• - الموافق2024/11/27م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الإمام جوري الصومالي.. فاتح الحبشة

الإمام جوري الصومالي.. فاتح الحبشة


(إن أشهر دور من أدوار التاريخ الإثيوبي التي بقيت أخبارها محفوظة لدى الغربيين هو «أحمد جوري الصومالي» الذي كاد يسحق النصرانية الحبشية ويعيدها كبلاد النوبة إلى الإسلام). [المستشرق الفرنسي رينيه باسه 1924-1855م].

هناك الكثير من المسلمين لا يعلمون شيئًا عن جهاد إخوانهم في القرن الإفريقي وشرق القارة السمراء، وجهودهم وتضحياتهم الكثيرة والكبيرة في مواجهة الحملات الصليبية، التي شنتها ضدهم الإمبراطورية الحبشية، المعروفة تاريخيًا باسم مملكة «أكسوم»، على مدى قرون، برعاية ودعم وتحريض الكنيسة الأرثوذوكسية اليعقوبية في الحبشة، فالحروب الصليبية قديمة في هذه المنطقة، قدم وجود الإسلام فيها.

وقد بدأ الإسلام بالانتشار في شرق إفريقيا والصومال منذ أواخر القرن الأول الهجري، وذلك على أيدي التجار العرب القادمين من اليمن والحجاز، وعلى إثر ذلك تكونت العديد من الإمارات الإسلامية في هذه المنطقة، والتي حملت على عاتقها نشر الإسلام في داخل هذه البلاد، وكذلك التصدي لأعدائه وعلى رأسهم الدولة النصرانية في الحبشة، وقد عرفت هذه السلطنات عند المؤرخين العرب باسم «إمارات الطراز الإسلامي».

أولًا: التحالف البرتغالي الحبشي:

وقد كانت تلك الحروب الدينية، سجالًا بين النصارى الأحباش من جهة، وبين المسلمين الصوماليين والعفاريين والعرب، من جهة أخرى. واستمرت كذلك حتى بداية القرن السادس عشر الميلادي/ العاشر الهجري.

ففي هذه الفترة وصلت الأساطيل البرتغالية الصليبية الغازية إلى سواحل القرن الإفريقي المشرفة على المحيط الهندي، والبحر الأحمر، بعد أن كانوا قد اكتشفوا طريق رأس الرجاء الصالح سنة 905هـ/ 1498م، الذي مكنهم من الدوران حول إفريقيا، والوصول إلى سواحل هذه المنطقة، ومنها إلى الهند، لأول مرة في تاريخهم، وذلك في إطار خطتهم المبيتة لتطويق العالم الإسلامي من الجنوب، وتسديد ضربة قاتلة له من الخلف.

وقد فرح النجاشي ملك الحبشة، فرحًا عظيمًا بمقدمهم، وأسرع بالتحالف معهم، طالبًا منهم الدعم والمساعدة في حربه ضد المسلمين، وفي تطهير منطقة القرن الإفريقي وشرق إفريقيا منهم. كما أبدى النجاشي الحبشي تحمسًا كبيرًا لخطة البرتغاليين التي ترمي إلى سحق المسلمين، وتدمير الأماكن المقدسة في مكة والمدينة، ثم الزحف شمالًا لاسترداد بيت المقدس، وتحويل مجرى النيل إلى البحر الأحمر لجعل مصر بأسرها صحراء قاحلة، وطلب نجاشي الحبشة، أن يكون له دور في تنفيذ تلك الخطة. ولذلك فقد أتاح لهم المجال لتوطيد نفوذهم في القرن الإفريقي وشرق إفريقيا وفي البحر الأحمر، وجزر دهلك، المقابلة لميناء جدة، الذي يريدون العبور إليه تمهيدًا للوصول إلى مكة والمدينة لتخريبهما. فقد وحد الدين المسيحي بينهم برغم الفوارق المذهبية الكبيرة بينهم، فالأحباش يعاقبة أرثوذكس، والبرتغاليون كاثوليك.

وفي خطاباته لملك البرتغال ومحاوراته مع السفير البرتغالي، ركز نجاشي الحبشة على ما يلي:

1 - حث ملك البرتغال على أن يواصل الحرب ضد المسلمين حتى يتم القضاء عليهم نهائيًا، وحتى يتم الاستيلاء على بيت المقدس.

2 - الطلب إلى البرتغاليين بأن يقدموا كل معونة ومساعدة له حتى يتمكن من الوقوف أمام القوى الإسلامية المحيطة به.

