ثلاثية القوة للحزب الإسلامي

ثلاثية القوة للحزب الإسلامي


الحزب السياسي الإسلامي، لافتة تُرفَع بكثرة في أغلب الدول العربية والإسلامية هذه الأيام، تعدَّدت نماذجه وأطروحاته، وتنوعت إمكاناته وآثاره. كما انضم لقائمة مؤسسيه تيارات كانت رافضة له في يوم من الأيام؛ فلم يعد حكراً على تيار بعينه، بل أصبح حقاً وواقعاً لأغلب التيارات الإسلامية (سلفية كانت أَمْ إخوانية)؛ بحيث إن التقسيم التقليدي لتلك التيارات إلى (دعوية وسياسية) لم يعد ملائماً للتطور الحادث في الساحة الإسلامية؛ فالغالبية أصبحت «سياسية» بامتياز.

في مصر وحدها تمكَّنت ستة أحزاب إسلامية من الحصول على ترخيص رسمي في أشهر قليلة، وهي تشارك في الانتخابات البرلمانية الجارية، وهناك أحزاب أخرى لا تزال تحت التأسيس.

لكن ليست كل مشاريع الأحزاب الإسلامية يمكن وصفها بـ «الناجحة» لمجرد حصولها على الموافقة الرسمية؛ فأداؤها يتراوح ما بين القوة والضعف، وهو ما يجعل تحليل «قوة الحزب الإسلامي» مسألةً غاية في الأهمية، وتفتقر إلى البحث العلمي.

وإذا كانت الأحزاب الإسلامية هي في الأصل جماعات وتيارات دعوية تحولت (أو أسست) أحزاباً، فإن تحليل قوة تلك الأحزاب لن يكون بمنأى عن دراسة قوة تلك الجماعات نفسها، أو بمعنى أدق: دراسة مدى جاهزيتها لتأسيس أحزاب قوية.

السياسة والقوة:

تتعدد تعريفات السياسة ومداخل دراستها، وأحد تعريفاتها المبسطة هو: أن السياسة تبحث في شؤون السلطة ومن يمارسها ومن تُمارَس عليه، وهنـاك تعريف آخر يجمع ما بين السياسة وكلٍّ من السلطة والقوة، وهو: أن السياسة هي الأخذ بالقوة واستخدام السلطة أو التهديد باستخدامها، فلا سلطة إلا بوجود القوة، ولا سياسة بدون سلطة، وهو ما يعني أن السياسة في أحد وجهيها هي عملية استخدام للقوة، وفي وجهها الآخر هي سعي لامتلاكها.

ويذكر بعض علماء السياسة أن امتلاك أحد أطراف الصراع للقوة الحاسمة من شأنه أن يساهم في اختفاء الصراع، وهذا كله يدفع للتساؤل عن معنى «القوة» وكنهها من الناحية السياسية.

نقتبس هنا تعريفين فقط: أولهما تعريف الفيلسوف البريطاني برتراند رسل، وهو: القوة هي تحقيق النتائج المقصودة، فإذا كان هناك طرفان يتماثلان في رغباتهما، فإن الأقوى هو الذي يحقق من رغباته أكثر مما يفعل الآخر.

أما عالم الاجتماع ماكس فيبر فيعرِّف القوة بأنها: إمكانية فرض إرادة الإنسان على سلوك الآخرين، وكلما كانت الإمكانات متاحة كلما كانت القوة كبيرة. وفي صياغة أخرى للتعريف: إنها قدرة الشخص أو عدة أشخاص على أن ينقلوا إرادتهم إلى حيز التنفيذ الواقعي ضد رغبة الآخرين الذين يشاركون في العمل نفسه.

ثلاثية القوة:

استناداً إلى ما سبق فإن الحركات الإسلامية التي تنبثق عنها أحزاب سياسية بحاجة إلى مراجعة موازين القوى لديها، وبحاجة إلى أن تعرف نقاط قوَّتها وضعفها، فقدرتها على تحقيق النتائج المرجوة مرتهنة بما تملكه من قوة، وكذا فـإن قدرتهـا على فـرض رؤيتهـا وتصـوراتهـا عـن «الدولـة» و «نظام الحكم» إنما تُستمَد من موارد القوة التي لديها ومدى قدرتها على توظيفها واستخدامها في تحقيق أهدافها.

لا يعقل ولا يمكن أن تكتفي الحركة بدوافعها الدينية ورغباتها المخلصة وأتباعها المتناثرين لكي تؤسس لعمل سياسي ناجح، بل يجب عليها أولاً معرفة ما يتطلبه ذلك العمل من إمكانات وقوى في حدودها الدنيا، ثم مقارنة ذلك بما تملكه بالفعل، فإن كانت النتيجة سالبة فعليها - إن ظلت على الرغبة في ممارسة العمل السياسي - أن تضع لنفسها خطة زمنية تسعى خلالها لامتلاك موارد القوة اللازمة لخوض غمار السياسة. أما إن كانت نتيجةُ المقارنة موجبةً، فلا بأس أن تتهيأ وتتوكل على الله أولاً.

