الإسلاميون.. بين عواصم الائتلاف وقواصم الاختلاف
لهذا المقال مناسبتان: إحداهما أنه تكملة
لما بدأت به في المقال السابق تحت عنوان: (هل لا تزال مصر هي الجائزة؟)، حيث ذكرت
أن هناك أربعة مخاطر كبرى تتهدَّد مستقبل الإنجاز التاريخي المنتظر لمصر تحت قيادة
الإسلاميين، وهي:
- دفع الدولة المصرية تحت حكم الإسلاميين
إلى منحدر (الدولة الفاشلة) لعزلها ثم التفرد بها.
- توظيف الخلافات بين الإسلاميين لضربهم
وضرب الدعوة من خلالهم.
- استعمال الأقباط وبعض الأقليات في كسر
وحدة واستقلال الدولة المصرية.
- تحريك مشكلات سيناء السياسية والعسكرية،
ثم تدويلها لفصلها واستغلالها.
أما المناسبة الثانية، فهي أن المقال مشاركة
في ملف هذا العدد المعنون بـ (قواصم الاختلاف الدعوي).
إذن؛ وبعد تناول الحديث عن المحاولات
المستميتة لدفع مصر نحو مرحلة الفشل، يظل شبح الفرقة بين الإسلاميين في مصر - كما
في كل بلاد المسلمين - أخطر ما يهدِّد مشاريعهم، سواء كانت سياسية أو دعوية أو
جهادية، أو حتى اجتماعية. وهناك حقيقة تاريخية تعكس سنة إلهية، ظلت تحكم مسيرة
أمتنا نحو النهوض أو السقوط؛ وهي أن قوتنا في وحدتنا، وأن أعداءنا مهما عظمت قوتهم
وزاد مكرهم لا ينالون منا بقدر ما ننال نحن من أنفسنا؛ فهناك تجارب إسلامية فذة
أشعَّت بالإبهار والعظمة، كانت وحدة الكلمة فيها عنصراً بارزاً أكسب الأمة أهلية
النصرة وجدارة التمكين؛ وهناك في المقابل نكبات سوداء وفصول دامية دهماء كان
وراءها تفرُّق الكلمة وتشعُّب الأهواء.
وقد وصف القرآن حصاد التنازع والفرقة بأنه
فساد وفتنة، فقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إلاَّ تَفْعَلُوهُ
تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73]، وبيَّن أن عاقبته الفشل
وذهاب الريح، فقال سبحانه: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46].
وإذا رحنا نستعرض محطات بارزة من هذا في
مسيرة الأمة، لرأينا دولاً وممالك عظيمة شُيِّدت على صروح الاعتصام والائتلاف، ثم
هدّتها معاول الفرقة والاختلاف.
• لنتأمل مثلاً في الفصل الأخير من الخلافة
الراشدة كيف كان التنازع والتفرق الذي أُقحم على الأمة إقحاماً في أواخر عهد
الخليفتين المظلومين - عثمان وعلي رضي الله عنهما -؛ سبباً في نهاية تلك المرحلة
التي كانت غُرة في التاريخ الإسلامي، بل الإنساني؛ نهايةً باكيةً داميةً.
• ولنراجع ما حدث مع دولة بني أمية التي
تأسَّست عام 41 هـ، إنها الدولة التي عرفت بـ (دولة الفتوحات)، والتي اتسعت رقعتها
لتمتدَّ من الصين شرقاً إلى المحيط الأطلنطي غرباً، ومن حدود فرنسا شمالاً إلى
منابع النيل جنوباً.. تلك الدولة التي زادت مساحتها على ضعفي مساحة الإمبراطورية
الرومانية، لكنها مع عظم قدرها قَصُر عمرها فلم تكمل قرناً من الزمن. وقد أرجع
عامة المؤرخين سرعة سقوطها رغم قوة بنيانها إلى تعدُّد عوامل الفرقة والاختلاف
فيها؛ ذلك أنها تكاثرت فيها ثلاثة أنواع من الخلافات المورثة للشقاقات، أولها:
الاختلاف بسبب العصبيات القبلية بين العرب اليمنيين والعرب القيسيين، وهو ما
استغله دعاة بني العباس في الدعوة إلى تخليص المسلمين من هؤلاء وهؤلاء. وثانيها:
الخلافات المذهبية التي أنشأت خلافات فكرية تحوَّلت إلى صراعات سياسية لم تلبث أن
أدَّت إلى ثورات تخريبية يقودها الشيعة تارة والخوارج تارات، مع ثورات خرج بها
قادة كبار كعبد الله بن الزبير وعبد الله بن الأشعث الكندي ويزيد بن المهلب بن أبي
صفرة، وغيرهم. وثالثها: خلافات أسرية داخل الأسرة الحاكمة نفسها.. كل ذلك نخر في
بنيان الدولة حتى ذهب بأسُها وقصر عمرها معجلاً بسقوطها عام 132هـ على يد بني
العباس.