3 - الطلب إليهم أيضًا إرسال الخبراء والفنيين لمساعدته في تطوير بلاده وفي صنع الأسلحة لمحاربة المسلمين.

4 - رأى النجاشي أنه يجب على دول أوربا أن تتعاون معًا في إرسال قواتها إلى البحر الأحمر مع البرتغاليين وأن يقوموا بمساعدة القوات الحبشية في الاستيلاء على جدة ومكة والقاهرة وغيرها من المدن الإسلامية، ولكن هذا الاقتراح لم يعجب البرتغاليين.

ثانيًا: سطوع نجم الإمام أحمد جوري:

وفي هذه الفترة سطع نجم بطل من أبطال الإسلام، مجاهد من كبار المجاهدين، في شرق إفريقيا والصومال، ألا وهو أحمد بن إبراهيم الغازي، موحد المسلمين في هذه الديار، والقائد الفذ، صاحب الفتوح الواسعة في بلاد الحبشة ومناطق شرق إفريقيا. وكان ميلاد هذا البطل، الذي عرف فيما بعد باسم «أحمد جوري» أو «غُري»، وتعني الأعسر في اللغة الصومالية، في عام 908هـ، وكان مسقط رأسه في «هوبت» التي تقع على مقربة من «هرر» المدينة التاريخية التي أنشأها المسلمون في أواخر القرن الأول الهجري. وكانت هرر، إذ ذاك، إحدى الولايات الهامة التي تتكون منها إمارة «عدل» الإسلامية، وإحدى أهم مراكز العلم والإشعاع الإسلامي في شرق إفريقيا، الأمر الذي أتاح له أن يتثقف ثقافة دينية غزيرة، وأن ينال قسطًا من العلم والفقه، على مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه، وهو المذهب السائد في هذه المنطقة وفي اليمن والحجاز.

ونشأ أحمد جوري، في ظل تغيرات نوعية، وأحداث جسام، كان يمر بها المسلمون في القرن الإفريقي، في تلك الفترة؛ فآنذاك اشتدت سواعد الأحباش النصارى، وتغير ميزان القوى العسكري لصالحهم، لاسيما بعد حصولهم على الأسلحة النارية من حلفائهم البرتغاليين، وهي الأسلحة التي لم تكن معروفة وقتئذ في القرن الإفريقي، فشن الطرفان الحبشي والبرتغالي حملة صليبية منسقة ضد المسلمين في تلك المنطقة: الأحباش من البر، والبرتغاليون من البحر، وتمكنت قوات النجاشي الحبشي داؤد الثالث، في عام 1516م، من إلحاق هزيمة ساحقة بالقوات الصومالية والعفارية، التابعة لإمارة عدل، التي يقع أهم مراكزها على ساحل خليج عدن بما فيها العاصمة «زيلع»، وكانت هذه الإمارة أهم، وأكبر الإمارات الإسلامية في الصومال، وأكثرها مسؤوليات في الجهاد ضد الصليبية الحبشية، آنذاك.

وبينما كان الأحباش النصارى يحرقون المدن والقرى الإسلامية، ويعيثون فيها فسادًا في الداخل، كانت الأساطيل البرتغالية، تقصف المدن الساحلية، لسلطنة عدل، ولسائر مرافئ الصومال وشرق إفريقيا، واليمن، بدون هوادة أو رحمة، زارعة الموت والخراب فيها، وناشرة الرعب في ربوعها، ففي منتصف عام 1517م تم قصف مدينة زيلع التاريخية - عاصمة إمارة عدل - وإحراقها، ونهبها بعد الاستيلاء على قلعتها، وفي عام 1518م تعرضت مدينة بربرة، وهي أهم مرافئ هذه الإمارة الإسلامية، لعملية اجتياح وحشي، وفي عام 1520م تعرضت مدينة مصوع لاجتياح وحشي مماثل، وفيه أيضًا احتل البرتغاليون مقديشو، أحد المراكز التجارية المهمة على ساحل المحيط الهندي، وفعلوا فيها الأفاعيل كعادتهم، وقام القراصنة البرتغاليون المتمركزون في خليج عدن بالسطو على كل السفن التجارية الإسلامية التي صادف وجودها في تلك المنطقة، واستولوا على ما كانت تحمله من مواد غذائية ومقتنيات ثمينة. وفي العام نفسه أيضًا (1520م) اضطر سلطان عدل، أبو بكر بن محمد، إلى نقل عاصمته من زيلع إلى هرر، في غرب الصومال، في الإقليم الذي تحتله الحبشة حاليًا والمعروف باسم «أوجادين»، لتصير هذه المدينة بعد ذلك من أهم المدن في القرن الإفريقي. وثبت آنئذ أن المماليك في مصر، سادة سواحل البحر الأحمر، أعجز وأضعف من أن يقدموا أي دعم يذكر، لأولئك المسلمين في محنتهم تلك، فضلًا عن أن يحركوا أساطيلهم لنجدتهم، ما جعل المسلمين في شرق إفريقيا في وضع صعبٍ وحرج.