من الصعب في مقال كهذا أن نحصر كافة موارد القوة التي تحتاجها الأحزاب السياسية الإسلامية لكي تمارس عملها بكفاءة، لكن ننتقى ثلاثة موارد فقط، لما لها من أهمية خاصة، اثنان منها يتوفران قبل بدء العمل السياسي، والثالث يتوفر للحزب بعد فترة من ممارساته السياسية.

أولاً: قوة الدعوة:

بالطبع لا توجد أي إشارة لـ «الدعوة» كأحد موارد قوة الأحزاب السياسية في أي مرجع لعلم السياسة؛ لكنها في الثقافة الإسلامية تأتي في المقام الأول؛ فهي الركن الركين الذي تستند إليه الأحزاب الإسلامية، وبدونها تفقد أهم موارد قوتها؛ ولذلك يتركز الهجوم على هذا المورد من قِبَل خصوم الإسلاميين تحت شعارات متعددة متوالدة، مثل: إبعاد الدين عن السياسة، استخدام الدعاية الدينية، استخدام أماكن العبادة للدعاية الانتخابية، حظر الأحزاب الدينية... إلخ.

وتتمثل قوة الدعوة في المجال السياسي في عدة أمور، من أهمها:

الباعث العقدي: فالعقيدة هي المحرك للعمل الدعوي وهي المحفز له؛ فالإسلامي يعمل ويتحرك ويدعو ويشارك في السياسة وهو موصول بحبل الله، معتمد على الله متوكل عليه، متَّبع لدينه ناصر له مدافع عنه؛ فهو يتحرك لله مستعيناً بالله يبتغي رضا الله {قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ 162 لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} [الأنعام: 162 - 163]؛ لذلك فإن حسابات السياسي الإسلامي تختلف كلياً عن حسابات السياسي العَلماني؛ فالإسلامي يمارس السياسة وهو يردد: «لا حول ولا قوة إلا بالله» ومعناها: لا تحوُّل للعبد من حال إلى حال ولا قوة له على ذلك إلا بالله، فهو يستحضر في مسيرته السياسية قوله - تعالى -: {وَمَا النَّصْرُ إلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ} [آل عمران: 162]  {وَمَا تَوْفِيقِي إلاَّ بِاللَّهِ} [هود: 88] {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} [التوبة: 129]، كما يستحضر وهو يخوض صراعاته السياسية مع خصومه قوله #: «وَاعْلَمْ أَنَّ الأمة لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ».

الباعث التطوعي: تختص الحركات الإسلامية بأنها تمتلك مجموعات بشرية متنوعة وثرية، وكلها تعمل في مجال الدعوة تطوعاً واحتساباً للأجر عند الله تعالى، فهذا جيش من الأتباع لا يتوفر لأي قوة سياسية أخرى، وهو «جيش» يتوفر له الانتشار الجغرافي والتنوع المهني والتخصص العلمي والتعدد العمري، وإذا أحسنت الحركة الإسلامية توظيف هذا «الجيش» التطوعي لخدمة أهداف الحزب فإن قوتها ستتزايد أضعافاً مضاعفة، ولكن يبقى السؤال: ما هي الإستراتيجية المثلى لتوظيف هذه القوة البشرية الهائلة؟ قطعاً لا يمكن الاسترسال في تناول هذه الإستراتيجية في هذا المقال، ولكن يكفي الإشارة إلى محاور رئيسية وهي: وضع منهج عملي لقياس وتقدير القوة البشرية للحركة الإسلامية، واستخدام هذا المنهج في تحريك تلك القوة لخدمة الأهداف السياسية، واستخدام هذا المنهج في تنمية هذه القوة وتوسيع مجالاتها.

التواصل الجماهيري: لا تفتقر الحركات الإسلامية إلى وسائل للتواصل مع الجماهير، فهم - أصلاً - موضوع نشاطها ولبُّ عملها؛ فالتواصل معهم قديم، والأواصر معهم راسخة، لكنَّ طريقة التواصل السياسي مع الجمهور تختلف عن التواصل السياسي؛ فلكل منهما أدواته ووسائله، وإذا استمرت الحركة في استخدام الخطاب الدعوي نفسه لخدمة العمل السياسي، فهي بذلك تهدر قدراً كبيراً من قوتها، نعم الجمهور متاح، والثقة موجودة، ولكن يبقى الخطاب السياسي المناسب الذي ينطلق من هذه الأرضية.

ثانياً: قوة التنظيم:

في هذا المورد يتضح الفارق الهائل بين حركة عريقة في نظامها وتنظيمها مثل جماعة الإخوان المسلمين، وبين غالبية التيارات السلفية حديثة العهد بالعمل السياسي، بل والتنظيمي.

الفكرة الأكثر أهمية المتعلقة بهذا المقال، هي: خطورة أن يتم تأسيس نظام حزبي قوي يستند على تنظيم دعوي ضعيف.