• وإذا ذهبنا نسترجع ذاكرة التاريخ وما سطره
عن دولة بني العباس التي قامت على أنقاض دولة بني أمية؛ لوجدناها دولة قامت في
بدايتها على إحكام الحكم وارتكازه على وحدة الكلمة، وقد كانت أسعد حظاً من دولة
بني أمية من حيث استمرار قيامها لأكثر من خمسة قرون، غير أن القرن الأول منها –
وهو الذي يمثل قرن الوحدة من تاريخها - كان هو قرن القوة والبأس الذي حكم فيه
خلفاء اجتمعت أو كادت تجتمع عليهم الأمة، لكن مرض الفرقة أصابها في المرحلة الثانية
الممتدة لنحو مائتين وخمسين عاماً، حيث سيطر على السلطة الأتراك والبويهيون، وكان
الخلفاء فيها مجرد صور، ومع ذلك ظلت الدولة متماسكة نسبياً. أما المرحلة الثالثة
والممتدة للمائة عام الباقية، فقد فَقَدَ الخلفاء فيها حتى الصورة، حتى سطا
الطامحون المتنافسون على مفاصل الدولة من داخلها، ممهدين الطريق لحثالة البشر من
التتر للانقضاض من خارجها. وقد أفاض المؤرخون في إيراد أسباب ذلك السقوط المروع
لأطول دول الإسلام عمراً وأكثرها اتساعاً، وهو ما يمكن إجماله في أن الخلافات كانت
أكبر من أن تواجه التحديات؛ فقد كان الانهماك في الفرقة صارفاً عن التفرغ للنظر في
ترميم أحوال الدولة ولمِّ شعثها، حتى اتسعت الخروق على الراقعين، واستعصى العلاج
على المصلحين؛ فخلافات الفرقاء التي لم تكن بعيدة عن الحميّة العنصرية والعصبية
المذهبية؛ فتَّت الأمة في الداخل، فلم تقوَ على مقاومة الطامعين في الخارج، حتى
أصبح القادم من هذا الخارج هو الأقوى والأقدر رغم حقارة حضارته وسخافة ثقافته،
فلما اجتاحوا بشركهم ديار التوحيد لم يجدوها موحدة، ولم يروا من الأمة إلا بقايا
مفككة مشققة، ولم يجدوا من يقاومهم مع الخليفة في بغداد إلا فتات دولة ورفات نظام؛
سرعان ما تداعى المختلفون فيه أمام بأس القادمين المتحدين على باطلهم.
• أما دولة بني أمية في مرحلتها الثانية
بالأندلس - إسبانيا والبرتغال اليوم - مع بلاد المغرب العربي؛ فقد عاشت ثمانية
قرون مثَّلت فيها – حال وحدتها - حاضرة الإسلام الزاهرة الظاهرة في أوروبا، أيام
كانت تلك القارة تغصُّ بالظلم وتغوص في الظلمات. وعندما أصيبت تلك الدولة بداء
الأمم، فتَّ الخلاف في عضدها، وصار الشقاق بين الأمراء ظاهرة تميزهم، حتى غدت تعرف
بـ «دولة الطوائف» بعد أن لمَّ شملها (الموحدون)، حيث تخالف أمراؤها أكثر مما
تحالفوا، وتدابروا دون أن يتضافروا، حتى قيل فيهم وفي ملوكهم المتعاظمين بالأسماء
دون مسمى:
ألقاب
مملكة في غير موضعها
كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد
وقد
تنازلوا عن العز بتنازعهم، حتى وجدوا أنفسهم في مواجهة خصوم من عبَّاد الصليب
كانوا في أول شأنهم بلا شأن ولا خطر، فإذا بهم مع شتات خصومهم يجتمعون على فضِّ
