• - الموافق2024/04/25م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
لغة السياسة

لغة السياسة


التطورات السياسية المتلاحقة في دول الثورات العربية دفعت أعداداً كبيرة من الدعاة إلى ولوج العمل السياسي دون إعداد مسبق أو تدريب عملي؛ وذلك من أجل تلبية الحاجة المتزايدة للأحزاب الإسلامية الجديدة من العناصر والقيادات في مختلف التخصصات.

هذه «النقلة» الهائلة في مجال التخصص والممارسة تعرَّضَت لها بالدرجة الأولى التيارات السلفية التي عزمت على المشاركة الفعلية في العمل السياسي، بدءاً بتأسيس الأحزاب ثم دخول الانتخابات والمشاركة في المجالس النيابية والمحلية، فضلاً عن كافة المناصب الرئيسية في الدولة التي يُختَار شاغلوها بالانتخاب.

أحد تداعيات هذه «النقلة» هو افتقادُ «القادمِ الجديدِ»  «لغةَ السياسةِ» التي يحتاجها للتواصل في كافة الميادين؛ سواء مع وسائل الإعلام أو في النقاشات البرلمانية، أو عند مخاطبة الجماهير أو للحديث مع المسؤولين أو للتفاوض مع أطراف وجِهاتٍ مختلفة داخلية وخارجية.

فالخطاب السياسي يختلف كثيراً عن الخطاب الدعوي في نصه وسياقه، ولا يسوغ استخدام أحدهما في مقام يستدعي استخدام الآخر؛ فلكل مقام خطاب، والمخالفة هنا ينتج عنها عجز في التواصل وقصور عن تحقيق الهدف المنشود أياً كان (دعوياً أو سياسياً).

وبقدر ما يسع المقام، يمكن تلخيص «لغة السياسة» مهارةً يحتاجها «السياسي الجديد» في معادلة بسيطة، هي:

لغة السياسة = (إطار نظري + معلومات وأرقام + نتائج، مطالب واضحة) – (استطراد بلاغي + استرسال في التأصيل + مقدمات مشتتة).

وفي ما يلي عرض مبسَّط لمكونات هذه المعادلة:

1 - الإطار النظري:

لا بد للسـياسي الإسلامي من الإلمام - ولو بصورة مخففة - بالعلوم السياسية؛ فالسياسة ليست مجرد ممارسة يتميز الإنسان فيها بحسب خبرته وتجربته، وهي أيضاً ليست مجرد موهبة فطرية يحظى بها بعض الأشخاص دون غيرهم، بل هي علم له قواعده ونظرياته ومفاهيمه، ولا يليق بالسياسي الإسلامي أن يعتمد في ممارساته السياسية على «الفهلوة» أو صفات مثل «سرعة البديهة».

وبصورة عملية، يمكن للسياسي أن يتبع هذه الخطوات لتحديد الإطار النظري للقضية التي يريد التحدث بشأنها: 

أن يضع تصوراً عامّاً حول القضية التي يتحدث بشأنها؛ فسواء كانت قضية كليَّة أو جزئية، عليه أن يعرف موقعها وعلاقتها بغيرها من القضايا أفقياً ورأسياً، ووصفها السياسي.

تحديد الهدف من طرح القضية، هل هو التذكير بأهميتها، أو عرض طريقة للتعامل معها، أو المساومة حول بعض جوانبها.

اختيار أسلوب الطرح بما يتناسب مع الهدف والمقام؛ فهل هي قضية خلافية مثلاً، فهو يحتاج إلى أسلوب إقناعي، أو توافُقي؟ أم هي قضية متفَق عليها، فهو يحتاج إلى مجرد عرض لاقتراحاته بشأنها؟

تحديد القيمة المضافة التي يقدِّمها السياسي؛ بحيث لا يكون خطابه مجرَّد تكرار لكلام الآخرين.

