المسلمون في أخذهم من مصادر التشريع على ثلاثة أصناف: إما عالم مجتهد، أو عالم مقلد، أو عامي.

إن الفتوى إذا وافقت مراد السلطة السياسية ولم تصطدم بحكم شرعي قطعي الدلالة والثبوت، وفيها تحصين لمصالح البلاد والعباد؛ ينبغي أن تؤخذ في الحسبان.

بين العراق والفقه علاقة متلازمة؛ فالإمام الأعظم أبو حنيفة زعيم مدرسة الرأي والفقهاء عيال عليه في الفقه، والإمام مالك يوطئ كتابه للخليفة العباسي أبي جعفر المنصور مؤسس بغداد، والإمام الشافعي وضع أول مدونة في أصول الفقه ببغداد فكانت الرسالة، والإمام أحمد، إمام أهل السنة في العقيدة والحديث والفقه، يوم أن مات شيّعته بغداد برمتها، فصدق قوله: «بيننا وبينهم يوم الجنائز».. واليوم إذ يعيش العراق ظروفاً شديدة القسوة في ظل احتلال أردف نفوذاً أجنبياً يسعى إلى تغيير هويته، ومما عمق المأساة تشتت أهل السنة وتفرقهم؛ قامت محاولات جريئة لأهل السنة في العراق لتكوين مرجعية رشيدة تكلّلت بعضها بالنجاح، وإن كان محدوداً، حتى جاءت فكرة «المجمع الفقهي العراقي لكبار العلماء للدعوة والإفتاء»، الذي يضم مختلف مدارس أهل السنة الفكرية، ويعمل كمؤسسة علمية جماعية تمثل مرجعية شرعية تحمل على عاتقها شؤون أهل السنة، ومنها: الإفتاء الجماعي القائم على الاجتهاد، وعدم الانفراد بالرأي، وكذلك تحمّل مهمة الإرشاد والتوجيه، ومسؤولية الحفاظ على كيانهم المهدد وهويتهم المستهدفة، وليكونوا حلقة الوصل مع بقية المراجع والمؤسسات العلمية الإسلامية المختلفة للتعاون والتعايش السلمي والتبادل المعرفي.

ومن أجل تسليط الضوء على هذه المرجعية وغيرها من القضايا التي تغشى الساحة العراقية؛ كان لمجلة البيان هذا الحوار الموسَّع مع فضيلة الشيخ الدكتور أحمد حسن الطه، كبير أعضاء المجمع.

البيان: تم توصيف المجمع الفقهي العراقي بأنه مرجعية شرعية، ما حقيقة مفهوم المرجعية عند أهل السنة والجماعة؟

المرجعية اشتقت من المرجع والرجوع، وهي تعني من يرجع إليهم الناس في أمورهم العامة، بل الخاصة، ويستفتونهم في النوازل والقضايا المصيرية، يقول الله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]. وهذه الأمة مرجعها أولاً وآخراً كتاب الله تعالى، وإن اختلفتم في شيءٍ فردوه إلى الله، ثم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم إلى ما كان عليه الصالحون ونهج عليه الخلفاء الراشدون.

أما المرجعية بمعناها المعاصر الآن، فهي تعني شيئاً آخر؛ فهي مؤسسة علمية شرعية سياسية اقتصادية يُرجع إليها في أمر الطائفة التي تنتمي إليها، وترسم لهم الطريق العام، وتدلهم على أسباب النجاح وسلوك سبل الارتقاء؛ ليكونوا مجتمعين عاملين أقوياء غير ضعفاء.

أما في العراق الآن وسابقاً، لم يكن عند أهل السنة والجماعة - مع الأسف - اهتمام بأن تكون لهم هيئة يرجعون إليها، وكانوا متكلين على ما توارثوه من الأجيال السالفة من أن المرجع هو ولي الأمر، وعندما يحتاج إلى شيء فعنده الصدر الأعظم وشيخ الإسلام والمفتي العام، وهؤلاء يمثلون المؤسسة الدينية، وكانت الأمور تمضي بهذا الشكل.

وبعد سقوط الدولة العثمانية، وتولي الاتحاديين الذين مهدوا الطريق أيام عبد الحميد وذللوا الصعاب التي تقف أمامهم وأسسوا الدولة الجديدة وأسموها «تركيا الفتاة» على العلمانية، وكان موقفهم مع الدين موقف عداء، فالمرجعية لا تمثل شيئاً آنذاك، وأبعدت الشريعة عن منهاج الحياة، وهو أحد الشروط التي ألزمت بها تركيا بعد سقوط الدولة العثمانية تحت بند حذف كلمة الخلافة والشريعة الإسلامية.