جامعة الإسلام، مخترمين إياها بقوة السلاح، غير محترمين حقوق الجوار ولا أعراف
الإنسانية؛ في أكبر عملية غدر إجرامي في التاريخ، لم تجبر الناس فقط على ترك أرضهم
وديارهم، بل أكرهتهم على ترك دينهم! لكن من يُلام؟ أهم المختلفون الموحّدون.. أم
المتحدون المشركون الذين اهتبلوا فرص اختلاف الخصوم فلم يختلفوا في اقتناصها؟
• بمجيء آخر الكيانات العالمية للدولة
الإسلامية – دولة الخلافة العثمانية -، نرى دولة قد استمرت مدة قرنين من الزمان
قبل أن تتحول إلى دولة خلافة جامعة عام 923 هـ، وقد نشأت فتيَّة عصيَّة على
الاختراق، وظلت كذلك لعشرات العقود؛ تنافح عن حياض الأمة بما أوتيت من قوة وصلابة
لحمايتها من ذئاب الأرض وكلابها، وذلك من أطرافها الأربعة؛ ففي شرق دولة الخلافة
كان العثمانيون يقاتلون الصليبيين المتحالفين مع الرافضة الصفويين في إيران، وفي
الغرب كانوا يدافعون النمساويين والإسبان الذين أسقطوا دولة الأندلس ولا يريدون أن
تقوم للإسلام قائمة أخرى في بلاد أخرى، وفي الشمال ظلوا ينازلون الروس الطامعين في
ضمِّ المستطاع من بلاد المسلمين إلى الإمبراطورية الروسية القيصرية، وفي الجنوب
كانوا بالمرصاد لتربّص البرتغاليين بالجزيرة العربية لتنصيرها بعد الانتصار عليها.
وكانت تلك الدولة قد بسطت سلطانها على معظم ما يُعرف اليوم بالعالم العربي، مع
امتدادها إلى أواسط آسيا، وسيطرتها على الجزء الجنوبي الشرقي من أوروبا.. واستمر
قيامها حامية لأوطان المسلمين لأكثر من خمسة قرون، إلى أن تعاظمت الاختلافات
السياسية الداخلية بين سلاطينها وولاتها، وتحول الانقسام في الرأي إلى تقاسم للأرض
بألسنة الخداع المسيَّس أو أسنَّة الخلاف المسلح؛ فاستقل المماليك في العراق،
وانفصل آل العظم بسورية، والشهابيون بلبنان، ومحمد علي ثم علي بك الكبير بمصر،
وضاهر العمر بفلسطين، وأحمد الجزار بعكا، والقرامنلي بليبيا.. وكان كل كيان
منفصلاً يسعى إلى التوسع على حساب السلطة المركزية، وهو ما أضعف قوتها وذهب
بهيبتها بين الأمم، وزاد الطين بلة ما طرأ من خلاف سبَّبته الحميَّة الجاهلية بين
الترك والعرب، وهو ما أوصل إلى ما عُرف بالثورة العربية التي كانت خنجراً في ظهر
الخلافة التركية في أشد أوقات أزمتها. وباحتدام النزاع بين مكونات الدولة، انفتحت
شهية القوى الدولية المعادية لنيل نصيب من ميراث لم يمت صاحبه، لكن تنازع ورثته!
فتربص نصارى فرنسا بالشام وبلاد المغرب العربي، وتحرش نصارى إنجلترا بمصر والعراق
ومنطقة الخليج، وترصد اليهود للوصول إلى فلسطين، حيث أدركوا أن طريقهم لإقامة
دولتهم اليهودية لا يمر إلا فوق مخلّفات الخلافات بدولة الخلافة العثمانية، وهو ما
حدث بكل أسف؛ سقطت دولة الإسلام عام 1924م، لتقوم دولة اليهود عام 1948م.