ولكن برغم ذلك، وبرغم الهجمة الشرسة التي تعرض لها المسلمون في الصومال، في هذه الفترة على أيدي الأحباش والبرتغاليين، إلا أنهم لم يستسلموا، وأبدوا صمودًا منقطع النظير في الدفاع عن دينهم، وبلادهم، وقد قوبل ظهور العثمانيين في مصر سنة 1517م بعد تقويضهم لدولة المماليك، بسرور بالغ لدى المسلمين في الإمارات الصومالية، وأحيا فيهم آمالًا جديدة، في إمكانية التصدي للخطر الصليبي الحبشي البرتغالي الذي داهمهم من البر والبحر، وقد هرع حكام تلك الإمارات الإسلامية، فبعثوا الرسل إلى السلطان سليم الأول (1512-1518م)، معترفين بالسيادة للباب العالي، ومعلنين ولاءهم للسلطان.

وقام العثمانيون سنة 1520م بوضع حاميات عند مرافئ البحر الأحمر الإفريقية، التي كانت تتعرض لعدوان الأساطيل البرتغالية، ولاسيما سواكن ومصوع وزيلع، وزودوها بالأسلحة النارية، وأصبحت هذه المدن تحت إمرة باشا جدة، الذي عين له نوابًا فيها. وبذلك استرد المسلمون بعض ثقتهم وقوتهم، وارتفعت الروح القتالية، والجهادية في أنفسهم، واستعادوا بعض الأجزاء التي فقدتها إمارة عدل.

ثالثًا: توليه شؤون إمارة عدل وإصلاحاته:

لقد كان من أخطر النتائج التي ترتبت على هزيمة المسلمين في معركة عام 1516م مع النصارى الأحباش، مقتل الأمير محفوظ، قائد الحرب المقدسة ضد نصارى الحبشة، والمسؤول الفعلي عن إدارة شؤون إمارة عدل الإسلامية، في عهد السلطان أبي بكر بن محمد (1518-1488م)، مما أدى إلى تدهور الوضع، في هذه الإمارة، واحتدام الصراع على السلطة. ولم يكن هناك من يسد الفراغ ويعيد الأمور إلى نصابها الصحيح سوى «أحمد جوري»، وكان ينتسب للأسرة نفسها التي ينتمي إليها الأمير محفوظ، ويبدو أنه أيضًا كان مقربًا منه، ومصاحبًا له في غزواته ومعاركة الجهادية ضد الأحباش، ولذا حظي بتأييد أنصاره.

ومن هنا فقد تولى أحمد جوري قيادة جيش إمارة عدل، ورفع راية الجهاد ضد الصليبية الحبشية، خلفًا للأمير محفوظ، وكان حينذاك في قمة الشباب والحيوية والحماس. وبعد أن تزوج من ابنة سلفه الأمير محفوظ، وانفرد بقيادة هذه الإمارة، سياسيًا وعسكريًا، اتخذ لنفسه لقب إمام، واشتهر به دون غيره من الألقاب.

وتمكن هذا القائد الفذ من القضاء على كل عوامل الفتنة والشقاق والاضطرابات التي حدثت في إمارة عدل، بعد هزيمتها على أيدي الأحباش، ومقتل الأمير محفوظ، وأدب الخارجين وقطاع الطرق، وقبض على زمام الأمور كلها في إمارة عدل بحزم وجدية، واتبع سياسة موفقة جمعت الناس من حوله ووحدت القبائل، وجعلتها على كلمة واحدة، وأقام شعائر الدين الإسلامي الحنيف، وقام بنشر العدل بين الرعية، وعمل على توفير الحياة الكريمة لهم، وقام بتوزيع الزكاة على مستحقيها، واهتم بجنوده اهتمامًا كبيرًا، وعدل في قسمة الغنائم فيما بينهم، وأوقف كتب العلم على العلماء والمساجد، وكسب بذلك حب الفقهاء والعلماء والمشايخ، كما كسب أيضًا محبة الرعية، بالإضافة إلى محبة الجنود.

