• - الموافق2024/04/19م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
زمــن الـضـيــاع

زمــن الـضـيــاع

كنت، ولا أزال - إن شاء الله - أؤمن بالزواج المبكر. لم أستطع فعل ذلك لظروف خارجة عن إرادتي، فتأخرت حتى بلغت الثامنة والعشرين، ولكن الله منّ علي آنذاك بالزواج من فتاة كانت في السادسة عشرة من عمرها. وقررت حينها إن رزقني الله بالذرية الصالحة أن أعصمهم باكرًا، وعاهدت نفسي ألا يدخل أبنائي الجامعة إلا وهم محصنون، وألا أرفض زواج بناتي بعد بلوغهن، إن جاء أكفاؤهن الذين أرضى دينهم وخلقهم، بغض النظر عن الاعتبارات المادية أو الاجتماعية أو العرفية السائدة، خاصةً إن تعارضت مع ديننا الحنيف. وها هو اليوم أكبر أبنائي قد وصل إلى الثالث الثانوي، وبقي أمامي أقل من سنة للبدء بتنفيذ العهد الذي قطعته على نفسي.

المشكلة أنني وجدت معارضة عارمة لمسعاي هذا، فالغالبية العظمى ممن أعرفهم أنكروا علي فكرة تزويج فتى في السابعة عشرة، أو حتى في الثامنة عشرة من عمره. وحتى أقرب المقربين إلي لا يزالون يحاولون ثنيي عن «الظلم» الذي أريد إلحاقه بابني «المسكين»! ويحاولون إقناعي بكل طاقتهم بأن حججي في ذلك - حتى الدينية منها - لم تعد مبررة في زمننا هذا الذي يختلف كثيرًا عن «زمن الصحابة» الذي أحلق فيه بوجداني بحسب تعبيرهم. وبرغم اختلافي الشديد معهم في هذا الموضوع، إلا إنني أتفق وإياهم في تلك النقطة بالذات؛ فزمننا هذا يختلف فعلًا عن زمن الصحابة، بل ويختلف عن كافة الأزمنة السابقة، وهنا تكمن المشكلة الحقيقية.

طوال عمر البشرية التي تختلف التقديرات حولها من بضعة آلاف إلى بضعة ملايين، بل وبضع عشرات الملايين من السنين، كان هناك زواج مبكر، بل حتى تعدد زوجات (هذا موضوع آخر لا مجال لبحثه هنا برغم شدة اتصاله بموضوعنا، وذلك كي لا نتشعب أكثر). فما الذي حصل في العشرات الأخيرة من السنين حتى صار يستهجن الناس ذلك النظام الاجتماعي الذي سار عليه أسلافهم كل تلك الملايين، أو على الأقل كل تلك الآلاف من السنين؟ خاصة أن الأنبياء الذين اختارهم الله تعالى لهداية البشر وتنظيم حياتهم على الأرض ساروا عليه أيضًا! للوقوف على ذلك سنحاول هنا التعرف على بعض أهم السمات التي تميز زمننا الحالي عن بقية الأزمنة.

 - التكنولوجيا:

لعل أهم سمة تميز زمننا هذا بلا منازع هي طفرة المخترعات الهائلة التي نعيشها حاليًا، فقد صار لدينا أجهزة متعددة لتسهيل معيشتنا وتنقلاتنا وأعمالنا وتعليمنا. أقلها تعقيدًا وأدناها صعوبةً في الحصول عليها وأرخصها سعرًا، عند أفقرنا وأوضعنا مكانةً وأقلنا علمًا، كانت ستثير حسدًا وحسرةً وشعورًا بالنقص من أكثر الأغنياء ترفًا وأعظم الملوك نفوذًا وأغزر المثقفين علمًا في الأزمنة السابقة لو رأوها. ولا أتحدث هنا عن أفخم الطائرات واليخوت والسيارات، ولا أفتك الأسلحة الخفيفة أو الثقيلة، ولا أعقد الأجهزة الطبية، ولا أقوى الحواسيب الإلكترونية العامة، بل ولا حتى عن الحاسب الشخصي أو التلفاز أو الجوال، بل مجرد أجهزة بسيطة لتكييف الهواء أو لتبريد الماء أو حتى للإنارة.