وفي عصرنا الراهن:
• وبعد تسبُّب الاختلاف في توهين ثم إسقاط
ذلك الكيان العالمي الجامع للمسلمين منذ أقل من مائة عام، بعد أن ظل يمثل قطباً
دولياً رئيساً في العالم؛ ظلت الأمة تحاول أن تستعيد وحدتها لاسترجاع قوتها؛ ولذلك
تواصل استهداف الأعداء لشرفائها الساعين لإعادة جمع كيانها وتوحيد كلمتها من جديد،
فقد كان خيار كل الصادقين العاملين للإسلام يلتقي حول محاولة إعادة كيان الإسلام
العالمي مرة أخرى، ولو بصيغ أخرى؛ ولذلك قامت الجماعات، ونشأت الحركات، لكن هذا
الخيار كان مرصوداً دائماً باختبار قدرة المتصدّرين له على الصمود ضد رياح
الاختلاف وأعاصير النزاع، فما أن ظهرت حركة أو جماعة – منذ سقوط الخلافة إلى الآن
-، فتتقدم خطوات في سبيل هذا الهدف المشروع؛ إلا وتحاصَر بالمشكلات والمطاردات
والتدخلات والاختراقات الهادفة إلى زرع الخلافات والشقاقات، ومع هذا فقد نجح الإسلاميون
بعد إخفاقات طويلة في عقود الأربعينيات والخمسينيات والستينيات والسبعينيات
الميلادية، في الوصول خلال حقبة التسعينيات إلى عتبة التحول من مرحلة الجماعات
والتنظيمات إلى مرحلة الدولة والسلطة؛ فقد تُوِّجت أكثر من تجربة إسلامية في ربع
القرن الأخير بإنجازات ضخمة بكل المقاييس، حتى عُدَّت بعض تلك الإنجازات من قبيل
المعجزات التي ما كان لها أن تتحقق – بعد تأييد الله – إلا باجتماع الأمة حول
رموزها وتأهّلها لنوال النصر. ولقد شهد جيلنا خلال الربع قرن الأخير حدثين عالميين
مبهرين في طريقة حصولهما وجسامة نتائجهما، كان الإسلاميون هم أداتهما القدرية
ووسيلتهما الفعلية؛ أحدهما: اندثار الاتحاد السوفييتي في آخر عام 1991م، والذي كان
يمثل القطب العالمي الثاني، بعد هزيمته تحت ضربات الجهاد الأفغاني الأول الذي
اجتمعت عليه الأمة وقتها. والآخر: اندحار الاتحاد الأمريكي – الذي أصبح القطب
العالمي الوحيد –، حيث هُزم بعد منازلة الأفغانيين والعراقيين له بعد غزوه
بلديهما.
إنهما حدثان كونيان جليلان في زمن قياسي
قصير، تعاظمت آثارهما العالمية والإقليمية، وكانت وحدة الصف الإسلامي فيهما هي
الظاهرة الأبرز، وقد كانا جديرين بقلب الموازين الدولية لصالح أمة الإسلام لو
أُحسن استغلال نتائجهما واستثمار مخرجاتهما، لكن قاتل الله الخلاف، فهو يذهب بكل
خير، ويحل محله كل شر.
لا يستطيع منصف أن ينكر عبقرية وجسارة من
كانوا في صدارة هذين المشهدين من الإسلاميين، لكن الأمانة تقتضي أيضاً أن نقول إن
شيئاً خطيراً حدث حوَّل نتائج تلك الجسارة الرائعة إلى خسارة مروعة، فما القصة؟
إنها قد تكون معروفة لدى كثيرين، لكن استذكارها والتذكير بها يصبح اليوم من
الضرورات الملحة، خاصة أننا نعيش مرحلة شبه إعجازية ثالثة ولمّا ينقضِ ذلك الربع
قرن العجيب من الزمن، وهي مرحلة لا تقلّ في جسامة خطرها وضخامة آثارها عن الحدَثين
الكبيرين السابقين؛ إنها مرحلة التحول الكبرى الحالية التي انطلقت مع ثورات العرب
على الفساد والاستبداد المتسبّب في ضياع الأمة وتفككها طوال ما يقرب من قرن مضى،
تلك المرحلة التي يمكن أن تقلب أوضاع العالم رأساً على عقب لصالح المسلمين؛ لو
أحسنوا استغلال ظرفها باتحادهم، ولم يضيعوا ثمرتها بفرقتهم.
سنحتاج إلى تحريك الذاكرة المعاصرة القريبة
لنفتش عن إجابة لسؤال الساعة، وهو: كيف تحوَّلت انتصاراتنا إلى انكسارات؟ وكيف
يتفادى الإسلاميون هذا في صعودهم الراهن الذي يراهن جميع الكارهين للدين على
تحويله إلى مدرج للهبوط أو هاوية للسقوط؟ سأذكر حالات ثلاث هي الأبرز في التجارب
الإسلامية المعاصرة التي طاولت رؤوسنا بها الجوزاء، ثم أجهضتها اختلافات الأهواء.
