• - الموافق2024/04/20م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
رئاسة الدولة بين الأنظمة الوضعية والأحكام الشرعية

رئاسة الدولة بين الأنظمة الوضعية والأحكام الشرعية

رئاسة الدولة من القضايا المهمة في أي نظام سياسي؛ لِمَا تمثله من ثقل، ولما يترتب عليها من أحكام. وبناءً على طبيعة النظام والأسس التي قام عليها يتحدد نوعُ الرئاسة في الدولة، وسوف نحاول بعون الله وتوفيقه أن نتناول هذه القضية من وجهـة نظـر مقارِنـة بين ما جاء في الأنظمـة الوضعيـة، وبين ما جاء في الأحكام الشرعية، وذلك من حيث الصفاتُ والشروطُ، ومن حيث كيفيةُ التوليةِ. تعريف رئاسة الدولة:: يراد برئيس الدولة - من حيث الفعل والتصرف، لا من حيث المسمى - : الكيان الذي له أعلى سلطة تنفيذية في قيادة الدولة وإدارتها؛ «فرئيس الدولة هو الرئيس المباشر لدولته ورمزُ سيادتها»[1]، وهذه تختلف من نظامٍ إلى آخر؛ فقد يكون رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة، وذلك في النظام الديمقراطي الرئاسي كما في النظام الفرنسي والنظام الأمريكي. كما يكون الملك هو رئيس الدولة، وذلك في النظام الملكي كما في النظام المغربي والنظام الأردني. ويكون رئيس الوزراء هـو رئيس الدولة الفعلي (وإن لم يكن الاسمي)، وذلك في النظام الديمقراطي البرلماني كما في النظام الإيطالي، أو النظام البريطاني؛ (رغم أن النظام الديمقراطي البرلماني يوجد فيه مسمى منصب رئيس الدولة، سواء كان رئيساً أو ملكاً أو إمبراطوراً، لكنها رئاسة شرفية، أو رئاسة تنفيذ إجراءات محدَّدة بظروف معيَّنة منصوصٍ عليها في الدستور). كما يكون الكيان في غالب الأمر شخصاً واحداً؛ وإن اتخذ له أعواناً ومستشارين، كما يكون الكيان مجموعة أشخاص (اثنين أو أكثر) فتكون القيادة جماعية؛ وذلك في حالة نظام حكومة الجمعية كما في النظام السويسري. أما رئيس الدولة في النظام الإسلامي فله مسمى واحد؛ وهو (الخليفة) أو مرادفه (الإمام)، الذي يتمتع بكافة الصلاحيات لإدارة الحكم والرعية في الدولة، لا يدانيه في منـزلته أحد، وقد عرَّف أهل العلم الخلافة أو الإمامة بعدة تعاريف متآلفة غير متعارضة، وقد يكشف بعض التعاريف عن شيء من خصائصها لم يكشفه التعريف الآخر أو يؤكد عليه، بل تركه اعتماداً على أن ذلك من مشهور الأمر لدى المسلمين، ويوشك أن يكون كلُّ عالم أكد في تعريفه على الجانب الذي يراه مستحقاً للتنويه به من غير أن ينكِر الجوانب الأخرى. فقد عرَّفها الماوردي بقوله: «الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا»[2]، ولعله نظر في تعريفها إلى مسألة المستند أو المرجعية التي تؤوب إليها كأهم ما يميزها؛ فبيَّن أن مستندها ومرجعيتها الشريعة؛ لأنها خلافة النبوة، ثم بيَّن وظائفها أو مهامها، فذكر أنها تشمل حراسة الدين، وسياسة الدنيا بالدين؛ فالدين هو الأصل والعصام. وعرَّفها إمام الحرمين أبو المعالي الجويني، فقال: «الإمامة رياسة تامة وزعامة عامة تتعلق بالخاصة والعامة من مهمات الدين والدنيا»[3]، ولعله نظر في تعريفه إلى مسألة مدى واتساع صلاحياته، فبيَّن أنها رياسة تامة وزعامة عامة، تتعلق بالخاصة والعامة، وأن متعلَّقها مهماتُ الدين