كان من المفترض أن توفر علينا هذه الأجهزة الكثير من الوقت والمال وتريحنا من عناء جهد كبير، بيد أن سعة الوقت والتوفير والراحة تطلبت أجهزة أخرى لتصريفها بدعوى التسلية وقتل الوقت أو حتى للمحافظة على الرشاقة المفقودة لعدم القيام بجهد عضلي. وجميع تلك الأجهزة بأنواعها المختلفة ليست مجانية بالطبع، وبالتالي تستنفذ التوفير المالي بشرائها، بل وتتطلب مالًا أكثر أحيانًا لاستبدال الجهاز المستخدم بالشكل الجديد بتحديثاته ومميزاته الإضافية. وكافة هذه الأجهزة تم ابتداعها ثم تحديثها وتطويرها بوتيرة متسارعة تصعب ملاحقتها أحيانًا، واستغرق ذلك بمجمله وقتًا ليس بالطويل في مقياس الأزمنة، فلا يزال قسم كبير من مخترعيها على قيد الحياة، وأقدمهم كان لا يزال حيًّا يُرزق قبل عشرات معدودة من السنين

- التضخم السكاني والتواصل الافتراضي:

يمتاز هذا الزمن عن غيره بسمة أخرى لا تقل أهمية عن سابقتها، فقد تضاعف فيه عدد السكان بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية جمعاء، وذلك لأسباب عديدة أهمها انخفاض نسبة الوفيات الناتج عن الرعاية الصحية ومحاربة تفشي الأمراض والأوبئة. فقد وصل عدد سكان الأرض إلى حولي ١.٥ بليون نسمة في سنة ١٨٥٠م، ثم تضاعف إلى ٣ بلايين نسمة سنة ١٩٦٠م، ثم وصل إلى ٦.٥ بليون نسمة سنة ٢٠٠٥م، ويربو حاليًا على ٧ بلايين، ومن المتوقع أن يصل إلى نحو ٩ بلايين نسمة في الأربعين سنة القادمة.

وإذا علمنا أن الإمبراطورية الرومانية في أوج ازدهارها، عندما كانت تحكم أجزاء شاسعة من العالم، كانت سجلاتها تقدر عدد رعاياها بنحو ٥٦ مليون نسمة فقط، وأن إدارة السكان في الأمم المتحدة تُقدر عدد سكان العالم قبل ٢٠٠٠ سنة بنحو ٣٠٠ مليون نسمة، وقبل ١٠٠٠ سنة بنحو ٣١٠ ملايين نسمة، وقبل ٥٠٠ سنة بنحو ٥٠٠ مليون نسمة. إذا علمنا كل ذلك فلنا أن نُقدر أنه قد اجتمع من الناس على سطح الأرض في هذا الزمن وحده أكثر مما اجتمع عليها في أزمنة مديدة مجتمعة، بل ربما أكثر من كافة الأزمنة السابقة برمتها.

وإذا أضفنا إلى ذلك أن انتشار الفاحشة في السابق كان محدود الأثر نظرًا لصعوبة التنقل، ولقلة التواصل بين المجتمعات المختلفة، ولصعوبة الترجمة. وأن وسائل الترويج (إن توفرت) كانت متواضعة، وتعتمد أساسًا على أحاديث خاصة عن تجارب شخصية، قد تتطور إلى قصص وأشعار متناقلة، وقد تُدون في كتب تنتشر على نطاق محدود. فلنا أن نتصور مقدار شيوع الفاحشة غير المسبوق في زمننا هذا الذي أصبحت فيه مشاركة التجارب (سواء كانت إيجابية أو سلبية) لا تتطلب أكثر من ضغطة زر كي تنتقل بالصوت والصورة، ودون الحاجة حتى إلى ترجمة في كثير من الأحيان. وليت تلك الغواية فردية فحسب، ولكن توجد خطط ممنهجة من قبل جهات تحب أن تشيع الفاحشة بين الناس لأسباب لا مجال لبحثها هنا