الجهاد الأفغاني الأول.. والانتحار على
القمة:
- كانت (الجمعية الإسلامية) كبرى التجمّعات
الإسلامية التي التأم تحت رايتها الإسلاميون في أفغانستان، وبعدما غزا الروس ذلك
البلد وبدأ الجهاد الأفغاني الواجب لدفعه، كان من المفترض أن يظل شمل الإسلاميين
ملتئماً تحت اسم الجمعية الإسلامية، لكن ذلك ما لم يحدث، إذ انشطرت الجمعية إلى
قسمين لم تفصل بينهما اجتهادات فقهية أو توجهات سياسية، بل كان الاختلاف العرقي هو
سبب الانشطار؛ فقد انقسمت الجمعية الإسلامية إلى قسمين: (الحزب الإسلامي) الذي
يعدّ جمهوره من عرقية البشتون بزعامة «قلب الدين حكمتيار»، و(الجمعية الإسلامية)
بزعامة (برهان الدين رباني) وجمهورها من عرقية الطاجيك. وتعدّدت الرايات بعد ذلك
أثناء الجهاد الأفغاني الأول ضد الروس ثم عملائهم الشيوعيين (من عام 1979 إلى
1989م)، فكانت هناك سبعة أحزاب كبيرة، وأحزاب أخرى صغيرة، وقد عملت أجهزة
الاستخبارات العالمية – وبخاصة الأمريكية - على بثِّ الفرقة بين هذه التجمعات؛ عن
طريق ربط فصائل المجاهدين بأجندات خارجية متناقضة، تحسباً لمرحلة يبقون فيها
مختلفين بعد تحقيق الانتصار.
- خرج السوفييت من أفغانستان عام 1988م،
لكنهم تركوا نظاماً شيوعياً عميلاً لهم، لذلك كان لا بد من أن يستمر الجهاد، وهو
ما حصل، حتى أُسقط ذلك النظام العميل، لكن المجاهدين اختلفوا فيما بينهم حول من
يدخل العاصمة كابل أولاً؟ ومَن ثمَّ يكون له الحق في إدارة الدولة؟ لكنهم اتفقوا
بعد مجادلات وخلافات على حل توافقي، وهو أن يكون الدخول بشكل جماعي، ثم تسند
الرئاسة لمدة شهرين لرجل صوفي كان له فصيل في المجاهدين هو (صبغة الله مجددي)، على
أن يليه في السلطة (برهان الدين رباني) لمدة أربعة أشهر، ويكون رئيس وزرائه (قلب
الدين حكمتيار)، ووزير دفاعه (أحمد شاه مسعود)؛ وبهذا صارت الدولة ذات أركان ثلاثة
تنافرت ثم تناحرت.
- دخل المقاتلون العاصمة فاتحين – وَفق ذاك
الاتفاق - في أجواء فرحة ونشوة عمَّت العالم الإسلامي كله بسبب الانتصار على أقوى
وأشرس جيوش العالم، ثم دحر عملائه من الشيوعيين المرتدين، وكانت هذه أول تجربة –
بعد نازلة إسقاط الخلافة - يصل إسلاميون فيها بمشروع إلى نهاية ناجحة.. ودخلت
الفصائل المجاهدة في يوم مهيب العاصمة (كابل)، وَفق التوافق المذكور، لكن أسباب
الاختلاف العرقية والحزبية والشخصية والمتعلقة بالأجندات الخارجية؛ تسارعت إلى صنع
واقع جديد، حيث قضى (مجددي) مدته الرئاسية في أجواء قلق وترقب واستعداد من مختلف
الأطراف لإحراز مكاسب أكبر في الفترة الانتقالية، وعندما آلت الرئاسة إلى برهان
الدين رباني تشبَّث بها ورفض التخلي عن السلطة بعد انتهاء مدته المتفق عليها، وظل
رئيس وزرائه (حكمتيار) لهذا ممتنعاً عن دخول كابل – بتشجيع من باكستان - إلا بفتح
جديد يزيح زعامة غريمه (أحمد شاه مسعود) ومنافسه (رباني)!
- بدأ حكمتيار بقصف كابل بعنف، بمعونة الجنرال
الشيوعي السابق (عبد الرشيد دوستم)، ودُمّرت كابل وروّع أهلها وقتلوا وشردوا بما
لم يحدث أيام الاجتياح الشيوعي، وكاد طبيعياً أن يرد وزير الدفاع من الداخل على
القصف المتتابع من الخارج، وكان متوقعاً أيضاً أن ينحاز الطاجيك والأوزبك إلى
(رباني) و(مسعود)، ويقف البشتون بصف (حكمتيار) البشتوني!
وهكذا.. وقع المجاهدون في أحبولة الحمية
الجاهلية التي حذر منها الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال: «دعوها فإنها منتنة»
(البخاري/ 4905)، ودارت طاحونة الحرب الأهلية في أفغانستان مدة أربع سنوات، ليسقط
خلالها نحو 40 ألف قتيل، بين فصائل تبيَّن أن قتالها في الفتنة لم يكن لتكون كلمة
الله هي العليا، لكن: لتكون كلمة القبيلة أو الحزب أو جهة الدعم هي العليا!