والدنيا. وعرَّفها أحمد بن يحيي بن المرتضى، فقال: «الإمامة رياسة عامة لشخص مخصوص بحكم الشرع ليس فوقها يد»[4]، ولعله نظر في تعـريفه إلى مسـألة تعدديةِ أو واحديةِ، القيـادة فبيَّن أنها لشـخص مخصـوصٍ بحكم الشـرع، وهو ما يعني واحدية شخص الخليفة؛ فالخلافة ليسـت هيئةً مكونةً من اثنين أو جماعة من الناس. وثمة تعريفات أُخرَى أغلبها تدور في فلك التعريفات السابقة: إما بزيادة وإما بنقص، مع عدم إنكار الجوانب الأخرى. وبالإمكان أن نحدد مما تقدَّم ثلاثة عناصر واضحة في تعريف الخلافة: 1 - المستند أو المرجع الذي تصدر عنه: وهو الشريعة. 2 - المجال أو المدى الذي تغطيه: وهو خاصة الناس وعامتهم في أمورهم الدينية والدنيوية. 3 - الكيان القائم بها: وهو فرد واحد، لا يَشرُكه في منزلته أحد؛ وإن كان ممن يعيْنه ويساعده، فهو داخل تحت طاعته. ولعل التعريف الذي يجمع بين هذه المكونات الثلاثة هو أَوْلى التعريفات بذلك، ولعلنا تعريفنا لها بقولنا: «هي خلافة عن صاحب الشرع لشخص صالح لها بحكم الشريعة، تتعلق بالخاصة والعامة من مهمات الدين والدنيا»، يحقق المكونات الثلاث التي مرَّ ذكرها. شروط رئيس الدولة: بينما نجد شروطَ رئيس الدولة في الأنظمة المعاصرة التي تلتزم بالدساتير الوضعية لا تتجاوز أموراً أقرب ما تكون إلى الشكلية، فإننا نجد في المقابل في النظام الإسلامي - إلى جانب الشروط الشكلية - الشروطَ الموضوعيةَ التي تصفُ بدقة الصورة التي ينبغي أن يكون عليها رئيس الدولة. تدور شروط رئيس الدولة في الدساتير الوضعية على: 1 - تحديد سنِّ من يتبوَّأ هذا المنصب، وفي غالب الأحيان يكون أربعين سنة فما فوق. 2 - التمتع بجنسية البلد التي يكون رئيساً لها، هو وبعض آبائه. 3 - التمتع بممارسة الحقوق السياسية؛ فلا يكون محروماً من ممارستها. فهذه هي مجمل الشروط في رئيس الدولة، وهي كما يتبيَّن للناظر لا تكفل الإتيان بإنسانٍ صالحٍ لهذا المنصب حتى مع توفُّرها في من يتولاها. وهناك بعض الشروط التي ربما يُنَصُّ عليها في دستور ولا يُنَصُّ عليها في الدستور الآخر، وهي مع ذلك غير كافية في اختيـارِ صـالـحٍ لهـذا المنصـب؛ ففـي المـادة رقـم 75 - مثلاً - في دستور دولـة عربيـة: «يُشترَط في مـن يُنتخَبُ رئيساً للجمهورية أن يكون: 1-(وطنياً)[5] من أبوين (وطنيين). 2- وأن يكون متمتعاً بحقوقه المدنية والسياسية. 3-وألا تَقِلَّ سِنُّه عن أربعين سنة ميلادية». وفي المادة رقم 53 في دستور دولة ثانية: «يجب أن تتوفر في المرشح لمنصب رئيس الجمهورية الشروط التالية: 1 - أن يكون (وطنياً) بالميلاد. 2 - أن يكون سليم العقل. 3 - ألا يقل عُمُرُه عن أربعين عاماً. 4 - أن يكون ملمّاً بالقراءة والكتابة. 5 - ألا يكون قد أُدِين في جريمة تتعلق بالأمانة أو الفساد الأخلاقي. وفي المادة رقم 30 من دستور دولة أخرى: «يُشتَرَط في المرشح لرئاسة الجمهورية أن يكون: 1 - (وطنياً) بالولادة، ومن أبوين (وطنيين). 