بطاقة التعريف المختصرة:

اسمها: (الإسراء، بني إسرائيل، سبحان)، وهي من العتاق الأُوَل كما قال ابن مسعود، رضي الله عنه[1]، وذلك ما يبين أنها سورة مكية. عدد آياتها: 111 آية.

ما اختلف من الآيات عن السورة في نزولها:

قال الإمام السيوطي: «استثني منها: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ} الآية لِـمَا جاء في قول ابن مسعود - رضي الله عنه - أنها نزلت بالمدينة في جواب سؤال اليهود عن الروح. واستثني منها أيضاً: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} إلى قوله: {إنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً}، وقوله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإنْسُ وَالْجِنُّ} الآية، وقوله: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا} الآية، و {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ}»[2].

ترتيبها نزولاً: نزلت بعد القصص وقبل يونس.

فضلها: قالت عائشة - رضي الله عنها -: «كان النبي صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ الزمر وبني إسرائيل»[3]؛ (أي سورة الإسراء)، وهي من المئين التي ورد في فضلها حديث واثلة بن الأسقع - رضي الله عنه - الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأُعطِيت مكان الزبور المئين»[4].

ظروف نزولها: نزلت هذه السورة في العهد المكي، حين بلغ عناد وجدال المشركين أَوْجَه لمواجهة حامل الرسالة صلى الله عليه وسلم، ووصلت معارضة الرسالة نفسِها حدَّ المصادمة والاقتتال.ذلك أن هذه السورة نزلت بعد سورة القصص التي جاءت فيها أخبار موسى وفرعون؛ وكيف كانت نهاية الأخير نذير شؤم لكل طاغية أثيم. فحمي فيها الجدل مع المشركين حول هذا القرآن، وصدق الوحي الذي واجههم بتسفيه عقائدهم، والتنديد بجاهليتهم، فسارعوا إلى تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم والتشكيك في أصل مصداقية النبوة وصحة الرسالة، وحاولوا النيل من جنابه والتنقيص من شأنه؛ فرموه بالسحر والكهانة والجنون، وطفقوا يطلبون منه الآيات والخوارق، زاعمين أن الهدف إنما هو التثبُّت من الدعوى.

المقدمة:

 بدأت سورة الإسراء بتنزيه الله - تعالى - واختُتمَت بحمده وتعظيمه، وتضمنت الحديث عن حادثتي الإسراء والمعراج، وتناولت معجزة القرآن الخالدة بشكل مركَّز؛ حيث ورد ذكر كلمة القرآن في طيَّاتها (11) مرة، كما عرضت موقف المشركين ومؤمني أهل الكتاب من هذا القرآن، وأصَّلت كونه مصدراً للخيرية بشتى أصنافها، وكغيرها من السور المكية كان التركيز فيها كبيراً على شؤون العقيدة؛ فتكلمت عن التوحيد ومخاطر الشرك ومآل المشركين، وأدرجت جانباً من ذلك في تفصيلها للوصايا العشر الكبرى التي ورد ذكرها بنوع من الإجمال في سورة الأنعام؛ بدءاً من الآية (151) إلى الآية (153)؛ حيث وردت تلك الوصايا هنا بنوع من التفصيل؛ وقد بدأ ذلك من الآية (22) إلى الآية (39)، وأردفته بطَرَف من قصة آدم - عليه السلام - وإبليس، مشيرة إلى جانب من التكريم الإلهي للبشر، وأَتْبَعَته بأمثلة من صنوف الخروج عن ذلك التكريم، جلَّتها في المحاولات اليائسة والعروض الرخيصة التي سلكها الكفار طمعاً في إغراء محمد صلى الله عليه وسلم لثنيه عن تبليغ رسالة ربه والحيلولة دون صدعه بالحق، وكذلك لجوؤهم بعد القنوط من تغيير مسار الدعوة إلى ضروب التعجيز المادي السافل، وقد بينت السورة ما مُنُوا به إثر ذلك من الفشل والتخبط، كما ذكرت طرفاً من تاريخ إفساد بني صهيون وجِبِلَّتهم العنادية الماكرة كما وردت في مقدمة السورة، لتعود قبل خاتمتها بآيات إلى سرد جانب من تاريخهم، معطية خلاصة قصة موسى وفرعون، ثم ختمت بتعظيم الله - تعالى - وتنزيهه عن الشريك والولد وسائر صفات النقص ومشابهة الخلق.

أهم محاور السورة:

بعد الاستهزاء بشخص النبي صلى الله عليه وسلم والمعارضة الواسعة لرسالته، وتعريضه لحملات مغرضة، وبعد ما لاقاه من الأذية المفرطة من قِبَل المشركين جاء الأمر الرباني بتكريمه، والقضاءُ الإلهي بتوشيحه؛ فكانت معجزتا الإسراء والمعراج في رحلة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، كان منطلقهما بيت الله الحرام في اتجاه المسجد الأقصى لتحيي الوشائج العميقة بين المسجدين المباركين. يقول ابن عاشور: «والمسجد الأقصى هو ثاني مسجد بناه إبراهيم - عليه السلام - كما ورد ذلك في حديث أبي ذر - رضي الله عنه - قال: (قلت: يا رسول الله! أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: «المسجد الحرام». قلت: ثم أي؟ قال: «المسجد الأقصى». قلت: كم بينهما؟ قال: «أربعون سنة»)[5]، فهذا الخبر قد بيَّن أن المسجد الأقصى مَنْ بِنَاء إبراهيم؛ لأنه حدد بمدة هي من مدة حياة - إبراهيم عليه السلام - وقد قرن ذكره بذكر المسجد الحرام)[6].