وفي هذه الفترة توسعت الدعوة الإسلامية بشكل كبير في شرق إفريقيا، على أيدي دعاة محليين وعرب، وفدوا من القاهرة بعد تخرجهم من الأزهر الشريف، وأسلم الكثيرون من قبائل البدو الرحل، من العفر والصومال، وشكّل إسلامهم قوة جديدة للإسلام في هذه الديار، وأُنشئت الكثير من المساجد والكتاتيب لتحفيظ القرآن الكريم وباختصار شهدت هذه البلاد، إذ ذاك، صحوة إسلامية لا مثيل لها.

وقد استكمل الإمام أحمد جوري جهوده في هذا المضمار بإقناع زعماء الإمارات والقوى الإسلامية في شرق إفريقيا بالتحالف وتوحيد الجهود، ومن ثم توجيه قواتها معًا إلى عدوهم المشترك المملكة الحبشية - وبقطع العلاقات مع هذه الأخيرة وعزلها سياسيًا، لاسيما أن بعض أولئك الزعماء كان يداهن ملوك الأحباش ويدفع الإتاوة لهم. وقام أحمد جوري كذلك بالاتصال بالعثمانيين، وأطلعهم على حقيقة ما يجري في القرن الإفريقي.

وكان هناك تعاون ملموس بين الإمارات الإسلامية في الصومال، وخاصة إمارة عدل وزعيمها الإمام أحمد جوري، والدولة العثمانية، للتصدي للصليبيين البرتغاليين والأحباش الغزاة، وقد نما وازدهر ذلك التعاون في عهد السلطان العظيم، سليمان القانوني (1520-1566م). وأولى الباب العالي اهتمامًا بسلطنة عدل، التي كانت تمثل القاعدة الأساسية للعمليات الهجومية ضد إثيوبيا النصرانية، فضلًا عن الموقع الاستراتيجي الذي كانت تحتله على مدخل مضيق باب المندب. وتابع العثمانيون تطور الأحداث في إمارة عدل بكل اهتمام، وأعجبوا بحماسة القائد أحمد جوري، وجهوده التوحيدية، وأولوه الدعم والتشجيع عسكريًا وسياسيًا، لاسيما من خلال والي مصر.

وطوال تلك الفترة لم يدخر أحمد جوري وسعًا في سبيل إعادة تنظيم الجيش، وتقويته، وترغيبه في الجهاد في سبيل الله، ولم يخرج في حربه مع الأحباش، آنذاك، عن إطار المناوشات وحرب الحدود. واستطاع بمساعدة خبراء عسكريين من الإنكشارية العثمانيين تشكيل جيش صغير الحجم، لكنه انضباطي، مكون من العرب والصوماليين، ومجهز بأسلحة نارية. أما العثمانيون فقد ظلوا بعيدين عن هذا الجيش، كما أنهم لم يشاركوا في الحرب فعليًا إلى جانبه، وكان يقتصر دورهم على إرسال السلاح والذخائر، وتشكيلات المجاهدين المتطوعين من ولاية اليمن التابعة لهم.

رابعًا: مرحلة جديدة من الجهاد:

وبعد أن استكمل الإمام أحمد جوري، التجهيز والإعداد اللازم، على مدى عدة سنوات، لم يلبث أن دشن مرحلة جديدة من الجهاد ضد الأحباش النصارى؛ فاندلعت في هذه المنطقة بدءًا من عام 1526م حرب طاحنة تحت رايتي الهلال والصليب، لم يسبق لها مثيل من حيث عنفها وقسوتها وشراستها، ونجح المجاهدون الصوماليون والعفاريون والعرب بقيادة الإمام أحمد جوري، من كسر شوكة الأحباش، وطردهم من المناطق الساحلية، وحرموهم من أي مرفأ على سواحل البحر الأحمر، ومن ثم عزلهم في الهضبة الحبشية، واستمروا في تطويقهم، وتضييق الخناق عليهم، وتلقينهم الهزيمة تلو الهزيمة، بعد أن نقلوا ميدان الحرب إلى عقر دارهم.

وفي غضون ذلك حاول البرتغاليون التدخل لتخفيف الضغط على الأحباش بقصف مرافئ المسلمين بالمدافع من أساطيلهم في البحر، فتكررت غاراتهم الوحشية على ميناءي زيلع ومصوع خلال سنتي 1526، 1528م.