طالبان وميراث الخلاف:
جاءت حركة طالبان ذات الانتماء البشتوني في
أجواء تلك الحرب، حيث حاول طلاب الشريعة الذين كانوا في الصف الثاني من المجاهدين،
تصحيح الأوضاع، وإعادة توجيه المسار لصالح عموم الشعب الأفغاني الذي فُجع في
قادته، وقام الطلبة بما يشبه الثورة على المتخالفين من القادة الكبار جميعاً؛
الذين نجحوا في جهاد العدو الظاهر، بينما لم يفلحوا في جهاد الشيطان والهوى
الباطن.. ولاقت خطواتهم الإصلاحية السريعة في القضاء على تجار السلاح والمخدرات
وقطّاع الطرق، ترحيباً حاراً من جموع الشعب، فتتابعت طلبات زعماء القبائل وحكّام
المحافظات للدخول تحت حكمهم، وساعد هذا في التسريع بسيطرتهم على ما يزيد على90% من
أراضي أفغانستان، باستثناء منطقة وادي بنشير التي تحصّن فيها (أحمد شاه مسعود)
و(رباني) و(سياف) رافضين النزول على حكم طالبان، ومدعومين في ذلك من قوى غربية على
رأسها فرنسا. وقد حاول (حكمتيار) التقرب إلى طالبان في البداية، باعتبار أنه من
البشتون مثلهم، لكنهم وضعوه ضمن أهداف حركتهم التصحيحية، فأخرجوه من المناطق التي
كان مسيطراً عليها. ولما خَلُصت معظم أراضي أفغانستان لطالبان، وبدأت تتهيّأ لصيغة
من القبول الدولي الذي أدركت أن تجاهله سيوصل لمصير مجهول؛ كانت المصلحة العليا
للبلاد تتطلب تسوية الوضع حول الخمسة في المائة الباقية من أرض البلاد، والخارجة عن
حكم طالبان، إذ كان من الممكن أن تسوَّى خلافات المجاهدين السابقين واللاحقين في
مصالحة يتواضع فيها الجميع للجميع في ظل شريعة الإسلام التي تنصف الجميع، لكن ذلك
ما لم يحدث، إذ ظل المنحازون إلى الشمال متحصّنين بالجبال ومتحيّنين فرصة وثوب
جديدة على كابل المبتلاة، وظلت طالبان متمسّكة بإسقاط آخر معاقل «المجاهدين
القدامى».
وقد أثارت خطوات طالبان السريعة بالتحكم في
مفاصل الدولة عن طريق تحكيم الشريعة باستقلال واضح عن كل الأجندات الخارجية؛ أثارت
هلع قوى عالمية وإقليمية خشيت أن تمثل أفغانستان نموذجاً ملهِماً للشعوب المجاورة
في آسيا الوسطى؛ لهذا كان التخلص من دولة الطالبان قراراً متخذاً في أمريكا
وحلفائها منذ مدة حكم (بيل كلينتون)، لكن أحداث سبتمبر عجّلت بموعد تنفيذ القرار،
وهو قرار لم يكن سهل التنفيذ؛ لتوحُّد جموع الشعب الأفغاني مع قيادته الجديدة،
ولأن ذلك الشعب خارج للتو من ملحمة بطولية أرغمت أنف جيش الإلحاد الروسي، فكان لا
بد للجيش الصليبي الدولي، بزعامة أمريكا، من ظهير داخلي يعين على تنفيذ المؤامرة.
ووجد الأمريكيون ضالتهم في قوات (تحالف الشمال) بقيادة رباني وسياف، الرمزين
البارزين في الجهاد ضد الروس، (اغتيل مسعود قبل الاجتياح الأمريكي بثلاثة أيام)،
وإذا بمجاهدي الأمس ضد غزو الروس؛ يقفون في الغد مع الغدر الأمريكي! وسبحان مقلب
القلوب!!
وقد مثَّل ذلك التحالف جسر عبور للمحتل
الصليبي الأمريكي نكاية في حكم الطلبة الذين اعترضوا على استمرار الحرب الأهلية!
وسقطت دولة الطالبان بالخيانة، بينما لم يُقِم أصحاب الشِّمال دولة لتحالف
الشَّمال، بل وقع الجميع تحت أقدام حكم عميل جديد يلبس مسوح الأفغان على جلود
الأمريكان!