في رحاب المسجد الأقصى يؤم النبي صلى الله عليه وسلم جموع أنبياء الله من آدم إلى عيسى - عليهم الصلاة والسلام جميعاً - إيذاناً بانتقال الرسالة الخاتمة إلى هذه الأمة الخاتمة على يد رسولها الخاتم صلى الله عليه وسلم: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْـمَسْجِدِ الْـحَرَامِ إلَى الْـمَسْجِدِ الأَقْصَا الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: ١]، ليتوج تكريمه صلى الله عليه وسلم فيعرَج به بعد ذلك إلى سدرة المنتهى.

في هذا الدين الجديد يكون التوحيد هو الأساس الذي تنبني عليه الحياة وتقوم عليه أسس التشريع وقيم الأخلاق ومبادئ التعامل: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً } [الإسراء: ٢٢]، وفي هذه السورة يستبين هدي القرآن العقدي في أقوم الطرق وأعدلها؛ إذ هدى إلى توحيد الله - تعالى - في ربوبيته، وهدى إلى توحيده - تعالى - في عبادته وألوهيته، وهدى إلى توحيده - تعالى - في أسمائه وصفاته، حماية لهذا الإنسان المسكين الذي كثيراً ما اجتاله الشياطين وأغوته نفسه الأمارة بالسوء وأحاطت به غفلته؛ فأعرض عن ربه وكفر به وأَمِن أخذه وعقوبته، فلا يذكره إلا ساعة الشدة، فإذا خرج من الكرب عاد إلى غفلته وطغيانه[7]، {وَإذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إلاَّ إيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} [الإسراء: ٧٦]؛ أَوَلا يذكر المسكين أن الذي أدخله الكرب وفرَّجه عنه حاضر لا يغيب؟

تتهاوى ضلالات الجاهلية أمام سلطان الحق، وتسقط العقائد الفاسدة التي اعتنقها أهل الشرك أمام نور الهدى، وتختفي أوهام الوثنية أمام سطوع الحقيقة، وتُفتضَح أقوالٌ: مثل نسبة البنات إلى قيوم السماوات والأرض: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْـمَلائِكَةِ إنَاثًا إنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا} [الإسراء: 40]، وكالإعراض عن القرآن ومعارضته بالأكاذيب والأضاليل كذلك، وقد أقامت السورة الأدلة على تهافت تلك الدعاوى كلها، ونصبت البراهين على عقيدة التوحيد؛ بما تحويه من يقينية البعث والنشور والمعاد والجزاء، وذكرت سجود الملائكة لآدم وتعنُّت إبليس وعداوته لآدم ولذريته، ثم أعلنت دعوة الله - تعالى - للمؤمنين بالترفُّع عن غوغائية الدهماء وسفه الجاهلية، وأن يُمَرِّنوا أنفسهم على الاعتصام بالقول بالتي هي أحسن تحصناً من الوقيعة وغوائل الشيطان: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإنسَانِ عَدُوًّا مُّبيِنًا} [الإسراء: 53].

من لطف الله - تعالى - بهذه الأمة المباركة أن نبيها صلى الله عليه وسلم: وإن أيدت رسالته ببعض الخوارق إلا أن إعجازها لم يكن معتمداً على تلك الخوارق حتى لا تكذِّب بها أمته فتهلك، كما هلك الأولون حين اعترضوا على الآيات وواجهوها بالعتو والاستكبار والتكذيب، بل جاءت هذه الرسالة المباركة بالعواصم التي يحفظ الله - تعالى - بها معتنقيها من عواقب التكذيب ومآلات الطغيان، فكان استحضار أنباء منازل الآخرة على نتائج امتحان الدنيا: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً 71 وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} [الإسراء: 71 - 72].

لم يترك المشركون وسيلة إلا استخدموها لصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مواصلة دعوته وصده عن سبيل الله تعالى، وفي إطار ذلك عملوا على إخراجه من مكة المكرمة من خلال ما عاملوه به من صنوف المضايقة بعد ما يئسوا من رجوعه عن دينه، وقنطوا من تخليه عن دعوته، وقد صرَّح القرآن بأنهم لو أخرجوه قسراً لحاق بهم غضب الله - تعالى - ولعاجلتهم نقمته؛ كما هي سنة الله في سلفهم من الطغاة والمعاندين، وفي غمرة ذلك يضرب المصطفى صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في الثبات على المحجة وإقامة الحجة تالياً كتاب ربه، داعياً إلى سبيله، مقيماً لعبادته، متوكلاً عليه لاهجاً بذكره لاظاً بدعائه: {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا 80 وَقُلْ جَاءَ الْـحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 80 - 81]، هكذا تكلؤه حماية الله - تعالى - بهذا القرآن من أذاهم، وتحفظه به من طيشهم؛ فلا يقرؤه إلا ولَّوا عنه هاربين مدبرين: {وَإذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا 45 وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} [الإسراء: 45 - 46] .