بيد أن محاولتهم تلك لم تفلح في إرهاب المجاهدين المسلمين، ولم يكن لها أي تأثير في مجرى الأحداث، في الداخل، وأصبح تواصلهم مع الأحباش يتم بصعوبة بالغة، فكان المسلمون على أهبة الاستعداد للتصدي لأي عملية إنزال بحري يقوم بها البرتغاليون على ساحل البحر الأحمر أو المحيط الهندي. وواصل المسلمون تقدمهم في أعماق بلاد الحبشة، واستولوا على مقاطعات الشواء، ومدينتي داوارو وتيجري في أعوام 1531-1529م، وأمهرة 1533م، واجتاحت قوات المسلمين إثيوبيا العليا بأسرها حتى حدود سنار، وأصبحت عشرات المدن الإثيوبية في أيدي المسلمين، بما فيها عاصمتهم أكسوم في إقليم التيجراى.

وبحلول عام 1540م أصبح الجزء الجنوبي والأوسط من إثيوبيا بكامله مع عدد من مناطق الشمال تحت سيطرة هذا الفاتح الصومالي الهمام، الذي أوشك أن يحسم الصراع في هذه المنطقة لصالح المسلمين بصورة نهائية.

ولم يتمكن النجاشي يومئذ من الصمود أمام هجمات جيوش المسلمين إلا بصعوبة بالغة، لاسيما أن جماهير الكادحين في إثيوبيا، والتي كانت تكابد الويلات تحت نير الكنيسة والإقطاع والنظام الملكي البالي، تخلت عنه، واعتنقت أعداد كثيرة من السكان الدين الإسلامي الحنيف، وانحازت إلى المسلمين في القتال ضد حكام إثيوبيا المسيحية، وبذلت كل ما بوسعها للتعجيل في تحقيق انتصارات المسلمين.

وفي غضون ذلك، اتسعت إمارة «عدل» فشملت كل ما كان عرف بـ«إمارات الطراز الإسلامي» ومعظم أقاليم الحبشة النصرانية، وصارت معلمًا بارزًا لمجد الإسلام في هذه الديار.

خامسًا: البرتغاليون يتدخلون:

وفي سبتمبر من عام 1540م مات النجاشي داؤد الثالث بحسرته، وحيدًا طريدًا، بعد أن فقد السلطة، والجيش والأنصار، ليحل محله ابنه كلاوديوس (1559-1540م)، الذي نحج في إيقاف الانهيار النهائي للجيش الحبشي النصراني، «فتغير مصير الحرب بضربٍ من السحر»، كما قال أحد المؤرخين الغربيين.

والحقيقة أن ذلك التغير، ما كان ليحدث لولا وصول نجدة عسكرية برتغالية إلى الملك الجديد، كان قد طلبها منهم الملك السابق بإلحاح، بعد توالي انتصارات الإمام أحمد جوري، بل إن الكنيسة الحبشية نفسها كانت قد بعثت بصرخة استغاثة لبابا روما وعرضت عليه التبعية والخضوع لسلطانه ولكن مع الاحتفاظ بالمذهب الأرثوذكسي.

وقد جاء تدخل البرتغاليين في الحرب إلى جانب الأحباش برًا وبحرًا، في تلك اللحظات الحاسمة، بعد أن كان دورهم قبل ذلك مقتصرًا على أعمال التخريب والنهب في سواحل خليج عدن - جاء ليشكل طوق النجاة للنصرانية اليعقوبية في الحبشة، ولنظامها الملكي البالي، الذي كان يوشك أن يلفظ أنفاسه الأخيرة تحت سنابك خيول المجاهدين المسلمين، في الوقت الذي كان فيه نور الإسلام يوشك أن يعم سائر ربوع الحبشة، وسائر مناطق شرق إفريقيا.

ونتيجة للتدخل البرتغالي المباشر في الحرب إلى جانب الأحباش، اضطرمت المواجهات المسلحة من جديد، وتمكن الإمام أحمد جوري - بعد نجدة عثمانية وصلته من اليمن، مكونة من الإنكشارية والفرسان العرب - من إلحاق هزيمة ساحقة جديدة بالقوات الحبشية - البرتغالية المتحالفة، في معركة أناصي عام 1542م، وتكبد فيها البرتغاليون والأحباش خسائر جسيمة في الأرواح، وتشتت قواتهم ومزقت شر ممزق، وولوا هاربين في كل اتجاه. فقد سقط من البرتغاليين وحدهم في هذه المعركة أكثر من مئتين بين قتيل وجريح، وكان هذا العدد كبيرًا جدًا بالنسبة لهم، قياسًا بحجمهم، وكان من ضمن القتلى قائد القوات البرتغالية في الحبشة «دون كريستوفان دي غاما» ابن الملاح البرتغالي الشهير «فاسكو دي غاما».