- نظام التعليم الأكاديمي:

ومما يميز زمننا أيضًا عن بقية الأزمنة الأخرى هو السمة الحالية للمدارس والجامعات التي تأخذ ١٢ سنة من حياة الإنسان في التعليم الابتدائي والمتوسط والثانوي، ومن ٤ إلى ٦ سنوات للتخرج من الجامعة، ومثلها، وأحيانًا أكثر، لنيل الماجستير ثم الدكتوراه لمن أرد أن يتم تعليمه. وغني عن الذكر أن كافة تلك المراحل، باستثناء الدكتوراه، تشترط التفرغ الكامل.

ولو تأملنا في هذا النظام لوجدناه مضيعة حقيقية للوقت، وتبديد للجهد، وإهدار للطاقات. فمدة الدراسة يمكن أن تُختصر إلى أكثر من النصف بمنتهى الأريحية، حيث تتكرر في المدرسة المواد ذاتها مع التدرج الممل بالتعقيد، كما أن بعض المواد لا يحتاج إليها الجميع، وتحذف من الذاكرة لدى الكثيرين فور الامتحان بها. وكثرة كل هذه المواد وتكرارها في الأعوام التالية وعدم أهمية بعضها لكثير من التلاميذ يدفع بهم إلى التساهل في دراستها، كما يدفع بالمعلمين أنفسهم إلى التساهل في تصحيح امتحاناتها. هذا غير الوقت المهدر على الأنشطة الرياضية والكشفية والفنية والاحتفالات، وغير الإجازات والأعياد المتكاثرة. وفي بعض الدول يوجد اختلاط في المراحل الدراسية الأولى والمعسكرات، وفي بعض الدول الغربية أو المتغربة يستمر الاختلاط، وتُدرس مواد عن الثقافة الجنسية؛ ويؤثر كل ذلك على مدى التحصيل العلمي عند الكثيرين.

أما في الجامعة فيصبح الاختلاط إجباريًّا في أكثر الدول، والدوام أقل انضباطًا، وينشغل كثير من المراهقين في هذه المرحلة الحرجة من عمرهم بأمور تبتعد كثيرًا عن مجرد التحصيل العلمي. وبرغم أن الطالب الجامعي يكون قد اختار مجال دراسته، إلا أنه يُجبر بعد ذلك أيضًا على دراسة مواد لا علاقة لها بذلك المجال؛ فأنا مثلًا، وبرغم استمتاعي في كلية طب أسنان بمواد مثل الفلسفة والسياسة والتاريخ وأسس ثقافة المخاطبة، لأن ميولي أدبية ولم أدخل الطب باختياري، إلا إنني كنت أتفهم تذمر زملائي من مثل هذه المواد لعدم حاجتهم لها. وتقاسمت معهم الشعور نفسه لدى دراسة مواد مثل الرياضيات والقانون والاقتصاد أو حتى المعالجة الفيزيائية وطب العيون والتوليد. وحتى عند التخصص بتقويم الأسنان والفكين بعد تخرجي اضطررت لدراسة مواد مثل الأمراض السارية والصحة الاجتماعية والأحياء الدقيقة وعلم الأورام. وفي بعض الجامعات (ومنها عربية للأسف) تكون هناك مواد يُجبر الطالب على اختيار بعضها مثل أصول اللباقة (الإتيكيت) وطريقة سكب الخمر وأنواع كؤوسها وطرق تذوقها والرقص وغيرها من المواد التي ليس فقط لا علاقة لها بالاختصاص، بل ولا تحتوي على أي فائدة علمية أصلًا.