في إطار تفنن المشركين في محاولاتهم تعجيزَ النبي صلى الله عليه وسلم يستمر إصرارهم على مطالبته بالخوارق المادية؛ كتفجير الأنهار في أزقة مكة وتحويل جبالها إلى جنات وارفة الظلال ورمضائها إلى بساتين دانية القطوف... إلخ، تلك المطالب التي ظلوا يراوحون بينها عتواً منهم واستكباراً وإعراضاً عن الإعجاز القائم بهذا القرآن عقيدة ومنهجاً وأسلوباً ومحتوى؛ ذلك أنه لو كان طلب الحق حاديَهم، واستظهار الصحيح محركَهم لاكتفوا بمعجزة القرآن الذي تضمن كافة أنماط الإعجاز ووسائله[8]، ولاهتدوا بما علموه وعايشوه وعرفوه عن شخصه صلى الله عليه وسلم؛ لكنهم ظلوا يصدفون عن الحقيقة: {وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا 90 أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا 91 أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْـمَلائِكَةِ قَبِيلاً 92 أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً} [الإسراء: 90 - 93]، ومن المعلوم أن كثرة الخوارق لم تكن لتوَلِّد الهداية في النفوس المتمردة على سلطان الوحي، ولم تكن لتنشئ الإيمان في القلوب المنكرة، ولم تكن لتزرع التقوى في النواصي الجاحدة؛ إذ لو كانت تثمر شيئاً من ذلك في نفوس مريضة بالاستكبار، مائرة بالشهوات والشبهات كتلك، لكان بنو إسرائيل أهدى الخلق على الإطلاق؛ فقد ابتلاهم موسى - عليه السلام - وحدَه بما لا مزيد عليه من الخوارق والآيات والنُّذُر؛ فهل آمنوا أو استجابوا أو صدقوا؟

وبالجملة فإن السورة قد تمحورت بشكل عام حول شخص الرسول صلى الله عليه وسلم و ما حباه الله - تعالى - به من التكريم والتثبيت والعصمة، وما أيده به من المعجزات، كما أفاضت في تعظيم شأن القرآن بوصفه مصدر الهداية والنجاة، وقد نوَّهت بقضايا العقيدة وبيَّنت أسس التوحيد، وأعلت شأن فضل حُسْن التعامل وقيمة مكارم الأخلاق.

هدايات السورة:

تحدثت الآية الأولى من هذه السورة - بعد تنزيه الله تعالى - عن حادثة الإسراء بالمصطفى صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى؛ حيث كان الأنبياء من لدن إبراهيم الخليل إلى عيسى - عليهم السلام - مجتمعين في موكب ابتهاجي مَهيب في تلك البقعة المباركة لاستقبال المكرَّم الخاتم صاحب الرسالة الناسخة المهيمنة؛ محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أمَّهم صلى الله عليه وسلم ليلتهم تلك إعلاناً من قيوم السماوات والأرض عن توليته الإمامة المطلَقة لأهل الأرض.

في مستهل السورة كان التعريج على بني إسرائيل وما نشروه عبر تاريخهم من الفساد والظلم والطغيان، وهو ما أدَّى إلى زوال سلطانهم وإنزال العقوبة بهم، كما هي سُنة الله في كل طاغية ظالم، وعلى الرغم من أنهم كلما استعلَوا واستكبروا وتجبروا سلط الله عليهم من عباده من يقهرُهم ويذلُّهم ويدمرهم ويستبيح حرماتهم؛ فإن ذلك لم يثنهم عن جبلَّتهـم العنجهيـة؛ ولهـذا توعـدهم بالعقـوبة الدائمة. قال - تعالى -: {وَإذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف: 167].

لقد تكررت كلمة القرآن إحدى عشرة (11) مرة في هذه السورة دون غيرها من سور القرآن الكريم؛ فجاء أول ذكر للقرآن في قوله - تعالى -: {إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: ٩] تأكيداً على أنه يحمل مطلق الهداية لمطلق الخلق في مطلق الظروف الزمانية والمكانية؛ فهو يهدي إلى عقيدة لا لَبْس فيها ولا غموض، عقيدةٍ تخلِّص معتنقَها من كل أدران الشرك وأوهام الخرافة وأثقال الهوى والشعوذة؛ فهدايته تعني التطابق المطلق بين المظهر والمخبر، والاتساق الكامل بين الشعور والسلوك، والالتحام الكلي بين الاعتقاد والعمل، والتواؤم التامَّ بين الفطرة والنواميس الكونية، والتوازن البصير بين العبادة والاستطاعة؛ بل تعني الاستسلام في عبودية والتناسق في حياة واطمئنان في علاقة العبد بخالقه، وترابطاً رصيناً وانسجاماً واثقاً في علاقته بالمخلوقين، في إطار من الانقياد والثبات والسكينة تعظيماً للخالق جلَّ شأنه، والعدل والاستقامة والإنصاف للمخلوقين.