2 - كامل الأهلية، وأتمَّ الأربعين سنة من عُمُره. 3 - ذا سمعة حسنة ومشهوداً له بالنزاهة والاستقامة والعدالة والإخلاص للوطن». وفي المقابل نجد أن الشروط المطلوبة من وجهة نظر الشريعة في رئيس الدولة تتجاوز هذه الأمور الشكلية إلى الشروط الموضوعية التي على أساسها يتبيَّن مدى صلاحية رئيس الدولة الحقيقية لأن يكون في هذا المنصب الرفيع، والتي تؤهله حقيقةً للقيام بوظيفته على نحو يسمح له بدرجة كبيرة جداً بتحقيق الأهداف والغايات المتوخاة من منصبه، وهذه الشروط هي: 1 - أن يكون رئيس الدولة مسلماً عند التولية وأثناءها: فلو طرأ عليه كفر أو ارتد - عياذاً بالله من ذلك - انعزل ولم تَعُد له ولاية. والأدلة على وجوب كونه مسلماً كثيرة مشهورة، ويكفي في ذلك أن نذكر الإجماع. قال ابن المنذر: «أجمع كلُّ من يُحفَظ عنه من أهل العلم أن الكافر لا ولاية له على مسلم بحال»[6]، وقال القاضي عياض: «أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر، وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر انعزل»[7]. وهذا الشرط يكشف بوضوح وجلاء عن طبيعة هذه الدولة، ويبيِّن أنها دولة الشريعة؛ حيث يبيِّن وجهتها، وأن دور الشعب (حاكماً ومحكوماً)، هو دور المتَّبع الذي لا يملك الخروج عمَّا حدَّته له أحكام الشرع.وهذا الشرط مما ليس له وجود في بعض دساتير الدول العربية، ووجوده في بعضها الآخر لا يتضمن الالتزام بشرائع الإسلام، وإنما هو وجود اسمي. 2 - العلم: وهذا منظور إليه من ناحية العلم الشرعي، وذلك نابع من طبيعة الدولة في الإسلام وأنها دولة الشريعة، وقد اختلف أهل العلم في الحد الذي ينبغي أن يحصِّله الخليفة من العلم على قولين: 1 - أن يكون الإمام قد بلغ مرتبة الاجتهاد. 2 - لا يُشترَط بلوغُ رتبة الاجتهاد، ولكن يكفي أن يحصِّل من العلوم ما يتمكن به من فهم المشكلات، ويقدر من خلاله على الموازنة بين الآراء المختلفة المتعارضة؛ ليتوصل إلى أقرب الآراء للصواب، وأياً مَّا كان الأمر فإن الخليفة لا يستغني عن مراجعة العلماء في ما يُشْكِل من الأمور والنوازل. والعناية بالعلم الشرعي لا تعني أن يكون الإمام عارياً من العلوم الأخرى، وإنما ينبغي أن يكون له بَصَرٌ نافذٌ في الحادثات وقدرةٌ على السياسة، وهذا الشرط مما ليس له وجود أو نظير في الدساتير العربية؛ وهو ما يسمح بأن يرقى لهذا المنصب العالي الجهلاء وأشباههم؛ فبعض الدساتير لم تُشِر لذلك البتَّة، وبعضها الآخر اشترط أن يكون ملمّاً بالقراءة والكتابة 3 - العدالة: وهي صفة تجعل المتحلي بها في مقام؛ بحيث يكون مؤدياً للفرائض مجتنباً لكبائر الذنوب، غير مجاهر ولا مُصِرٍّ على صغائرها؛ فهي تجمع العديد من الصفات الحسنة: كالتقوى والأمانة والصدق، وتنفي الصفات السيئة: كالكذب والغش والخيانة، بل إنها تحمل صاحبها على بلوغ درجات عليا من العدالة ليست بواجبة، كالحياء الذي يدفع صاحبه إلى هجر بعض المباحات، أو البعد عن الانهماك فيها؛ لِـمَا يدل الانغماس فيها على ضعف جانب الزهد في مباهج الحياة الدنيا، كما تحمله العدالةُ على مراعاة الآداب العامة ومراعاة العُرْف، ولا شك أن الفسق على الضد من العدالة، ومن ثَمَّ لا يجوز عَقْد الإمامة للفاسق ابتداءً؛ فالإمام يُنصَب لحفظ الدين وسياسة الدنيا به وإقامة العدل بين الناس ودَفْع الظلم، وما به من فسق يقعده في غالب أمره عن القيام بذلك. 4 - جودة الرأي: التي تفضي إلى السياسة الحسنة للرعية، وتدبير المصالح في السلم والحرب على نحو يتمكن به من القدرة الكاملة على سرعة البتِّ في الأمور الهامة التي تتعلق بها مصالح الرعية. 