• - الموافق2024/04/20م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
العائدات

العائدات







هل شاهدتَ عُيوناً تدمع ؟ هل أحسستَ بقلبٍ يُضجع ؟ أم أظلمتِ الدنيا أمامك ؟

هل شاهدت الحزن يسير ؟

فوق الرأس يحوم ، يطير .

يعود ، يجول .

يخرِقُ فرحاً ، يُسْكِتُ أملاً ، يَهْدِمُ جسداً .

حتى يُقضى بين يديه .

إنها العائداتُ ، وما أدراك ما العائدات ؟ تلك التي تفاجئُنا دُون نذير ، وتجْثُو على قلوبنا دُون بشير .

إنها تؤرِّق النفس ، وتمنع النوم ، وتُمْرِضُ الجسد والقلب ، وتُؤثِّرُ في الإنسان تأثيراً يجعلُهُ يغيِّر سَمْته وهيئتهُ ، وتصلُ به إلى أن يترك العمل ، وينقطع به الأمل ، وقد تُودي بصاحبها بعدما غرَّتْهُ الحياةُ وزينت له أنَّهُ في مأمنٍ منها ، وأنَّى له ذلك ؟

وأنَّى لإنسان أن تصفو له الحياة أبداً ؟ فالكلُّ من لذعاتها ذائقٌ .

وما منْ عالم إلَّا له منها نصيبٌ .

طَحنتْه الأيامُ فاعتلى وطارتْ شُهرتُهُ وأثَّر في الأُمم كما تؤثِّرُ حُبوب اللِّقاح في الثمار ؛ فلولاها ما أينعت الثِّمار ، ولولا العُلماء ما تقدَّمت الدُّنيا .

ينْظرُ بعضنا إلى بعض ، فيروْنهُم لا يشكون ، ولا يتبرَّمُون ، فيَظُنُّون أنَّهم يَخْلُون من العائدات ، وأنَّهم في مأْمنٍ من الحادِثات ؛ فإذا أصابك مِثْلُ ذلك فاستغفر الله - تعالى - لأنه : ( من راقب الناس ماتَ غمّاً ) ، و « من حُسْنِ إسلام المرْءِ تركُهُ ما لا يعْنيه » .

إنَّ المصائب تتفاوت بقدْر أصحابها ، ويظن المبتلى أنه أكثر الناس ابتلاءً ؛ وذلك لشدَّة لَذْعِ العائدات عليه ، وقلة الحيلة لديه :

وتعظمُ في عينِ الصَّغِير صِغارُهَا      وتَصْغرُ في عينِ العظيم العظَائِم

كان هناك رجُلان ذوا منْصب وجاهٍ ، ورِثا ضَيْعةً وأمْوالاً ، وبساتين ، ثُمَّ استُخرِجَ لهما قانونٌ ، سلب منْهما أكثر ما يملكانه .

أما أحدُهُما فثبت في الميدان ثبات الأسد في الفلاة ؛ فقد بنى لله مسجداً ، وظَلَّ على حاله من توزيع الصدقات والعطف على المساكين إلى أنْ تغمَّده الله برحمته ، وحزِن المساكين على فجيعته .

وأمَّا الآخرُ : فقد جُنَّ جُنُونه بعدما ظنَّها باقيةً لهُ ، وقدْ ظلم مَنْ ظلم وقتل مَنْ قتل ، يَثُور كالبركان ، ويخور كالثيران .

لا رادع له ولا أمان ؛ فهو السُّلطان بعد السلطان ، ثم تغير به الحال ؛ فبُنيت له حُجرةٌ ظاهرها حَجَريَّةٌ ، وباطنها إسفنجيةٌ .

كُلما تذكر ماله الضَّائع جعل يخْبطُ رأسهُ بتلك الجُدْران إلى أن توفَّاة اللهُ - تعالى - وهو على هذه الحال .

لا يُذْكَرُ إلا وتُذكَر مساوئه ، ولا يُذكَر أخوه إلاَّ وتُذكَر محاسنه .

لقدْ خلق الله - تعالى - الموتَ والإنسانُ لا يُريده ولكنَّهُ يُسلِّم به ، وخلق الحياة والإنسان يطلبُها ولكنَّها لا تدوم .

وخلق الله - تعالى - الأفراح يريدها الإنسان ولكنها لا تستمر على حال ،وخلق الأحزان لا لمتاعب الإنسان ولكنْ لتصقل نفسه صقلاً يخرج منها كالذَّهب الخالص وقد ثقَّفه صاحبه على النَّار ؛ فتزداد جمالاً وقوَّةً .

{ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا } ( النجم : 43-44 ) .

ولربما أصاب الإنسان ضِيقٌ دون سبب واضح يبدو له ؛ لأن السبب عند مُسبِّبُ الأسباب ، فاصطلِحْ معه يشرحْ لك صدرك ، ويضعْ عنك وزْرك .

ثُمَّ خفِّف الحِمْل عن البائسين ، وتصدَّق على المُحتاجين ؛ فالصَّدقة بُرهان على الإيمان ، تنجلي بها الغُمَّةُ ، وتنكشف بها المُلِمَّةُ .

فلْتنطلق في الحياة الفانية ، انطلاقك للحياة الباقية ، حتَّى تحصُد ما قدَّمت يداك .

إن حوادث الزمن لا تعدو أن تكون فقداً أو حرماناً : فإنْ كانتْ فقْداً ، فالعائداتُ تُولِّي ، ولا يبقى لك إلَّا ما قدَّمت : { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ } ( النحل : 96 ) وإن كانت حرْماناً ، فأنت لم تملك منها شيئاً طوال حياتك ، ولم تجرِّب لذَّة المُلكِ ؛ فلماذا البُكاءُ على ما لم تملكه ؟

فإذا وقع عليك ابتلاءٌ ( وهو واقعٌ لا محالة ) فحاوِل التخفيف عن نفسك وحلَّ مُشْكلاتك وإنْ كان لك يدٌ فيها ، واستشرْ أُولي الهمة والرأي ، وإلاَّ ففوِّض الأمر إلى الله - تعالى - إذا انقطعت بك الأسباب ؛ فهناك مسبِّب الأسباب يُجيبُ من مدَّ إليه يده : { أَمَّن يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ } ( النمل : 62 ) .

وسيحلُّ لباس الفرح بديلاً من لباس الحُزْنِ ؛ فلا تبيتنَّ إلا خالي البال .

إنَّ المُبتلى قريبٌ من الله ، قريبٌ من الجنة ؛ فأكثر الناس ابتلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل .

فلْيكن استقبالُنا للأتراح كاستقبالنا للأفراح ، هكذا المؤْمن : إنْ أصابته سرَّاء شكر فكان خيراً له ، وإن أصابته ضرَّاء صبر فكان خيراً له .

واللهَ أسأل ألاَّ يجْعل مصيبتنا في ديننا .

 

 

أعلى