في هذه السورة جاء النكير صارخاً على المشركين، وقدَّم البيان جلياً عن سوء عاقبتهم، وكان الحض شديداً على بر الوالدين ولزوم أداء حقوق ذوي القربى والمساكين وأبناء السبيل، وجاء التنفير صريحاً من الشح والتبذير ومهاوي الرذيلة والعدوان والدنس الخُلُقي؛ ليتم قطع الطريق على عادات الجاهلية: كالوأد والزنا والثارات والقتل، وكان الإعلان عالياً بوجوب رعاية أموال اليتامى والوفاء بالعهود والعناية بالمواثيق والتزام توفية المكاييل والموازين، كما تم التأكيد على ضرورة التبيُّن والثبت، ووجوب مجافاة الخيلاء والكِبْر[9]: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً} [الإسراء: ٢٢] إلى قوله - تعالى -: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْـحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا} [الإسراء: 39]. وبذلك جمعت السورة باقة من معالم التوحيد وأسس التعامل ومحاسن الأخلاق، تجسيداً لتكريم الله - تعالى - لبني آدم وتطهيراً له من أدران البهيمية وتحريره من أغلال الحيوانية.

لقد جاءت السورة بكل المواعظ والحجج للزجر عن الشرك، وأسدت البراهين والبينات الكافية لسد طرائق الظلم ومنع الإفك، وقررت التوحيد بكافة السبل، ونصبت الأدلة على انسجامه مع منطق الفطرة، بل أكدت أنه هو الفطرة نفسُها، وبيَّنت أن المشركين لم يوفَّقوا للاهتداء إلى نور هذا التوحيد لتخفِّيهم وراء الإعـراض عن الحـق، وتشبُّثهم ببـاطل عقائدهم الشركية وترَّهاتهم الوهمية: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إلاَّ نُفُورًا} [الإسراء: 41]، فكانوا يجاهدون فِطَرَهم حتى لا تركن إلى الانتفاع بالقرآن حين يلامسها، ويصـرفون عنـه قلوبَهم حتى لا يمازج بشاشتها، فتحولوا أكوازاً مجخية يعلوها الرين ويغشاها ظلام الشرك وترفض الانقياد للحق: {وَإذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا 45 وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} [الإسراء: 45 - 6].

لم تكن معجزة هذه الأمة إلا القرآن من غير اتكاء على الخوارق التي صاحبت الرسالات ذات التوجيه المحدود زماناً ومكاناً، في حين اتسمت هذه الرسالة بالخلود والأبدية لكمالها وشموليتها وتمامها؛ ذلك أنها موجَّهة إلى كل الأعراق والأجناس في كافة الأعصر والبيئات؛ وعليه فإن حادثتي الإسراء والمعراج وما تضمنتاه من خوارق لم تكونا إلا امتحاناً وابتلاءً ليزداد الذين آمنوا ثباتاً وإيماناً ويرتاب المهزوزون والمنافقون: {وَإذْ قُلْنَا لَكَ إنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْـمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء: 60].

إن استمداد العون من الله - تعالى - والتوكُّل عليه واللَّجأ إليه والمحافظةَ على عبادته وإقامة شعائر دينه في أوقاتها المحددة، كلها وسائل لاستحقاق نصر الله - تعالى - وإعلاء الحق وزهوق الباطل، فالمستعين بالله - تعالى - لا يخيب أَمَلُه، واللاجئ إليه لا تُرَد دعوته، والمتوكل عليه لا يخاف هواناً، والمحافظ على طاعته لا يناله خسران، والتالي لكتابه يتفيأ ظلال الرحمة: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا 78 وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مُّحْمُودًا 79 وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا 80 وَقُلْ جَاءَ الْـحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا 81 وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِـمِينَ إلاَّ خَسَارًا} [الإسراء: 78 - 82]؛ إنها الربانية في التوجيه والسداد في الأوامر والاتساق في التشريع.

إن هذا القرآن من الله - تعالى - فلا يملك الخلق أن يضاهوه، ولو تظاهر إنسهم وجنهم ما استطاعوا محاكاته؛ فالتحدي به قائم إلى قيام الساعة؛ فهو المنهج الحيوي الذي تتكامل فيه قوانين الفطرة لتتناغم معها نواميس الكون، فتقف البشرية مشدوهة أمام آفاق إعجازه، فتسد الطريق على المتعنتين فلا يجدون سوى الجنوح إلى طلب الخوارق المادية سبيلاً، ضاربين بأمثاله الرائعة وحقائقه القائمة وأساليبه المعجزة عرض الحائط في تبجح وغطرسة واستكبار[10]: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنسُ وَالْـجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ٨٨ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إلاَّ كُفُورًا 89 وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا 90 أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا 91 أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْـمَلائِكَةِ قَبِيلاً 92 أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً} [الإسراء: ٨٨ - 93].