وإذا أضفنا إلى ذلك سنوات الخدمة الإلزامية في الجيش التي تتراوح من سنة إلى ٣ سنوات، نجد أن الشاب يستطيع الزواج، في أفضل الظروف، ببداية العشرينات إن اكتفى بالتعليم المدرسي ودخل سوق العمل مباشرةً، أو في نهايتها إن أكمل دراسته الجامعية، أو في بداية الثلاثينات إن حصل على درجة الماجستير. ولو أضفنا إلى ذلك أيضًا ذلك الشرط المنتشر حاليًا بين أهالي الفتيات بأن يكون الشاب المتقدم لبناتهم «منتجًا»، نجد أن سن زواجه قد يرتفع بعدة سنوات عن التقدير السابق. خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار شرطًا آخر آخذًا بالانتشار، من أهل الشاب هذه المرة، أنهم ملزمون بمساعدته ماديًّا ما دام عازبًا فقط، وإن تزوج قبل أن يصبح منتجًا سيكون هو وزوجته عالةً عليهم، مع عدم استبعادهم لاحتمال استخدام مساعداتهم طوال فترة العزوبية وعدم الإنتاج في علاقات غير مشروعة.

- تأخر الزواج:

وهنا نصل إلى آخر السمات الأربع التي تميز هذا الزمن عن بقية الأزمنة من وجهة نظري، فلا تستقيم المقارنة بين ظروف الشاب في زمننا هذا وبين ظروف أي شاب من أي زمن آخر، ولا يمكن أن نفهم هذا بمعزل عن إدراك خطورة السمات الثلاث السابقة التي نتجت عنها سمة تأخر زواجه.

فالتكنولوجيا التي كان من المفترض بها تسهيل المعيشة قد صعبتها أكثر، حيث كانت الحياة في الماضي أبسط ولا تتطلب من شاب لتكوين أسرة إلا البحث عن زوجة صالحة وعملًا يؤمن المسكن والملبس وقوت اليوم، ولم تكن هناك ثلاجات أصلًا للاحتفاظ بأكثر من قوت اليوم. ولم يكن أهل الفتاة يشترطون حفلة زفاف في فندق فخم، وشهر عسل في بلد أجنبي، وضمان مادي لمستقبل ابنتهم. وإن كان الشاب من طلبة العلم تكفلت الدولة أو أهله أو حتى الموسرون من غير أهله بنفقته. وما كان يكفي شخصًا واحدًا كان يكفي اثنين. لم يكن يشغل باله بفواتير الكهرباء والماء والجوال والإنترنت وباقة القنوات، ولا بأحدث السيارات والأجهزة الإلكترونية والأدوات المنزلية، ولا بآخر صيحة في عالم الأزياء، ولا بالملعب أو المقهى الذي سيشاهد فيه المباراة، أو بالمكان الذي سيسهر فيه مع أصحابه، ولا بالمطعم الذي سيطلب منه الوجبات عندما تمل زوجته من الطبخ، أو بمدينة الملاهي التي سيأخذ إليها أبناءه، أو بالسوق الذي ستمارس زوجته فيه هواية التسوق. ولم يفكر بالبلد الذي سيصطاف فيه، ولا بالتذاكر أو الفنادق، ولم يدخر لتسديد أقساط مدارس أبنائه ثم جامعاتهم وسياراتهم.. باختصار، لم تكن أعباء الحياة بهذه الصعوبة.