5 - سلامة الحواس والأعضاء: بحيث تمكِّنه من سرعة الانتهاض في الملمات، والتي يؤثر فِقدانُها على قيام الإمام بمهام ومتطلبات وظيفته، سواء بالعجز عن القيام بها أو الضعف في استيفائها؛ لأن مقصودَ الإمامة لا يتم مع فَقْد هذه الأشياء. 6 - الشجاعة والجرأة التي تحمل الإمام على الإقدام علـى ما فيه تحصيـل المصالح العـامة للأمـة بغير خوف ولا اضطراب أو تردد. 7 - الذكورة: فالإمام ينبغي أن يكون ذكراً؛ حيث إن مهام الإمامة لا يقدر على القيام بها على وجهها إلا الرجال الأقوياء جسداً وعقلاً وقلباً، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لن يفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة»[8]. وهي من المسائل التي انعقد الإجماع عليها، وهذا ليس فيه حطٌّ من شأن المرأة أو إزراء بها كما يصوِّر ذلك الذين لا يعقلون؛ فإن كل عمل من الأعمال يتطلب وجود صفات تناسبه، ومن المتفق عليه عند العقلاء أنه ليس من الحكمة تكليف المرء بما لا يناسبه أو يخالف طبيعته، وقد قضى الله - تعالى - أن يرسل إلى خَلْقه رُسُلاً وأنبياء يبلغون الناس (الرجال والنساء) عنه ما أراده منهم؛ ومع ذلك فما أرسل إليهم إلا الرجال. (8 - 9) - البلوغ والعقل: وهذان شرطان لازمان في الولايات كلها وفي التكاليف جميعها، والعقل المطلوب ليس فقط العقل الذي تجب به التكاليف، «بل لا بد أن يكون على درجة عالية من الذكاء والفطنة تمكنه من التفكير في قضايا الأمة وإيجاد الحلول المناسبة لها»[9]، فهذه مجمل الصفات المطلوبة في الإمام. وأما الحديث عن شرط القرشية فذاك مطلوب في الخليفة أو الإمام، أما رؤساء الدول التي ليست بخلافة فلا يشترط فيها ذلك. وقد أجمل الماوردي تلك الشروط، فقال: «وأما أهل الإمامة فالشروط المعتبرة فيهم سبعة: أحدها: العدالة على شروطها الجامعة. والثاني: العلم المؤدي إلى الاجتهاد في النوازل والأحكام. والثالث: سلامة الحواس: من السمع والبصر واللسان؛ ليصح معها مباشرة ما يُدرَك بها. والرابع: سلامة الأعضاء من نقص يمنع من استيفاء الحركة وسرعة النهوض. والخامس: الرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح. والسادس: الشجاعة والنجدة المؤدية إلى حماية البيضة وجهاد العدو. والسابع: النسب وهو أن يكون من قريش لورود النص فيه وانعقاد الإجماع عليه»[10]. نَصْبُ رئيس الدولة: أولاً: في الأنظمة الجمهورية: تعتمد الأنظمة الجمهورية - ولو من الناحية النظرية - الترشيح من قِبَل طلاب هذا المنصب، والانتخاب من قِبَل الشعب، وسيلةً للوصول إلى هذا المنصب، فهو مكوَّن من شقين: 1 - طالب أو مترشح يدعو الناس إلى اختياره. 