إن سُنة الله - تعالى - في المكذبين للرسل - عليهم الصلاة والسلام - أن تحل بهم نقمته، ويحيق بهم إهلاكه؛ حين يُعرِضون عن آيات الله - جل شأنه - ويستهزئون برسله، ويستهينون بنُذُره، ولقد كان من رحمة الله - تعالى - ولطفه بهذه الأمة أنه في الوقت الذي جعل فيه معجزات الرسل المستقدِمين خوارق آنية جعلها مع النبي محمد صلى الله عليه وسلم آية القرآن الدائمة، التي نزلت بالحق لتربية أمم وصناعة أجيال تعيش بها ضمائرهم، وتحيا بها مشاعرهم، ويستقيم بها سلوكهم، وتتزكى بها نفوسهم، وتُساس بها أنشطتهم؛ ذلك هو القرآن منهج حياة لا يعتوره نقص ولا تنتابه زلة ولا يتقادم بطول الزمن[11]: {وَبِالْـحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْـحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا 105 وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً}. [الإسراء: 105 - 106]

أبرز القواعد المستخلصة من السورة:

{إنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: ٧]: إنها قاعدة العمل والجزاء التي لا تتغير ولا تتبدل، وقد جاءت بصيغ أخرى؛ منها ما ورد في سورة فصلت: {مَنْ عَمِلَ صَالِـحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت: 46]، وما جاء في سورة الزلزلة: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ٧ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: ٧ - ٨]؛ فمن أحسن بالإيمان والطاعة فقد أحسن إلى نفسه ونفعها، ومن أساء إليها بالكفر والمعاصي فإنما أضر بها وأساء عليها؛ فالله وحدَه الغني - جل شأنه - لا ينفعه إيمان مؤمن ولا يضره كفر كافر.

{إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: ٩]: يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: (ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن هذا القرآن العظيم الذي هو أعظم الكتب السماوية، وأجمعُها لجميع العلوم، وآخرُها عهداً برب العالمين - جل وعلا -: {يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}؛ أي الطريقة التي هي أسدُّ وأعدل وأصوب)[12]، وقد وردت هذه القاعدة بصيغ متعددة، من ذلك ما جاء في سورة الأعراف {وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 52] وهي قاعدة مطلقة؛ إذ إن هداية القرآن شاملة لأقوَم الطرق، وأوضح السبل، وأعدل الأحكام، وأنصع العقائد، وأحسن التعامل، وأجلِّ الأخلاق؛ فمن اعتصم به كان أكمل الناس شأناً وأهداهم سبيلاً وأقومهم طريقة .

{وَكَانَ الإنسَانُ عَجُولاً} [الإسراء: ١١]: وهي قاعدة عامة تبيِّن استعجال الإنسان وعدم توخيه لعواقب الأمور وتجاوزه للنظر في مصائرها، وقد وردت في سورة الأنبياء بصيغة أخرى: {خُلِقَ الإنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37]؛ ذلك أن المؤمن يستعجل النصر والكافر يستبطئ العذاب ويستهزئ بالوعيد. ومن رحمة الله - تعالى - بالبشر أنه - جل شأنه - لم يعجِّل لهم كثيراً مما يطلبون؛ إذ يستعجلون الشر استعجالهم للخير: {وَيَدْعُ الإنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْـخَيْرِ} [الإسراء: ١١].

{وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: 20]: وهي قاعدة جليلة؛ فلا رادَّ لحكم الله - تعالى - ولا مانع لما أعطى ولا مبدِّل لما أراد؛ فهو - سبحانه - الفعَّال لما يريد العدل الحكيم الخبير يعطي ويمنع لا معقِّب لحكمه ولا رادَّ لقضائه، وقد وردت هذه القاعدة بصيغ كثيرة؛ منها ما جاء في سورة البقرة: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة: ٢١٢]، ومنها ما جاء في سورة آل عمران: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ} [آل عمران: 74].

{وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء: 85]: وهي قاعدة يثبتها الواقع؛ فَعِلم الإنسان محدود وعقله قاصر عن الإحاطة بالأشياء، لا سلطان له على الغيب؛ بل عاجز عن إدراك ما يحتاجه مما ليس غيباً؛ فكيف يدرك ما لا يحتاجه مما هو ممنوع من الاطلاع عليه، وعجزه هذا أبدي لا تعلُّق له بزمن، وقد وردت هذه القاعدة بصيغ متعددة؛ منها ما جاء في سورة البقرة: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إلاَّ بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255]، وقد ورد قوله - تعالى -: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} في ثنايا عدد من سور القرآن الكريم؛ وهو ما يدل على جهل البشرية الخلقي.

{وَكَانَ الإنسَانُ قَتُورًا} [الإسراء: 100]: فالبشر مطبوعون بجبلَّتهم على شدة البخل والجشع والأنانية، فلو أنهم كانوا خَزَنة رحمة الله - تعالى - لمنعوها وبخلوا بها؛ خوفاً من نفادها ونقصانها وحرصاً على الاختصاص؛ رغم أنه لا يعتورها نقص ولا ينالها نفاد؛ لكن الجبلَّة البشرية كذلك، وقد وردت هذه القاعدة في ثنايا القرآن بصيَغ وافرة؛ من ذلك ما ورد في سورة النساء: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْـمُلْكِ فَإذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} [النساء: 53]، وما ورد في سورة المعارج: {تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى 17 وَجَمَعَ فَأَوْعَى 18 إنَّ الإنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا 19 إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا 20 وَإذَا مَسَّهُ الْـخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج: ٧١ - ١٢]، وما ورد في سورة القتال: {وَإن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ 36 إن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد: 36 - 37][13].