من الأمور المهمة في سياق الإطار النظري، أن السياسي الإسلامي لا بد أن يتميز خطابه السياسي بالربط الواضح مع مرجعيته الإسلامية المستمَدَّة من الكتاب والسنة؛ لا أن يكون كلامه مجرداً عنهما؛ وهذا يعني أهمية تأصيل ما يقول - وَفْقَ مقتضى الحال -  بنصوص الكتاب والسنة، على أن يكون استشهاده قوياً بدون استرسال ومتعلقاً بصورة مباشرة بموضوع الكلام؛ فهذا من شأنه أن يُحدِث تأثيراً إيجابياً، كما أنه – في حالة تنفيذه بصورة متقنة - يُعَد تجديداً على صعيد الخطاب السياسي المغرِق في علمانيته في العالم العربي منذ عقود بعيدة.

2 - معلومات وأرقام:

الكلام المرسل الذي لا ينبني على معلومات دقيقة يُضعف الخطاب السياسي، فلا بد من دعم المقولات النقدية أو الاقتراحات أو الاعتراضات بمعلومات موثقة، وأرقام كاشفة.

هذه المعلومات والأرقام يمكن تعظيم تأثيرها عند وضعها في سياقات مقارنة، مثل:

المقارنة الزمنية: فعندما يكون الحديث – مثلاً - عن نسبة الأمية المرتفعة في المجتمع، فإن ذكر مستوى التغير في الأمية بين زمنين يعطي إضافة جديدة حول التقدُّم أو التأخر في هذه القضية.

كذا يمكن استخدام المقارنة مع مثيل أو منافس؛ فيمكن ذكر نِسَب الأمية في دول مجاورة تتشابه في الهوية أو الظرف.

أيضاً يمكن المقارنة النسبية بين الجزء والكل؛ فإن كان الموضوع - مثلاً - هو ضعف الإنفاق على البحث العلمي، يستحسن ذكر حصة البحث العلمي في الميزانية العامة للدولة.

وفي بعض الحالات يمكن استخدام هذه السياقات كلها في وقت واحد، كأن يُقارن بين نسبة التغير في حصة الإنفاق على البحث العلمي من إجمالي الموازنة بين نقطتين زمنيتين، مع مقارنة ذلك بدول أخرى.

3 - نتائج ومطالب واضحة:

من الضروري أن يتضمن الخطاب السياسي نتائج واضحة أو مطالب محدَّدة، ونقطة الضعف الأساسية في الخطاب هي أن يعجز السياسي عن توصيل هدفه ومراده إلى المخاطَبين، أو يقدِّم نتائج أو مطالب غير واقعية، أو لا يمكن تنفيذها والتعامل معها، أو تكون غامضة غير مفهومة، أو تكون مطالب موجَّهة للجهة الخطأ، أو يقدم مطالب لا تراعي متغيرات أخرى فيبدو كمن لا يدرك أبعاد ما يتحدث عنه، وأحياناً يقدم بعض السياسيين مطالب يُكتشف أنها تحققت من قبل... إلخ.

وبالنظر إلى أن السياسي الإسلامي يحمل رؤية تغييرية شاملة لكافة المجالات في المجتمع والدولة، فإن من المفاهيم المهمة اتباعُ «التدرُّج والتجزئة» في المطالب السياسية؛ إذ لا تسمح الظروف السياسية - غالباً - بتمرير مطالب كبيرة تتضمن تغيُّراً جذرياً سريعاً؛ مثل المطالبة الفورية بتطبيق الشريعة الإسلامية، نعم هذا المطلب يتوجب رفعه في الخطاب الدعــوي، وكـذا في البرامج السياسية وعند الحديث عن التوجهات العامة أو المرجعيات، لكن في سياق الممارسة العملية أو التشريعية فإن تبنِّي مفهومي «التدرج والتجزئة» يفيد كثيراً في تحقيق الأهداف العامة في الأمد المنظور.

من أهم الفوائد الناجمة عن استخدام «إستراتيجية التجزئة والتدرج» في عرض المطالب، أنها تكسر الدفاع التلقائي الاحترازي للخصم (تضعف قدرته على المناورة) وتدخله في سلسلة منطقية من التنازلات تحت شعار: من فعل مرة فلا بأس بأخرى.