كما أن التضخم السكاني والتواصل الافتراضي أفرزا زيادة في أساليب الغواية والتفنن بها، وارتفاعًا غير مسبوقٍ في عدد الغاوين. وأثر ذلك بشكل ملحوظ على الشاب الذي كان لا يعرف في الأزمنة الأخرى عادةً غير زوجته، إلا إن سعى إلى ذلك متعمدًا. فلم يكن يصطدم على مقاعد الدراسة أو في العمل أو بالشارع بمفاتن فتيات أخريات يقارنهن بها، ولم يكن لديه تلفاز تظهر فيه فنانات كاسيات عاريات، ولا حاسب آلي يُسقط ورقة التوت. لم يكن التعارف يومًا بمثل هذه السهولة التي هو عليها في زمننا الحالي، ولم يحدث أن صادف أكثر من فتاة غير مرة تفهمه وتوافق فكره أو مزاجه أو مواصفاته في فتاة أحلامه أكثر من زوجته، وندم على تسرعه بالزواج منها قبل أن يأخذ حظه من التجارب، ولم تكتشف هي مراسلات بينه وبين إحداهن، قد تبدأ ببراءة وتنتهي إلى ما لا تحمد عقباه. وبالطبع لم تعرف زوجته غيره ولم تقارنه بأحد، وكانت تعيش تحت ظله، ولم تطالبه بالمساواة، أو بالاعتراف بشخصيتها المستقلة. فلم يحصل الطلاق، ولم يكن شائعًا أصلًا.

ونظام التعليم الأكاديمي الحالي يفني زهرة شبابه على مقاعد الدراسة، ويتيح له مجالات واسعة لرؤية الكثير، مع عدم وجود وسائل مشروعة لتفريغ طاقاته في أوج نشاطه الجنسي، وهو ما قد يؤدي به إلى الكبت أو - وهو الأعم للأسف - إلى التساهل. خاصة مع انتشار دعاوى مثل ضرورة استكماله لتجاربه ونضوجه واستعداده النفسي قبل الزواج، وتجنب المشاكل الناجمة عن عدم توفر الخبرة في التعامل مع الجنس الآخر. هذا غير دعاوى حق الفتاة بالتعليم، وبالعمل بهدف الاستقلالية الاقتصادية عن الرجل، وغيرها وغيرها من الدواعي التي قد يكون فيها بعض الحق، ولكن غالبًا ما يراد بها باطل. وحين ينهي سنوات الدراسة الطويلة، ويبدأ بالعمل، فإما أن يؤجل الزواج مجددًا بحجة أن دخله بالكاد يكفي مصاريف فواتيره وسيارته وتأنقه وسهراته، وإما أن يتزوج فتاة متعلمة مثله، لتعمل وتساعده في تحمل الأعباء المادية، وربما مرت بظروفه نفسها، وقد تكون قد رأت الكثير مثله، وقد يحصل الطلاق، وإما أن يصرف النظر عن الزواج كليًّا، ولسان حاله ما تبجح به أحدهم ذات مرة بمنتهى الصفاقة: ما دام يسهل الحصول على الحليب، فلم أجلب بقرة إلى بيتي؟

كل ما سبق أدى إلى تضعضع النظام الاجتماعي الذي سار عليه أسلافنا كل تلك الآلاف المؤلفة من السنين، وبالتالي ارتفعت نِسب العنوسة، والطلاق، وأحيانًا العزوف عن الزواج كليةً. وكثير من الناس يتقبلون ذلك كآثار جانبية لا بد منها مع تطور وتعقيد هذا الزمن، ولكنهم يستنكرون بشدة فكرة الزواج المبكر. وكانت تبريراتهم مقنعة إلى حد ما، ومنطقية جدًّا للأسف، وعزوني بالخطاب وقاسموني أنهم لي من الناصحين، وبدأت أشك فعلًا في أنني أفرض على ابني غير ما يريده بدافع حب التملك، أو الرغبة في أن أحقق به ما عجزت عن تحقيقه بنفسي، وربما ما كنت أتمناه بسنه لا يتمناه حقيقةً إلا إرضاء لي أو تأثرًا بي، وربما إن مضيت بهذا الأمر أكون قد أفسدت حياة ابني من حيث أردت أن أصلحها؛ فبرغم ذكاء ابني محمد ونضوجه مقارنة بأترابه، وتحمله المشهود له للمسؤولية، يظل في النهاية طفلًا. وفرحه بزوجته لن يختلف عن فرح أي طفل بلعبة مجانية، قد يرميها بالسهولة نفسها التي حصل بها عليها، وقد تتغير توجهاته في هذه المرحلة المتقلبة من حياته، وقد يلومني في المستقبل عندما يعي حجم المسؤولية، وربما سيفقد احترام زوجته تدريجيًّا لأخذه المصروف من والده، ولطلبه نقودًا إضافية كلما جد جديد على حياتهم، وربما سيُفسَر بعض ما يصدر عني أو عن زوجتي تدخلًا في شؤونهم الخاصة بسبب إعالتنا لهما. وقد تزيد الأمور تعقيدًا بعد إنجابهما. وقد يحدث لي ظرف لا أستطيع معه أن أتابع إعالته هو وزوجته ويضطر لترك الدراسة والتوجه للعمل وقد ابتلي بأفواه لا يستطيع إطعامها، وقد يشعر بالنقص عندما يقارن حاله بحال أترابه وتمتعهم بالحياة وبنائهم لمستقبلهم دون المعوقات التي نغصت عليه حياته، وقد تشعر زوجته بالظلم والتهميش والسيطرة عليها من أهل الزوج.