قصة وهدف:

من قوله - تعالى -:{وَقَضَيْنَا إلَى بَنِي إسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: ٤] إلى قوله - تعالى -: {عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء: ٨] يخبر - سبحانه - أنه أعلمَ بني إسرائيل في الكتاب الذي أُنزِل عليهم أنهم سيفسدون في الأرض ويفجرون فيها ويطغون ويتجبرون، وأنهم كلما صدر منهم ذلك سلط عليهم جنداً من عنده أُولِي بطش وبأس ينكِّلون بهم ويذيقونهم أصناف الإهانة والعذاب. وقد اختلف المفسرون (سلفاً وخلفاً) في تاريخ التسليط وهوية المسلَّطين؛ غير أن الذي لا يماري فيه أحد أن بني صهيون قد بلغوا في عصرنا الحاضر من العتو والاستكبار والغطرسة والظلم والتجبر ما لم تكد تبلغه أمة في التاريخ البشري.

وقد جاءت قصة بني إسرائيل هذه لتكشف عن جانب من جبلَّتهم الخسيسة، وتوضح طرفاً من حياتهم الجاحدة، وتميط اللثام عن صنفهم المتغطرس.

لقد كان بنو إسرائيل أكثر الناس ذكراً في القرآن؛ لأنهم أكثر الخلائق مكراً بحَمَلَة الحق، وأشدهم إعراضاً عن الوحي: {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} [المائدة: 70]، وهم أسوَد الأمم تاريخاً في سفك دماء الأنبياء: {وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} [آل عمران: ١٨١]، وهم أكثر الأقوام خيانة للعهود: {أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ} [البقرة: 100]، وهم أشد الشعوب جراءة على الله - تعالى -: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء: 153]، {قَالُوا إنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: ١٨١]، وهم أكثر أهل كتاب تعرضوا للعن أنبيائهم: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة: 78]، وهم أرغب بني الإنسان في إشعال الفتن والحروب {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْـحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة: 64]؛ لقد مارسوا ذلك رغم المذلة التي ضرب الله - تعالى - عليهم {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا} [آل عمران: 112]، وحاكوه رغم أنهم أجبن الناس وأحرصهم على الحياة وأكثرهم إخلاداً إلى الأرض {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ} [الحشر: 14{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة: 96]. تلك ملتهم وذلك ديدنهم لا يحيدون عنه؛ بل يتوارثون عبر أجيالهم هذه الأحقاد الغائرة والعداوات الراسخة: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: 82].

وتحقيقاً من الله - تعالى - لوعده لبني صهيون بالتمكين من الإفساد في الأرض والتمكين من الاستعلاء والاستكبار سخَّر لهم عوناً ومدداً من الناس فاقتادوا العالم ومسكوا قوَّته بأيديهم[14]، وسخَّروا إمكاناته لمآربهم: {لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: ٤]، لكن وعيد الله - تعالى - لهـم لا يتخلف: {وَإذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف: 167]؛ فكلما صدر منهم إفساد جسَّدوا به جبلَّتهم الفاسدة جاءت العقوبة من الله جزاءً وفاقاً: {وَإنْ عُدتُّمْ عُدْنَا} [الإسراء: ٨]. إن غطرسة اليهود وعيثهم في الأرض قدر مقدور؛ سواء كانت مرَّتا الإفساد المذكورتان في هذه الآية قد تحققتا، أو تحققت إحداهما والثانية هي المعيشة اليوم أو لا تزال في رحم الغيب، فإن هذه الآية قد تضمنت إشارة واضحة لقابلية اليهود لمعاودة الإفساد مرة بعد مرة كلما وجدوا فرصة سانحة لذلك؛ لِـمَا اتصفوا به من سجايا الإفساد الجبلية؛ ذلك أنهم جمعوا من ذميم الصفات وقبيح الأفعال ورذيل الخلال ما لم يضاههم فيه أحد، فضربوا أبشع الأمثلة في اعوجاج الطبائع وخبث الطوايا، ورغم بشاعة وشناعة ما نُعتُوا به فإنهم لن يأتوا بأفظع من إيذائهم لله - تعالى - وكفرهم به، وقتلهم لأنبيائه، وتحريفهم لكتبه، ونقضهم لعهوده.

ولقد كان من أهداف إيراد قصصهم وأخبارهم – في هذه السورة وغيرها من سور القرآن الكريم - بيان الفوارق بين عاقبة أهل الخير والصلاح وعاقبة أهل الإفساد والشر، وعلى ذلك تتدافع السنن الكونية لتكون العاقبة للمتقين؛ فحين كان الوحي قائد هذه الأمة وحياتها قائمة به ومنهجها مؤسساً عليه، تغلبت على جميع أعدائها بمن فيهم اليهود الذين أُجلُوا من الجزيرة وفُرضَت عليهم الجزية، وحين قلَّد المسلمون اليهود والنصارى وأعرضوا عن الوحي واتبعوا أهواءهم وأخلدوا إلى شهواتهم عادت الكرة للكفار يقدمهم وِرْد اليهود فأساموا المسلمين سوء العذاب وأذاقوهم الويلات، وما أحداث غزة عنا ببعيد، ولا يشك مؤمن أن الله - تعالى - سيسلط على بني إسرائيل من ينكِّل بهم تصديقاً لوعيده لهم، طبقاً لسنَّة لا تتخلف ولا تتبدل؛ ولكن هل سنعود إلى القرآن ومنهاج النبوة المحمدية اللذَين هما سبيل عزنا وعُدَّة نصرنا ووسيلة تمكيننا؟ متى سنرفع علم الجهاد ونظهر راية الإسلام لنتأهل ونحوز صفات العباد أُولِي البأس الشديد الذين توعد الله - تعالى - بهم اليهود؟ متى سننسلخ من عار غثائيتنا ونخرج من هاوية تولينا قَبْل أن يستبدلنا الله غيرنا عياذاً به - جل شأنه -: {َإن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38].