تجربة العراق بين «صحوات» المنافقين وغفلات
المجاهدين:
كشف الشق السني من شعب العراق - والإسلاميون
في مقدمتهم – عن شجاعة نادرة في التصدي للغارة الأمريكية المدعومة أممياً، والتي
استهدفت إخضاع العراق والسيطرة عليه تمهيداً لهيمنة أمريكية أوسع على سائر
المنطقة، لكن مقاومة المجاهدين من أهل السنة أربكت خطط هذا الغزو، وهي لم تحبط
مشروع السيطرة الأمريكية على العراق فحسب، بل أجهضت مشروعاً أضخم يقبع وراءه، وهو
مشروع هيمنة الأمريكيين على العالم لمائة عام قادمة تحت اسم (مشروع القرن
الأمريكي)، والذي سقط في أروع انتصار، على أطغى قوة، في أسرع مدة.
كان ذلك الإنجاز تاجاً على رأس كل مسلم، لا
في العراق فحسب، بل في سائر أنحاء العالم، وقد اشتركت كل فصائل المقاومة في شَقِّ
الطريق نحوه، وإن كان بنسب متفاوتة، ولم تكن هناك تناقضات ظاهرة عرقياً أو مذهبياً
بين الاتجاهات الرئيسة لتلك المقاومة، إذ كانت كلها سنية في خاصتها وعامتها، وكذلك
لم تظهر اختلافات حادة في الاجتهادات في مراحل النصر الأولى، فبدا المجاهدون على
قلب رجل واحد، وكانت هناك ثلاثة اتجاهات رئيسية من المجاهدين تتفق كلها على مبدأ
دحر الغزاة، لكنها اختلفت فيما بعد في أمور أخرى، من بينها: الموقف من المتعاونين
مع المحتل، وكيفية إدارة البلاد بعد خروج ذلك المحتل، وطبيعة العمل السياسي الذي
يمكن من خلاله توظيف ثمرة النصر لصالح العراقيين وسائر الأمة. الاتجاهات الجهادية
الثلاثة بفصائلها كان منها من يرى أن العراق نفسه يمكن أن يكون مبدأ انطلاق نحو
تحرير إرادة الأمة كلها، وكذلك فإن العدو ليس هو المحتل فقط، بل كل من تعاون معه..
لكن تلك الرؤية لم تلقَ موافقة الاتجاه الثاني من الفصائل التي رأت عدم التوسع في
الإطار الجهادي زمانياً ولا مكانياً ولا إنسانياً، إلا في حدود ما يتعلق بالشأن
العراقي، بينما كان الاتجاه الثالث ميالاً للحل السياسي وحده، ولو بالمشاركة في
المرحلة الانتقالية التي وضعت أمريكا بالاشتراك مع إيران خطوطها العريضة.
ومع هذا؛ فقد كان كل العرب السنة على وفاق
في هدف إخراج المحتل، وقد مثَّل هذا غصة في حلوق أعداء العراق وأعداء الأمة كلها،
ولذلك وضعوا أعينهم على اتجاه رابع، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وهم فريق
المختَرَقين المنتفعين من الغزاة والمستفيدين من بقائهم، أولئك هم فئام المنافقين
آفةُ كل زمان ومكان، وأَوكَلوا إليهم بثَّ الفرقة وإثارة اللغط حول أهداف كل اتجاه
من المجاهدين، فتركز التشويه في البداية على الأشد نكاية في العدو، ثم بدأوا من
خلال أبواقهم بتصنيف المقاومين للعدوان إلى إسلاميين ووطنيين - يعني علمانيين –،
ثم إلى سياسيين وجهاديين، ومتشددين ومعتدلين، ومواطنين وأجنبيين، حتى ثبَّتوا فيما
بعد مصطلح تقسيم المقاومة إلى «شريفة» و«غير شريفة»؛ كل ذلك تمهيداً لتنفيذ
استراتيجية وكر التآمر الأمريكي (مركز راند للأبحاث) التي دعت إلى ضرب ما يُسمى
«الإسلام المتشدد» بما يُسمى «الإسلام المعتدل»! بعد تطبيع التعامل مع ذلك التصنيف
إعلامياً وسياسياً. وقد أثبتت الأحداث فيما بعد - في العراق وغيره - أن كل من يريد
شريعة الإسلام هو عندهم متشدد، سواء كان سعيه لإقامتها عالمياً أو محلياً، سياسياً
أو ميدانياً، سلمياً أو عسكرياً.