2 - المنتخبين (وهم مَنْ يمكن أن يُطلَق عليهم الشعب السياسي) الذين يمنحون أصواتهم لأحد المترشحين. ويفوز بهذا المنصب من يحصل على أغلبية أصوات الناخبين. والناخبون: إما أن يختاروا رئيس الدولة مباشرة، وإما أن يختاروا طائفة من الناس، وهي التي تقوم بانتخاب الرئيس على اختلاف الأنظمة. والغالب على الأنظمة العربية اختيار الطريقة الأولى والتي يقوم فيها المنتخبون بانتخاب الرئيس مباشرة بغير واسطة. ويؤخذ على هذه الطريقة في شقها الأول: أنها تعتمد على أن يطلب الإنسان من الآخرين اختياره لهذا المنصب، وهو في سبيل ذلك سوف يقدِّم لهم من الأسباب التي تدعوهم إلى اختياره دون غيره من المترشحين، وهو ما يحمله في غالب شأنه على أن يشهد بالكذب لنفسه وبالكذب على غيره؛ فليس كل ما يذكره من مميزات لنفسه صحيحة، كما أنه ليس كل ما يذكره من سيئات الآخرين صحيح، وبناءً على ذلك فإن هذه الطريق تشرِّع في ضمن ما تشرِّع الكذب والدجل؛ ولو بطريق غير مباشرة، ومثل هـذا أيضاً طبيعـة الدعـاية التي لا بد منها لمن يرشح نفسه، إضافة إلى التكلفة المالية الضخمة التي يحتاج إليها المترشح لكي يدعو إلى نفسه وهو ما يعيق الوصول الحقيقي لغير الأغنياء ومَنْ ليس لديهم وفرة مالية لهذا المنصب ولو كانت لديهم الكفاءة الحقيقية له، إضافة إلى الوعود التي يقطعها طالب المنصب على نفسه إذا تم اختياره، وهي وعود يراعي فيها في المقام الأول جذبَ الناخبين والتأثيرَ في قناعاتهم ومن ثَمَّ قرارهم، أكثر من تحريه تحقيق المصالح العامة للدولة والرعية. ولو قُدِّرَ أن هناك ظروفاً استثنائية قد تدعو إلى أن يرشح أحد الناس نفسه، لكن ليس من الصواب في شيء أن يؤسَّس نظام على حالة استثنائية؛ ذلك أن الاستثناء خروج عن الأصل وابتعاد عنه، والاستثناء في غالب أمره حالة طارئة لا تلبث أن تزول؛ فكيف يُبْنى نظامٌ يطبق في كل حالة اعتماداً على وضع استثنائي لا يلبث أن يزول؟ ومع ذلك فهناك نصوص شرعية تبيِّن فساد هذا الطريق وذلك من ثلاث جهات: 1 - النصوص التي تنهى عن طلب الولاية: فقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعبد الرحمن بن سَمُرة: «لا تسألِ الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وُكِلت إليها، وإن أُعطيتها من غير مسألة، أُعنت عليها»[11]، وعن أبي ذر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يا أبا ذر! إني أراك ضعيفاً وإني أحب لك ما أحب لنفسي: لا تَأَمَّرَن على اثنين ولا تولَّيَن مال يتيم»[12]. 2 - النصوص التي تبيِّن أن طالبها لا يعان؛ وإنما يُترَك لنفسه، ومنها حديث عبد الرحمن بن سمرة السابق. 3 - النصوص التي تبين أنه لا ينبغي أن تعطى لمن يطلبها؛ فعن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: «دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنا ورجلان من قومي، فقال أحد الرجلين: أمِّرنا يا رسول الله! وقال الآخر مثله، فقال: إنَّا لا نولِّي هذا من سأله، ولا من حرص عليه»[13]. وغير ذلك من الأحاديث التي تبين خطورة التعرض لهذا المنصب، وأن السلامة في الابتعاد عنه؛ بحيث لا يدخل فيه إلا مضطراً مدفوعاً من الآخرين لقبول ذلك؛ فعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة؛ فنعم المرضعة وبئست الفاطمة!»