من الآيات الكونية في السورة:

يقول الله - تعالى -: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْـمَسْجِدِ الْـحَرَامِ إلَى الْـمَسْجِدِ الأَقْصَا الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: ١]، من الأسرار التي تتراءى للمؤمن من خلال حادثتَي الإسراء والمعراج: الدفع إلى فتح القلوب المغلقَة والعقول المتحجرة لاستيعاب قدرة الله - تعالى - وخلقه للسموات والأرض وما فيهما من نُظُم ونواميس، فيستيقن قدرة الله - تعالى - ويعلم أنه هو الخالق لذلك كله المتصرف فيه بما شاء؛ فقد قدَّر حادثتي الإسراء والمعراج لتكونا بما تضمنتاه خرقاً لقانون الزمن ومألوف السرعة.

يقول - جلت عظمته -: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْـحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} [الإسراء: 12]، لقد أثبت العلم الحديث أن القمر الذي هو آية الليل كان كوكباً مشتعلاً؛ لكن الله - تعالى - أزال ضوءه إلا ما استمده من انعكاس أشعة الشمس التي تُعَدُّ مصدر الضوء والحرارة[15].

يقول - جل وعلا -: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإن مِّن شَيْءٍ إلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: ٤٤]، تبيِّن هذه الآية أن لكل شيء حياةً خاصةً لا يعلمها إلا المبدع الخالق - سبحانه - فكل المخلوقات تسبِّح الله - تعالى - وتمجِّده وتؤلِّهه وتشهد له بالوحدانية ولو كانت مخلوقات جامدة.

الخاتمة:

لقد أكدت هذه السورة الكريمة أن في هذا القرآن كافة عوامل القيادة والسيادة، وأن المستمسكين به ينزع الله عن نفوسـهم الوهـن ويبدلهـم به إيماناً راسـخاً لا يعـرف تلكـؤاً ولا ينتابه تردُّد؛ بل يندفع صاحبه في سرعة ومبادرة مستجيباً لأمر الله - تعالى - ونهيه؛ إنه الإيمان الذي يقوم على العبودية لله وحدَه: توحيداً وإخلاصاً واحتساباً وتوكلاً، إيمان يستسلم صاحبه لشريعة الخالق خُلُقاً ومعاملة في ارتواء دائم من ينابيع القرآن، وزاخرِ بحور السُّنة المطهرة؛ بهذا المنهج تدب الحياة في هذه الأمة المباركة من جديد، فيقود الوحي زمامها من غير اسـتعجال للنتـائج أو تجاوز لسـنن الله - تعالى - بإيمانها لتسير تحت رايته بخطى ثابتة تراعي الظروف وتأخذ بالأسباب: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْـحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} [الإسراء: 12]، يحدوها ذلك الإيمان الذي لا يتسلل إلى نفس صاحبه الانزلاق في أتون الترف والفسوق اللذين هما الخطوة الأولى في درك الفساد والتردي إلى الزوال والاندثار: {وَإذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16][16].

لقد صاغت هذه السورة وصايا عظيمة جمعت كل وسائل العصمة من الزلل، وشملت كافة مقومات الاهتداء إلى الرشاد؛ استهلتها بالتوحيد الخالص وختمتها به، لارتباط كمال الاستقامة به، ونسج حزام النجاة من أهدابه. وصايا حازت أعدل الأحكام وأوضح الحِكَم؛ فالتوحيد هو الذي يجعل رابطة الناس بربهم شديدة، وصِلَتهم به وثيقة، وتعلُّقهم به كاملاً، فيعلمون أنه - تعالى - خلق الخلق وحدَه ليعبدوه ويألهوه بلا إشراك، ويوحدوه ويمتثلوا أوامره ويجتنبوا نواهيه، وهو وحده العالم بما يصلحهم، وهو وحده مسبغ النعم الظاهرة والباطنة، وهو وحده من يستمد منه سلطان الحق صدقاً وثباتاً، وهو وحده الذي يدحر الباطل ويزهقه، وهو وحده الموفِّق لعباده المؤمنين إلى الإحسان في المعاملة والتلطف في القول والسداد في الدعوة حتى تصير الكلمة الطيبة شعارهم: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإنسَانِ عَدُوًّا مُّبيِنًا} [الإسراء: 53]. ويعتقدون أنه لا كاشف للضر إلا الله وحده ولا نافع سواه ولا راد لقضائه؛ فكل ما سواه مربوب مقهور خاضع لجبروته وسلطانه: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلاً 56 أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 56 - 57]، فيعبدونه وهم موقنون أنه وحده من حبا البشر بالتكريم وأفاض عليهم من سوابغ نعمه من بين سائر مخلوقاته؛ فكرَّمهم في هيئتهم ونطقهم، وكرَّمهم بفطرتهم، وكرَّمهم باستعداداتهم وميولهم، وكرَّمهم بمسؤوليتهم عن أنفسهم؛ فجعلهم مكرمين مشرَّفين إن أعزوا أنفسهم بالانقياد لأمره، مهانين حقيرين إن أذلوها بالإعراض عن الهدى وارتموا في أحضان بهيميتهم: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً 70 يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً 71 وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} [الإسراء: 70 - 72].