فالحركات السلفية لم تكن معنية بقوة التنظيم من قبل؛ لذلك تبدو هياكلها التنظيمية بدائية أو بسيطة أو محدودة، بل يمكن القول: إنه لا توجد فلسفة تنظيمية - أصلاً - إلا إذا كانت فكرة «اللا تنظيم» يمكن اعتبارها «فلسفة في حد ذاتها»، وذلك لدواع أمنية ظرفية.

عندما تقوم هذه الحركات بتأسيس أحزاب سياسية، فستجد نفسها تمارس عملاً غير مألوف بالنسبة لها، وهنا يمكن أن تحدث عدة سلبيات خطيرة، مثل:

عجز في الكفاءات والاضطرار لإسناد مهام تنظيمية حساسة إلى أشخاص ليسوا على الدرجة الكافية من الموثوقية أو الانتماء.

اللجوء إلى استنساخ تجارب حركات أخرى دون قدرة على النقد و «الغربلة».

حدوث هوة كبيرة وتناقض واضح بين الحزب المنظم والحركة غير المنظمة.

اختفاء معايير الانتقاء والتكليف للمواقع المهمة داخل بنية الحزب التنظيمية، أو وجود المعايير دون قدرة على تطبيقها.

من العوارض السلبية كذلك في ما يتعلق بمورد «قوة التنظيم» أن بعض الحركات لديها خلط واضح بين معنى«الحشد» ومعنى «التنظيم»، وهو خلط عملي قبل أن يكون مفاهيمي؛ فهم يمارسون التنظيم بعقلية الحشد، والفارق الأساسي بين المفهومين، هو: الانتقاء والتربية؛ فالذي يحشد لا ينتقي ولا يربي، حتى وإن مارس الحشد بوسائل منظمة؛ لأن عقله مرتبط بعمل مقطوع ينتهي الحشد بنهاية العمل. أما الذي يتحرك بعقلية «التنظيم» فهو ينتقي ويربي؛ لأن ذهنه مرتبط بعمل مستمر على مدى الزمن.

ربما تكون بعض نتائج جولة الإعادة في المرحلة الأولى من انتخابات مجلس الشعب في مصر، ذات دلالة في التفرقة بين الحشد والتنظيم؛ فقد حقق حزب النور (السلفي) نتائج مبهرة في الجولة الأولى، لكن في جولة الإعادة - التي عادة ما تتراجع فيها نسبة المشاركة الشعبية - خسر الحزب كثيراً من مواقع تقدُّمه لصالح الإخوان، وأحد الأسباب الرئيسية هو أن المنافسة تمخضت عن مواجهة بين خبرة التنظيم وتنظيم الحشد.

ثالثاً: قوة الإنجاز:

هذا المورد لا تأثير له إلا بعد فترة من الممارسة السياسية وتولي مسؤوليات تشريعية أو تنفيذية، لكن عندما يحين وقته يصبح ذا تأثير عظيم (سلباً وإيجاباً)؛ فقوة الإنجاز بالغة الأهمية في ميدان العمل السياسي؛ حتى أن علماء السياسة يضعونها كأحد تصنيفات «الشرعية» التي يلجأ إليها الحكام لتثبيت مواقعهم على رأس النظم؛ فبعض الحكام يستند في إقرار حكمه واستمراره إلى ما حققه من إنجازات إلى درجة يرى أنها تسوغ له تجميد الحَراك السياسي جزئياً أو كلياً دون أن يلقى اعتراضاً من الشعب.

ولعل نموذج حزب العدالة التركي هو الأبرز على صعيد الأحزاب الإسلامية التي حققت إنجازات هائلة، وهذه الإنجازات أكسبته قوة مضاعفة؛ بحيث إن تركيبة مؤيديه أصبحت تضم قِطاعات من العَلمانيين.

تفعيل هذا المورد يتطلب من الحزب الإسلامي أن يضع إستراتيجية واضحة، تجيب على أسئلة مهمة:

ما هي المهام التي يمكن أن يسعى الحزب إلى توليها؛ لأنه يرى قدرته على تحقيق إنجاز فيها؟

هل تتناسب إمكانات الحزب مع المهام التي يسعى إليها، وهل يتوائم ذلك مع النطاق الزمني المتاح؟

هل من الأفضل أن يطرح الحزب حزمة وعود ممتدة وبراقة معتمداً على ذاكرة الناخب الضعيفة؟ أم أن الأفضل أن يحدد إنجازات محدودة تكون لديه قدرة أكبر على تحقيقها؟

ليس من الحكمة أن يرفع الحزب سقف طموحاته أو وعوده، ثم يفاجأ ناخبوه بعد انتهاء المدة الانتخابية، أن أغلب ما قيل لم ينفذ.

لذلك يقول المختصون: إن استخدام الإنجاز في الدعاية الانتخابية يكون على ضربين:

الأول: مختزل، ويكون في مرحلة الوعود والحملة الانتخابية الأولى.

والثاني: مفصل، ويكون في ما بعد انتهاء الدورات الانتخابية والبدء في حملات دعائية تالية.

أعلى