[14]، وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ويلٌ للأمراء ويلٌ للعرفاء ويلٌ للأمناء؛ ليتمنَّيَن أقوام يوم القيامة أن ذوائبهم كانت معلقةً بالثريا يتذبذبون بين السماء والأرض ولم يكونوا عملوا على شيء»[15]. وما ورد من أدلة يمكن أن يستَدِل بها بعض الناس على جواز الدعاء إلى النفس والتعرض لطلب الولاية، فهذه أدلة تكتنفها ظروف خاصة وأحوال استثنائية، وليست أحوالاً عامة؛ وما كان بتلك الصفة فلا يمكن أن يقام على أساسه نظام مطَّرد. وأما من ناحية المنتخبين فإن الأنظمة الانتخابية الوضعية لا تشترط في المنتخِب أي شروط تبيِّن مدى قدرته على الاختيار السليم: من حيث العلم أو المعرفة بواجبات الرئيس ومسؤولياته التي تسمح له بمعرفة القادر على القيام بها من بين المترشحين، كما لا تشترط فيه أي قَدْر من الإيمان أو التقوى أو العدالة التي تجعله يتقي الله - تعالى - في مَنْ يختاره، كما لم تشترط فيه أي قَدْر من الفطنة التي تحميه من أن يكون نهباً للدعايات الكاذبة أو المغرضة. وقد ورد في قوانين مباشرة الحقوق السياسية في الأنظمة الوضعية تحديدُ الناخبين الذين يحق لهم اختيار رئيس الدولة بما يلي: 1 - أن يكون (وطنياً). 2 - أن يكون قد بلغ سنّاً معيَّنة (في غالب الأمر 18 عاماً). 3 - أن لا يكون محروماً من حق الاختيار. وهذه الشروط كما يتبين لا يمكن أن تنتج شخصاً قادراً على الاختيار السليم، وخاصة في أمر عظيم مثل رئاسة الدولة. ثانياً: في النظام الإسلامي: إن نصب رئيس الدولة في النظام الإسلامي يعتمد على الصدق في أحقية من يُختَار لهذا المنصب، وعلى أن حق الاختيار مكفول لمن يملك القدرة على الاختيار الصحيح، ويعتمد النظام الإسلامي في تحقيق ذلك على أمرين: أولاً: لا يتقدم أحد من الصالحين لهذا المنصب ولا يطلبه لنفسه: ومن النصوص الدالة على ذلـك قـوله - صلى الله عليه وسلم - المتقدم: «لا تسألِ الإمارة»، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تأمَّرَنَّ على اثنين»، وهذا يقضي على المفاسد الناجمة عن شعور بعض الناس بأحقيتهم بهذا المنصب دون غيرهم بما فيهم: من عُجْب وغرور وشعورٍ بالاستعلاء على الآخرين، كما يتخلص من الكذب والدجل والقدح في الآخرين المصاحب لعملية الدعاية، وكذلك عدم الاضطرار أو الحاجة إلى إعطاء وعود للشعوب بتحقيق بعض ما يبغونه مكافأة على انتخابهم إياه. ثانياً: أن أهل الاختيار هم الذين يقومون باختيار مَنْ يصلح لهذا المنصب، أو باختيار أكثرهم صلاحاً عند تعدُّد الصالحين للمنصب؛ ولا يصلح أن يُختَار مَنْ ليس أهلاً للاختيار، ولا أن يستبد فرد أو مجموعة من النـاس بالاختيار - حتى وإن كانوا صالحين للاختيار- بدون الرجوع إلى أهل الاختيار الذين هم أهل الحل والعقد في هذه الأمور ونحوها. ومن النصوص الدالة على ذلك قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - مشيراً إلى خلافة أبي بكر: «يأبى الله ذلك والمسلمون»[16]، فقوله: «يأبى الله» يستفاد منه الأمر القدري الذي قدَّره الله، تعالى. وقوله: «والمسلمون» يستفاد منه مكانة المؤمنين في التولية من الناحية الشرعية، وأن إسناد منصب الرئاسة لمن يستحقها إنما هو للمؤمنين، كما يدل له قول عمر - رضي الله تعالى عنه -: «من بايع رجلاً عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايَع هو ولا الذي بايعه، تغرة أن يقتلا»[17]. وهذا يكفل الصدق في الاختيار، كما يكفل أن يكون المختار بارزاً مشهوراً بأقواله وأفعاله الحميدة. شروط أهل الاختيار: وقد أجمل الماوردي هذه