كل هذا وارد الحدوث فعلًا، ولكنه قد يحدث سواء تزوج محمد مبكرًا أم متأخرًا، فالله هو مصرف أمور العباد، كما أن رحمته أوسع مما ضيقوه. وبما أن الابتلاء قد يقع في كلا الاحتمالين، فليكن الاختيار للاحتمال الأقرب لرضا الله في الحياة الدنيا ولثوابه في الآخرة. وفي الحقيقة أنا لا أخاف الفقر ولا أبالغ في الاحتياط للمستقبل، فالرزق بيد الله وحده، علينا عبادته وعليه رزقنا. وأدرك أنه لا يُشترط للمرء كي يكون سعيدًا وراضيًا أن يحظى بكافة الرفاهيات والمُتع الممكنة، بل إن اللهث وراءها والخوف من ضياعها يورثان الحزن والكآبة. لست مثاليًا كما يقولون، ولكني بإذن الله مؤمن، وقد قال الله في محكم آياته: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 268].

وأخيرًا فإن محمد ابني ليس طفلًا، والتاريخ يزخر بعظماء كانوا بسن مقارب لسنه الآن عندما قادوا جيوشًا فيها خيرة الصحابة، أو تولوا الخلافة وفتحوا عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، أو فتحوا السند والهند وصولًا إلى حدود الصين. ومع ذلك أعترف بتخوفي من تحمل وزر إجابة هذا السؤال المعضلة بالنسبة لي ولمن هم بوضعي: هل يتزوج ابني حاليًا، أم يؤخر زواجه إلى ما بعد انتهاء الدراسة الجامعية وخدمة الجيش وتكوين نفسه ماديًّا بشكل كافٍ؟

- فليتزوج ..

وفي الختام أعترف فعلًا بتعقيدات هذا الزمان، ولكن يحضرني في الوقت ذاته قول الإمام الشافعي:

نَعِيبُ زَمَانَنَا وَالعَيْبُ فِينَا

وَمَا لِزَمَانِنَا عَيْبٌ سِوَانَا 

فأساس البلاء هو محاولتنا لتبديل سنن الله التي فطر عليها أمر خلقه بدعوى أنها لم تعد ملائمة لزمننا الحالي بتعقيداته، برغم أنه وكما قال الإمام مالك: «لَا يُصْلِحُ آخرَ هذه الأمة إلا ما أصْلَحَ أَوَّلَهَا». وأنا أؤمن أنه ومع كل المشاكل والصعوبات وعدم التقبل الاجتماعي للزواج المبكر في زمننا الحالي، إلا إن جني ثماره عفةً وصلاحًا والتزامًا لا يقارن بحدة أشواكه؛ ومن ثمَّ سآخذ الإجابة الفصل - إن قدرني الله تعالى ويسر لي - من حديث أصدق خلق الله عليه الصلاة والسلام الذي لا ينطق عن الهوى: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج».

 

:: مجلة البيان العدد  344 ربـيـع الثاني  1437هـ، يـنـايــر  2016م.

أعلى