ولكن بعد هذا الانتصار حدث ما لم يكن في الحسبان. فقد قام الفاتح الصومالي أحمد جوري - ولسبب ما - بإعادة القوة العثمانية إلى مراكزها في اليمن، ولم يبق إلا على مئتي جندي منهم، ليفاجأ بعدها بعودة الصليبيين للحرب من جديد، وعندها لم يكن أمامه سوى التصدي لهم بمن تبقى معه من قوات.

سادسًا: معركة زنطر واستشهاد البطل:

وهكذا اندلع القتال من جديد بين الطرفين، وبدأت المواجهات بصورة متقطعة، وعلى شكل مناوشات وكر وفر، حتى حدث الاشتباك الكبير في فبراير سنة 1543م في مكان يقال له «زنطر» على مقربة من بحيرة «تانا» (منبع النيل الأزرق)، حيث دارت بين الطرفين رحى معركة رهيبة قاسية، انتهت بهزيمة جيش الإمام أحمد جوري واستشهاده، رحمه الله، فرفع الراية من بعده الأمير نور الدين ابن شقيقه، وتواصلت الحرب بينه وبين الأحباش حتى عام 1559م.

ففي هذا العام رأى الطرفان أن يجنحا إلى السلام، بعد الحرب المتواصلة على مدى أكثر من ثلاثين عامًا، أكلت الأخضر واليابس. وانتهت مرحلة طويلة من الصراع بين المسلمين والأحباش كانت قد بدأت قبل أربعة قرون.

ومنذ ذلك الوقت انتهى تهديد المسلمين للحبشة النصرانية، وانصرف الطرفان كلاهما للاهتمام بشؤونه ومشاكله الداخلية.

ولم يحدث تغيير أساسي في ميزان القوى بين الجانبين، إلا عند قدوم جحافل الاستعمار الأوربي في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، فحينها قويت شوكة نصارى الحبشة، من جديد، بسبب الدعم السخي من قبل الأوربيين، فاستأنفوا حربهم الصليبية ضد المسلمين، بدعم وتشجيع أوربي غربي، لكي يثأروا لكرامتهم التي داسها الإمام أحمد جوري في الوحل، في القرن السادس عشر، وفي غضون ذلك استولوا على الإمارات الإسلامية في القرن الإفريقي، وهي الإمارات المعروفة بإمارات الطراز الإسلامي: كإمارة هرر، وإمارة إيفاد، وإمارة عدل، وإمارة هدية، واحدة بعد الأخرى.

وإن ما يحدث في الصومال في الوقت الراهن ليس سوى أحد تجليات الحرب الصليبية التي انبعثت من جديد في نهاية الحرب الباردة وانهيار نظام سياد بري في الصومال عام 1991م، والتي دخلت بعدها الصومال في دوامة الصراع والاقتتال الداخلي، بتخطيط ودعم أعداء الإسلام وأعداء الصومال الذين يتمثلون في إثيوبيا والدول الصهيوصليبية والمؤسسات الكنسية التنصيرية، الذين يعملون جاهدين على أن لا تقوم دولة إسلامية قوية ذات سلطة مركزية في هذا البلد الإفريقي المسلم، ذي الموقع الجغرافي الإستراتيجي، يمكن من خلالها أن يستعيد أهميته ودوره في نشر الإسلام في إفريقيا، وفي مواجهة الصليبية الإثيوبية والغربية، الذي لعبه في القرون الوسطى والحديثة. ذلك أن الضربة الساحقة التي منيت بها النصرانية في الحبشة والدرس الذي لقنه لها المجاهد الصومالي الفاتح أحمد جوري، لم تنسه الحبشة بعد، ولم ينسه الغرب الصليبي بدوره بعد، واسم هذا القائد المجاهد الأبي لا يزال ماثلًا في الأذهان ويرن في الآذان رنين النواقيس حتى اليوم.

:: مجلة البيان العدد  333 جمادى الأولى 1436هـ، فبراير - مارس 2015م.

أعلى