ثم تقرر ضرب الجميع بالجميع، في ظرف غفلة
قبيحة مدانة ضربت الجميع حتى ألهتهم عن قول الله تعالى {إنَّمَا الْـمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ
فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10]، فلم تنشد هذه الرحمة
بالتراحم الواجب والاعتصام المفروض المستلزم نبذ الشقاق وتقليص الخلاف. ثم كانت
الكائنة المتوقعة بتسليح أهل النفاق لضرب المختلفين، فقد صنعت أمريكا على عينها
صنائع وضيعة من المنافقين، وأطلقت عليهم اسم «صحوات العراق»؛ لتقضي قضاء مبرماً
على صحوة كل العراقيين! فبينما كانت المقاومة بجميع فصائلها تذيق الأمريكيين
وعملاءهم مرارة الهزيمة باهظة التكاليف، كان هناك من يبثّ ثم يوسع ثم يعمّق الفرقة
بينهم، لينصرفوا عن مواجهة الأمريكيين وعملائهم، إلى مواجهات فيما بينهم؛ ليفضي
ذلك إلى ضعف يسهّل هزيمتهم وتصفيتهم جميعاً – بأيدٍ محلية أسلحتها أمريكية وبتحويل
شهري يصل إلى 200 مليون دولار. وبدأ الصدام بين مجموعات المجاهدين المتناثرة
المتناحرة، وبين جيش بلغ قوامه نحو مائة ألف من المرتزقة الخونة الذين جرى تجهيزهم
لإخراج كافة المجاهدين السنة من ساحة المعركة، معتدلين أو متشددين، سياسيين أو
عسكريين، مواطنين أو مهاجرين، وهو ما نرى – بكل أسف – أنه وقع على الوجه المخطط
له، حتى صار أهل السنة في العراق بين مجاهد مطارد، وسياسي محاصر، وعوام لم يعد
أمامهم اليوم إلا الاعتصام والتظاهر لاستجداء أدنى الحقوق! ومع ذلك تتوعدهم
الصحوات التي ثُبِّت أخبثها بالجيش العراقي، بتكرار حملات عام 2006م.
وبعد:
فهذه تجارب مريرة، لكن الأمرَّ منها هو
تناسيها وتجاهلها ثم تكرارها لاستنساخها، لمزيد من الانكسار بعد كل انتصار.
- هل يريد الإسلاميون المختلفون في مصر أو
سورية أو ليبيا أو تونس، أن يتكرر اليوم في بلادهم ما وقع بالأمس القريب في
أفغانستان أو العراق أو الصومال؟
- وهل يعي الإسلاميون في مصر، على وجه
الخصوص، أن رهان الأعداء معقود على إيصالهم إلى مرحلة الصدام بعد الخصام، وعلى
نقلهم – في مراحل لاحقة – من مربع التنافس الحزبي إلى مستنقع التقاتل الحربي؟
- وهل يتنبَّه المجاهدون في سورية مبكراً
لمؤامرة تكرار (السيناريو) العراقي في صفوفهم، من خلال تقسيمهم إلى ذات القسمة
التي انقسم بها العراقيون السنة؟
- هل بذل المصلحون لذات البين مجهودات أو
أطلقوا مبادرات في الإصلاح والتأليف توازي أو تقارب ما يصرفه المفرِّقون من وقت
وجهد في التفريق والتمزيق من حيث يشعرون أو لا يشعرون؟
إن
الوقت قد حان لإطلاق مبادرة إصلاحية ذات مقومات شرعية ومكونات عالمية للمسارعة في
القيام بالفريضة الكفائية التي يأثم الجميع بتركها، وهي فريضة إصلاح ذات البين بين
الموحّدين وبذل جهود في (التقريب) بين أهل السنة وأهل السنة؛ فنيران الاختلاف نرى
نذرها اليوم تشتعل ثم تستعر في أكثر المواطن الساخنة في عالمنا الإسلامي، فهل يقوم
فريق من «الإطفائيين» المحتسبين بتدبير الخطط لإخمادها وتقدير مكونات وإمكانات
القيام بها؟ إن هذا ما نرجوه وما ندعو إليه قبل أن تدهمنا أيام تذهب بما تبقَّى
لدينا من آمال وأحلام.. والله حسبنا ونعم الوكيل.
** ملف خاص ( قواصم
الاختلاف الدعوي )
:: مجلة البيان العدد 311 رجب 1434هـ،
مايو - يونيو 2013م.