الشروط بقوله: «فأما أهل الاختيار[18]، فالشروط المعتبرة فيهم ثلاثة: أحدها: العدالة الجامعة لشروطها. والثاني: العلم الذي يُتوَصل به إلى معرفة من يستحق الإمامة على الشروط المعتبرة فيها. والثالث: الرأي والحكمة المؤدِّيان إلى اختيار من هو للإمامة أصلح، وبتدبير المصالح أقوَم وأعرَف»[19]. فالعدالة تشمل: الإسلامَ والعقل والبلوغ، واجتنابَ كبائر الذنوب، وعدمَ التظاهر بصغائرها. والعلم يشمل: العلمَ بالأحكام المتعلقة بالسياسة الشرعية، ومعرفةَ الشروط المعتبرة التي ينبغي وجودها في المختار للخلافة، ومعرفةَ ما يؤثر فَقْده منها وما لا يؤثر، وكيفية التحقق من وجود هذه الشروط في من يُختَار للخلافة، مع قدرةٍ على الفهم والاستباط وفَهْم الدليل. والرأي والحكمة يراد بهما: معرفة المصالح والمفاسد، والطرقِ المؤدية لتحقيق المصالح أو درء المفاسد، والقدرةِ على الموازنة بين الأمور وترجيح الراجح منها واختيارِ أصلح الصالحين للإمامة ممن هو أعرف بالسياسة وأقدر على تحقيق أعلى المصلحتين ودرء أفسد المفسدتين، مع مراعاة الظروف المحيطة بذلك: من اعتبار الزمان والمكان والأحوال. الشوكة: وقد أضاف بعض أهل العلم لهذه الشروط ما رأوه كفيلاً بتحقيق رؤية أهـل الحل والعقـد في أرض الواقـع؛ بحيث لا يكون رأيهم مجرد توصيات أو توجيهات، بل تكون لهم القدرة على تحقيق وتنفيذ ما يرون في أرض الواقع. وهذا الشرط هو شرط الشوكة: وهي أن تكون لهم القوة والقدرة على فَرْض إرادتهم على الـمُعارض، ويقول ابن تيمية عن أهل الشوكة: «هم الذين يحصل بطاعتهم له مقصود الإمامة»[20]، وقال في مكان آخر: «الذين يقام بهم الأمر؛ بحيث يمكن أن يقام بهم مقاصد الإمامة»[21]. وهذه الشوكة هي التي عناها ابن خلدون بالعصبية، وهذا الشرط مستفاد من بيعةِ عمر لأبي بكر - رضي الله عنهما - وتتابُعِ المسلمين في السقيفة على بيعة أبي بكر بعدها؛ فمن بايعه فيها كانوا هم أهل الشوكة والقادرين على إنفاذ ما رأوه؛ بحيث لا يستطيع أن يغالبهم في ذلك معارض لهم؛ فالعاقدون (أهل الحل والعقد) للرئيس ينبغي أن تكون لهم شوكة ظاهرة وقوة قاهرة؛ بحيث لو حدث خلاف لتمكنوا من إمضاء بيعتهم وتنفيذها[22]. ويمكننا القول: إن هذه الشروط - باستثناء شرط العدالة - لا يتطلب كلُّ واحد منها في كل واحد من أهل الحل والعقد على انفراد، ولكن قد يكون من الأوفق أن نقول: ينبغي وجود هذه الشروط في أهل الحل والعقد من حيث المجموع وليس من حيث الانفراد؛ فيكون فيهم جماعة من العلماء، وجماعة من الخبراء أو السياسين أو أصحاب الراي والتدبير، وجماعة من أهل الشوكة المطاعين كرؤساء القبائل والوجهاء وقادة وحدات الجيش. وهذه الشروط هي بالنسبة إلى أهل الحل والعقد أنفسهم، وهناك شرط آخر منظور إليه من قِبَل المسلمين؛ وهو أن يكونوا ممن يسرع الناس إلى موافقتهم وقبول اختيارهم لثقتهم في دينهم وعلمهم وعنايتهم بمصالح الناس. وهذا يؤدي بنا إلى التعرف على مكانة هؤلاء في مجتمع الناس؛ وذلك أن الناس لا تسرع إلى موافقة وقبول اختيار إلا من تعلَمُه وتراه بارزاً مشهوراً مشاركاً في مصالح الناس، وعلى ذلك فإن أهل الحل والعقد ليسوا مجرد أُناس عاكفين على العلم والمعرفة منقطعين عن الناس وعن واقع الحياة؛ فإن هؤلاء أكثرهم مجهول بالنسبة لعموم الناس؛ فالخامل الذي لا ذكر له ولا جهد في حركة المجتمع - وإن كان عالماً - أنَّى ينتبه الناس له؟ وأما العدد الذي تنعقد به بيعتهم؛ فليس لذلك حد معلوم؛ إذ لم يثبت بذلك نصٌّ، والمتيقن منه في ذلك أن حصول الإجماع ليس شرطاً في ذلك، كما أن الواحد والإثنين اللذين يعقدان مـن غــير مشـورة المســلمين لا يصلح ذلك منهما، وقد استعرض أبو المعالي الجويني الأقوال الواردة في ذلك، وخلص إلى قوله: «الوجه عندي في ذلك أن نعتبر في البيعة حصول مبلغٍ من الأتباع والأنصار والأشياع يحصل بهم شوكة ظاهرة ومنعة قاهرة»[23]، وقال ابن تيمية - رحمه الله -: «بعض أهل الكلام يقولون: إن الإمامة تنعقد ببيعة أربعة، كما قال بعضهم: تنعقد ببيعة اثنين، وقال بعضهم: تنعقد ببيعة واحد؛ فليست هذه أقوال أئمة السنَّة، بل الإمامة عندهم تثبت بموافقة أهل الشوكة عليها، ولا يصير الرجل إماماً حتى يوافقَه أهل الشوكة عليها، الذين يحصل بطاعتهم له مقصود الإمامة؛ فإن المقصود من الإمامة إنما يحصل بالقدرة والسلطان؛ فإذا بُويع بيعة حصلت بها القدرة والسلطان صار إماماً؛ فالإمامة ملك وسلطان، والملك لا يصير ملكاً بموافقة واحد ولا اثنين ولا أربعة، إلا أن تكون موافقة هؤلاء تقتضي موافقةَ غيرهم؛ بحيث يصير ملكاً بذلك... فمن قال: إنه يصير إماماً بموافقة واحد أو اثنين أو أربعة وليسوا هم ذوي القدرة والشوكة، فقد غلط، كما أن من ظن أن تخلُّف الواحد أو الإثنين أو العشرة يضر فقد غلط»[24]. ووجود هذه الشروط في من يَختَار الرئيس ويَعقِد له كفيلة باختيار أفضل الموجودين كما هي كفيلة بإمضاء بيعتهم وإلزام المخالفين لها بها. نسأل الله - تعالى - من فضله أن يعين من أحب من عباده على القيام بهذه الفريضة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 [1] موسوعة علم السياسة، د. ناظم عبد الواحد الجاسور، ص 201.
[2] الأحكام السلطانية للماوردي، (ص 7).
[3] غياث الأمم في التياث الظلم للجويني، (ص 73).
[4] البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار، (5/ 374).
[5] وطنياً: نسبة إلى الوطن الموضوع له الدستور.
[6] أحكام أهل الذمة لابن القيم: (1/465)، طبعة دار الكتب العلمية، لبنان.
[7] شرح النووي على صحيح مسلم: (12/229).
[8] أخرجه البخاري، رقم: (4073).
[9] الإمامة العظمى، د. عبد الله الدميجي: (ص240).
[10] الأحكام السلطانية، (ص8).
[11] أخرجه البخاري، رقم (6227)، ومسلم، رقم (3120).
[12] أخرجه مسلم، رقم (3405).
[13] أخرجه البخاري، رقم (6616)، ومسلم، رقم (3402).
[14] أخرجه البخاري، رقم (6615)، ومسلم.
[15] أخرجه أحمد في المسند، رقم (8273).
[16] أخرجه أحمد في مسنده.
[17] أخرجه البخاري، رقم (6328)، تغرة: حذراً.
[18] هم الذين يختارون الخليفة، وهم الذين يسمَّون في كتب السياسة الشرعية بأهل الحل والعقد.
[19] الأحكام السلطانية: (ص 8).
[20] منهاج السنة النبوية: (1/364).
[21] منهاج السنة النبوية: (8/238).
[22] انظر: غياث الأمم: (ص 55 - 56)، منهاج السنة: (1/ 526).
[23] غياث الأمم: (ص 56).
[24] منهاج السنة النبوية: (1/ 526 - 531).

أعلى