الطائفـية في مـيزان الإسلام

الطائفـية في مـيزان الإسلام


من رحمة الله عز وجل أن حذر عباده المؤمنين من الفتن قبل وقوعها وبيَّن لهم العاصم منها، ألا هو كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 1٠3]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم أمرين لن تضلوا إن تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله)[1]، كما حذر من الفتن في قوله سبحانه: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: ٥٢]، وقال سبحانه وتعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، كما حذر نبيه صلى الله عليه وسلم من الفتن في أحاديث كثيرة، منها قوله صلى الله عليه وسلم: (تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً فأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء وأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء...) الحديث[2].

وقال صلى الله عليه وسلم: (إن السعيد لمن جنب الفتن). وإن المتأمل في عصرنا الحاضر ليرى دون أدنى جهد ما يموج فيه من الفتن والبلايا التي تموج كموج البحر بعضها يرقق بعضاً كما قال صلى الله عليه وسلم: (.. وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها. وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، وتجيء فتنة فيرقق بعضها بعضاً وتجيء فتنة فيقول المؤمن هذه مهلكتي... الحديث)[3].

ولا تخرج هذه الفتن عن فتنة الشبهات والشهوات. ولو أردنا أن نبحث عن أبرز فتن الشبهات التي تميز بها واقعنا المعاصر؛ لوجدناها متمثلة في (فتنة التلبيس والتضليل والخداع)، حيث أصبحت هذه الفتنة سمة بارزة في زماننا اليوم، لا سيما بعد هذه الثورة الإعلامية والتقنية التي تدخل بغير استئذان إلى بيوت الناس وعقولهم وأفكارهم ومن ورائها {شَيَاطِينَ الإنسِ وَالْـجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: ٢١١]، ولو شاء الله عز وجل ما فعلوه، لكنها سنة الابتلاء والمدافعة، فسبحان الله وبحمده على علمه وحكمته وعزته ورحمته.

وإن من صور التلبيس والتضليل اليوم ما يحصل من التلاعب بالمصطلحات ووضعها في غير موضعها واستخدام ذلك في تحسين القبيح وتقبيح الحسن. ومع ما في المصطلحات من فائدة كبيرة في كونها وسائل للتفاهم بأقصر طريق وأوضح دلالة وأقل مجهود ما دامت لا تتعارض مع الكتاب والسنة ولا مع العقل والفطرة؛ إلا أن قوماً تلاعبوا بها ووظفوها في التلبيس على الناس وإضلالهم؛ فشوُهوا بها الحق وزينوا بها الباطل.

والمصطلحات من أشد العناصر الثقافية أثراً وفتكاً في ثقافات الأمم، ومع أن المصطلح لا يتجاوز كلمة أو كلمتين أو ثلاث ولا يتعدى ذلك إلا نادراً، إلا أن هذه الكلمة بمدلولها الذي يرمي المتكلم بها لها أثر في تفريغ العقول والقلوب وملئها. ولها مفعول السحر الذي يستعصي فهمه على منطق العقل.

وإن من المصطلحات التي يتلاعب بها اليوم، لا سيما في هذه السنوات الأخيرة، ويلبس على الناس بها لتهدم عقيدة الولاء والبراء في قلوب المسلمين ولتقصى شريعة الله عز وجل عن الحكم؛ ما يسمى (فتنة الطائفية)، أو الحروب الأهلية، ويطرق عليها بكثافة وأساليب متنوعة، لا سيما عند الرافضة والعلمانيين وسادتهم من الغرب الكافر؛ وذلك لتحقيق مآربهم في القضاء على أهل السنة وعقيدتهم وإقصاء شريعة الله عز وجل، حتى باتت بهذا الطرح المكثف مكروهة ومنبوذة عند أكثر الناس دون إدراك لمغزى مشيعيها. وإبراء للذمة ونصحاً للأمة أذكر فيما يلي ما أحسبه الفهم الصحيح لـ (الطائفية) ومتى تكون مقبولة ومتى تكون مرفوضة، مستضيئاً في ذلك بالميزان الشرعي والمستمد من الكتاب والسنة الذي هدانا الله عز وجل إليه، لا من موازين البشر الجاهلية المعوجة الضالة المضلة.

المعنى اللغوي للطائفية:

قال الراغب في المفردات: (والطائفة من الناس جماعة منهم، ومن الشيء القطعة منه، قال تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة: ٢٢١]. وقال بعضهم: قد يقع ذلك على الواحد فصاعداً وهو مروي عن ابن عباس) أ. هـ، والطائفي نسبة إلى الطائفة.

كشف التلبيس في كلمة (الطائفية) اليوم:

إن لفظ الطائفة ورد في كتاب الله عز وجل وفي السنة الصحيحة، وذلك في مواطن كثيرة، والذي يهمنا من ذلك: المعنيين الكبيرين لمفهوم الطائفة الوارد ذكرها في الكتاب والسنة.