على الرغم من أن المشركين وقفوا مشدوهين أمام هذا القرآن عاجزين عن الإتيان بما يشبه الآية الواحدة منه فإنَّ تبلُّد الإحساس عندهم جعلهم يتجاوزون إعجازه المتجسد في شمولية منهجه وبلاغة نُظُمه وجمال أسلوبه - وهم أهل الفصاحة والبيان - إلى تلمُّس خوارق مادية تافهة، متشبثين بعقيدة فاسدة، وتصور منحرف بنوه على فكرة خاطئة مقتضاها أن الرسول لا ينبغي أن يكون من جنس البشر، متجاهلين أن الخيرة بيد من له الخلق والأمر وحده يسبغها على من يشاء من خلقه: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنسُ وَالْـجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ٨٨ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إلاَّ كُفُورًا 89 وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا 90 أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا 91 أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْـمَلائِكَةِ قَبِيلاً} [الإسراء: ٨٨ - 92]، ومتناسين أنه ما بعد الآيات المادية إلا الإيمان أو الهلاك: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إلاَّ تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59].

لقد نوهت هذه السورة في ختامها بذلك الجمهور العريض من أهل الكتاب الذين بادروا إلى الدخول في الإسلام فور سماعهم لهذا القرآن فاستقبلوه بقلوب مفتوحة لهدايته، ونفوس قد حازت من العلم ما عرفت به قيمته وطبيعته[17]، فأذعنت في خشوع وآمنت في استسلام: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا 107 وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَـمَفْعُولاً 108 وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 107 - 109].

ومجمل القول في هذه السورة: إنها اشتملت على كثير من التوجيه والتسديد والأخبار المسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه من بعده، وأنه لم يكن بدعاً من الرسل في تعرُّضه للإعراض والأذية كما لم تكن أمته في ذلك بدعاً من الأمم؛ فما أُرسِل رسول ولا اهتدت أمة إلا وتعرضت للاستهزاء والابتلاء والتكذيب؛ لكن نصر الله - تعالى - ما يلبث أن يأتيهم فتكونَ لهم العاقبة، ولمخالفيهم الخسران والبوار، إن ثبتوا على الحق، ولم تُغوِهم عنه المغريات، ولم تُزحهُم عنه الزوابع؛ فَحَمَلة الحق عرضة لظلم الجبابرة واضطهاد الطغاة وهدفاً لأطماع المناوئين والمنافقين والمخلِدين إلى الأرض، ولكن وعد الله لهم بالنصر والتمكين والاستخلاف قائم ما استمسكوا بالحق وثبتوا عليه وانتهجوه في نفوسهم وسَعَوا إلى إقامته في الخلق {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِـحُونَ} [الأنبياء: 105].

  

 


[1] جاء في صحيح البخاري، كتاب التفسير، سورة بني إسرائيل (الإسراء)، باب: عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال في بني إسرائيل والكهف ومريم: إنهن من العتاق الأُوَل.

[2] الإتقان في علوم القرآن (1/ 60)، غير أنه باستثناء الآية الأولى ذكرها تقع بقية الآيات موقع اختلاف كبير من حيث مكيَّتها ومدنيَّتها؛ بل منها ما تترجح مكيَّته؛ كما هو الشأن بالنسبة لقوله - تعالى -: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ } [الإسراء: 60].

 [3] أخرجه الإمام الترمذي (3405)، وصححه الألباني في تعليقه عليه، وفي سلسلته الصحيحة (641).

[4] أخرجه الإمام أحمد في مسنده (17023) وعلَّق عليه شعيب الأرنؤوط بقوله: «إسناده حسن».

 [5] أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب، ح (3366). ورواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب ابتناء مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ح (520).

 [6] التحرير والتنوير: (14، 14).

[7] انظر : المصباح المنير لصفي الرحمن، ص : 618.

[8] انظر: تيسير الكريم الرحمن، ص : 466 - 467.

 [9] انظر: في ظلال القرآن: (4/ 2222 - 2226).

[10] انظر: نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم، ص : (220 - 222).

 [11] انظر: في ظلال القرآن: (4/ 2251 - 2253).

 [12] أضواء البيان: (3/ 272).

 [13] انظر : أضواء البيان: (3/ 574).

 [14] انظر: مجلة البيان، العدد 180، ص 68.

 [15] انظر الموسوعة الكونية الكبرى، ص : 490.

[16] نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم، ص : (223 - 227).

[17] انظر : في ظلال القرآن: (4/ 2254).