رب العالمين: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} [الحجر: 46]، وقال: {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} [الدخان: ٥٥]، وقال: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِـحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ: 37].

وفي الختام من كان يروم الأمن في يوم الفزع الأكبر، فليحاذر أن يروِّع عباد الله، ولاسيما في البلد الأمين، يقول رب العالمين: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْـمَسْجِدِ الْـحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإلْـحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25]، علق الجزاء على الإرادة إمعاناً في التحذير!

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْـحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْـحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا} [المائدة: ٢]، قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن الجاهليين المشركين: «في الجاهلية يقتل بعضهم بعضاً خارج الحرم، فإذا دخلوا الحرم أو لقي الرجل قاتل أبيه لم يَهِجْه! وكان هذا من الآيات التي جعلها الله فيه كما قال: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إبْرَاهِيمَ ومَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97]  والإسلام زاد حرمته»![5]، {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} [الحج: 30].

نسأل الله أن يجعلنا ممن يعظمون حرمه، ويشكرون نعمه، ويكافئهم بالمزيد منها في دار كرامته، وصلى الله وسلم على نبيه وآله وصحابته.


 


[1] التفسير الكبير (19/104).

[2] مسلم (1780).

[3] البخاري (5705)، ومسلم (220).

[4] الترمذي (2346)، وهو في الصحيحة (2318).

[5] مجموع الفتاوى 18/344.

أعلى