المعنى الأول:

إن الله عز وجل أطلق على المؤمنين اسم الطائفة كما أطلق في مقابلها اسم الطائفة على الكافرين أو المنافقين، وذلك في قوله تعالى عمن آمن من قوم شعيب عليه السلام ومن كفر منهم {وَإن كَانَ طَائِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَّمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْـحَاكِمِينَ} [الأعراف: 87]، وكذلك قوله تعالى: {فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ} [الصف: 14]، فسمى المؤمنين طائفة ويقابلهم طائفة الكفار الذين لم يؤمنوا. وقال الله عز وجل عن طائفة المؤمنين وما يقابلهم من طائفة المنافقين وذلك في سياق غزوة أحد: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِّنكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْـحَقِّ ظَنَّ الْـجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ...} [آل عمران: 1٥4]، وليس بين هاتين الطائفتين التقاء ولا ولاء ولا محبة ولا نصرة، بل المتعين على طائفة المؤمنين البراءة من طوائف الكفر والنفاق وبذل البغض والعداوة لهم وجهادهم بالبيان والسنان كلٌّ بحسبه حتى يكون الدين كله لله وحده. فطائفة المؤمنين في شق وطائفة الكفار والمنافقين في شق آخر. ولا يجوز للمسلم أن يستحيي من استخدام هذا المصطلح (الطائفية)، بل عليه أن يغتبط ويعتز بأنه من طائفة المؤمنين وأنه مفاصل ومتبرئ من طوائف الكفر والنفاق، وإذا وجدت القدرة على جهادهم وجب ذلك ولم يلتفت إلى شبهات المشبهين والمضللين الذين يرفعون في وجوه الدعاة والمجاهدين سيف الطائفية ويصفون الدعوة للإسلام والسنة والجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام لإعلاء كلمة الله؛ بأنها طائفية أو حرب أهلية. نعم نقولها بكل عزة ولا تردد ولا استحياء: إنها طائفية كونها بين طائفة الحق وطائفة البطل، بل بين حزبين حزب الرحمن وحزب الشيطان.

إن الذين يتذرّعون برفض الطائفية مطلقاً باسم الوحدة الوطنية أو القومية أو الإنسانية، يريدون التوصل بذلك إلى ما يسمونه التسامح ورفض عقيدة الولاء والبراء وشريعة الجهاد وتقديس الوطن وجعل أبناء الوطن الواحد أو الإقليم الواحد إخواناً ولو كان منهم اليهود والنصارى والمشركون والروافض الباطنيون والمنافقون. ويصفون الحروب التي تنشأ بين المؤمنين والكفار في بلد أو إقليم واحد بأنها فتنة طائفية وحروب أهلية.أما إنها طائفية فحق ونعتز بذلك، وأما أنها أهلية فلا لأن الكفار ليسوا من أهلها. وقد تأثر بهذه الشبهات بعض أبناء المسلمين فراحوا يدافعون عن أنفسهم وينفون أن يكونوا طائفيين وما علموا أن حربنا مع الكفار والمنافقين جهادية طائفية وليست حروباً أهلية؛ لأن الحروب الأهلية هي ما يحصل بين طوائف المؤمنين كما سيتبيّن في الفقرة القادمة إن شاء الله تعالى، أما الحروب التي تكون بين المؤمنين والكفار فإنها ليست أهلية بل جهادية؛ لأن الكفار ليسوا أهلنا ولا من فئتنا، قال الله عز وجل لنوح عليه السلام في ابنه من صلبه بعد أن أغرقه الله مع الكافرين {يَا نُوحُ إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِـح} [هود: 46]،  فالكافر والمنافق والزنديق ليس من أهل المؤمنين ولو كانوا أقرب الأقربين. هذا هو كلام الله عز وجل وهذا هو شرعه، لكن المنافقين لا يعلمون أو يعلمون لكنهم بهت ملبسون مضللون. ومن العجيب أن الذين ينددون بالطائفية من الرافضة أو العلمانيين هم طائفيون إلى العظم، فلماذا حلال لهم وحرام على طائفة الحق؟

 المعنى الثاني:

 ورد ذكر الطائفة أيضاً في القرآن، ويراد منها طوائف المؤمنين حسب مهماتهم أو أوصافهم، لكنهم كلهم يشملهم وصف الإيمان كما في قوله عز وجل: {إذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْـمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 1٢2]،  وقال تعالى: {وَإذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ...} [النساء: 1٠2]، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون)[4].

وكل طوائف المسلمين يجب بذل الولاء والنصرة لهم كل بحسبه، فكل مسلم من أهل القبلة يجب بذل الولاء العام له ولا ينتفي عنه مطلق الولاء إلا بخروجه عن الإسلام، لكن الولاء يكون بحسب ما يكون عليه المسلم؛ فإذا كمَّل صفات المسلمين والمؤمنين والتزم بعقيدة أهل السنة والجماعة، فله بذلك الولاء المطلق، وإن أخلَّ بشيء من ذلك، كما هو الحال في طوائف البدع غير المكفرة، فله مطلق الولاء يوالى بما فيه من الخير والاتباع ويتبرأ مما يتلبس به من الفسق والبدعة، ولا يتبرأ منه من جميع الوجوه إلا إذا خرج عن ملة الإسلام.

وإذا كان الولاء العام يبذل لكل طوائف المسلمين، فإن القتال بينهم والحالة هذه محرم؛ لأنه قتال فتنة. ويمكن أن توصف مثل هذه الحروب التي تحصل بين المسلمين بأنها أهلية يجب اجتنابها والسعي إلى إخمادها، إلا في حالة قتال الصائلين كالبغاة والمحاربين، فهذا مشروع ولو كانوا مسلمين.

هذا ما يسر الله عز وجل من كتابته حول هذا الموضوع، والحمد لله رب العالمين.

 :: مجلة البيان العدد 308 ربيع الآخر 1434هـ، مارس 2013م.


  [1] أخرجه مالك وحسنه الألباني.

 [2] أخرجه مسلم.

 [3] أخرجه مسلم.

 [4] البخاري: 3640.

 

 

أعلى