في بعض الحالات قد يحتاج السياسي إلى المناورة في عرض مطالبه؛ خاصة في مجال المساومات السياسية؛ فقد يفاوض أحياناً على شيء ليدفع الخصم إلى تقديم تنازل عن شيء آخر في سياق مختلف، أو عن شيء أقل في السياق نفسه، أو للحصول على مكسب مؤجَّل، أو للمقايضة... إلخ.

4 - الاستطراد البلاغي:

التأثُّر بالخطاب الدعوي - الذي تُعَد البلاغة من أهم خصائصه - قد يدفع السياسي الإسلامي إلى المشابهة في توظيف قدراته البلاغية سياسياً، ورغم أن البلاغة والفصاحة من السمات المهمة على صعيد «الزعامة السياسية»، لكن يجب أن نفرِّق بين البلاغة بمفهومها السياسي، والبلاغة بمفهومها الدعوي:

فالبلاغة السياسية لا يسوغ معها الاستطرادات اللفظية والاسترسال في التشبيهات والكنايات وذكر المترادفات؛ بل هي تميل - غالباً - إلى الإيجاز والاختصار، فعلى السياسي أن يختزل عباراتِه وألفاظَه، فيحذف منها كلَّ ما لا يؤثر في المعنى ولا يقدِّم جديداً، وليعلم أن البلاغة الحقيقية لا تكون بالإطالة بل بالاختصار، وقد أوتي النبي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم، فكان يتكلم بعبارات قليلة يُستنبط منها معانٍ غزيرة.

5 - الاسترسال في التأصيل:

مما يميز الداعية السلفي أنه يبذل جهداً كبيراً في تأصيل كلامه وربطه بصورة حثيثة بالثوابت والمفاهيم الأساسية والمبادئ العامة، وهذه السمة (الإيجابية) تؤثر على خطابه السياسي، فتراه يبدي حرصاً كبيراً على أن يُرجِع كلامه إلى مبادئ عامة وأصول كلية، دون حاجة حقيقية إلى ذلك، وخروجاً عما يقتضيه المقام من اختصار أو تركيز أو إيجاز، فيتشتت مقصوده.

ومما يندرج تحت هذا العنوان، قضية الأولويات؛ فالسياسي بحكم عمله وتخصصه، يرتب القضايا والمواقف بحسب تطورات الأحداث السياسية، وليس بحسب ما يراه هو ويعتقده من ترتيب لهذه القضايا بحسب أهميتها الدينية؛ لذا هو لا يحتاج أن يُذكِّر دائماً بموقع هذه القضية أو تلك على قائمة الأولويات الدينية، أو أن يصرح بعدم أهميتها، أو بتقدم غيرها عليها... إلخ، فهو مقيد في عمله السياسي بتطورات الواقع وتفاعلات الأحداث.

أيضاً يلحق بهذا العنوان تأثيرُ بعض المفاهيم على الخطاب السياسي، مثل: تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ فبعض السياسيين الإسلاميين لديه قابلية للاسترسال في خطابه بعيداً عن موضوع الحدث أو الحديث أو النقاش، تتبعاً لقضية يرى أهميتها، طُرِحت بصورة عَرَضية. فهذا الاسترسال يضعف الخطاب السياسي.

6 - مقدمات مشتتة:

يحتاج السياسي الإسلامي في كثير من مواضع تواصله السياسي أن يُحسن الدخول في الموضوع مباشرة بدون مقدمات. فمن الملاحظات المتكررة على أداء بعض السياسيين الإسلاميين ميلهم إلى التقديم للكلام بمقدمات طويلة تشتت السامع وتضعف التركيز، كما يحدث كثيراً ألا يتناسب النطاق الزمني المتاح للحديث، مع تلك المقدمات الطويلة التي تستغرق أغلب الوقت، فيضطر السياسي إلى الاختصار المخل في بقية النقاط الأكثر أهمية وتعلُّقاً بالقضية محل الحديث.

أعلى