وبعد الحرب العالمية الأولى ووقوع البلدان العربية، ومنها العراق، تحت الاحتلال؛ فلا خلافة ولا اهتداء أو سلوك طريقة الشريعة الإسلامية، وأصبحت البلاد علمانية، ووضعوا القوانين بحسب ما يشتهون؛ بعيداً عن الدين، وقريباً من القوانين الأجنبية. وهذه القوانين ليس فيها كلمة مرجعية، لكن فيها كلمة المفتي. وصفة الإفتاء كانت موجودة في الولايات وبعض الأقضية، وعبر السنين السريعة تقلّصت فأصبحت فقط في الولايات الكبرى، ثم تقلّصت فأصبح في العراق مفتٍ واحد، ما يعني أنهم لا يريدون ما يمكن أن يطلق عليه المرجعية، وهذا ما صنعته الحكومات التي تعاقبت على حكم البلاد الإسلامية.

البيان: وما أثر ذلك على البلاد العربية والإسلامية، ومنها العراق؟

هذا الأمر جعل البلاد ثقافياً بعيدة عن الرجوع إلى الإسلام والمرجعية الشرعية، وعملوا من خلاله على تضييق دائرة الشريعة وحصرها في مجال محدود جداً؛ كقضايا الزواج والطلاق والميراث، فحصروا دور الشريعة في قانون الأحوال الشخصية فقط، وجمعوا بعض أهل الفكر وكتبوا لهم ما يسمونه قانون الأحوال الشخصية، أما ما وراء ذلك فلا يتدخل علماء الشريعة في القوانين المدنية والجنائية؛ مثل البيع والربا وغيره من أحوال المعاملات، بل لو ارتكب الإنسان أفحش الفواحش دون غصب أو إكراه قالوا هذه حرية وعمل طبيعي.. فهذه المسائل أضعفت المجتمع الإسلامي عموماً وأهل السنة بشكل خاص، وأقول أهل السنة بشكل خاص لأن الشيعة تنبَّه زعماؤهم لذلك فاعتمدوا على أنفسهم، ورأوا أنه ينبغي عليهم أن يهيئوا لهم هيئة عليا ترسم لهم الطريق، فكانت لهم مرجعيتهم الخاصة بهم، وعزز ذلك قيام دولة تدين بهذه العقيدة، ورسخوا هذه المرجعية على أنها تمثل مسألة سعادة أو شقاء؛ فالذي لا يتمسك بالمرجعية شقي، والذي لا يسلك مسلك المرجعية قوي في الدنيا شقي في الآخرة. ونلاحظ على أثر ذلك تشكل عندهم نوعان من المرجعية: مرجعية التقليد، ومرجعية الولاية.

لكن - ولله الحمد - فقد شعر بعض المفكرين خلال السنوات الأخيرة في بغداد بأهمية هذا الموضوع، ودرسوا المسألة في أكثر من اجتماع، ثم توصّلوا إلى أنه لا بد من العودة إلى نظام مؤسسي يجمع أهل السنة، وأن تكون لهم قضية وهوية، مع الأخذ بالمحاولات السابقة منذ العام 2003 التي سعت لجمع أهل السنة في العراق.

البيان: ما المبادئ التي قام عليها هذا الاجتماع؟ وعما أسفر؟

إن مبادئ الإسلام لا تزال هي مكمن القوة ومصدر الهداية لكل اجتماع، وإن وحدة الصف والكلمة واتباع الشريعة والتثقيف في الدين والقيام بمستلزمات الحياة من واجب السلطة، فإن لم تكن السلطة أو قصرت في ذلك، فمن واجب الأفراد، فهم كالبنيان يشد بعضهم بعضاً، وهذا ما حصل، إذ انتدبت هذه الفئة المباركة إلى تأسيس مؤسسة دينية، وفكروا كثيراً في التسمية والعبرة الحقيقية في جوهر المسمى، والباقي ألفاظ، والألفاظ معظمها تدل على الهدف، واتفقوا على أن تكون مرجعية لأهل السنة، ولكي يحيط هذا المفهوم اتفقوا على أن يطلقوا عليها مسمى «المجمع الفقهي العراقي»، ويبقى بابه مفتوحاً لكل من يريد أن يخدم دينه وأن يخدم آخرته وقومه، فيأتي لينضم إلى هذا الركب الذي من أهدافه وحدة الصف ووحدة الكلمة.

إن الإنسان أسير معتقده، ويجب أن يسعى ويسلك الطريق الصحيح ليصل إلى الهدف الذي يؤمن به، وهو في ذات الوقت لا يضر التعايش السلمي مع الآخرين، بل يعززه.

البيان: كيف توفّقون بين هذا المعنى الذي توصّلتم إليه وبين من يرى أن مرجعية أهل السنة والجماعة هي كتاب الله تعالى وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام؟

من المعلوم أن أمور ديننا نأخذها من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وعموم المسلمين في أخذهم من مصادر التشريع على ثلاثة أصناف: إما عالم مجتهد، أو عالم مقلد، أو عامي؛ فالعالم المجتهد مرجعيته الكتاب والسنة والإجماع وما يرى من مصلحة راجحة في القياس عند أغلب الفقهاء، أما العالم المقلد فمرجعيته العلماء السابقون الذين تلقتهم الأمة بالقبول، لا سيما المذاهب الأربعة، أما العامي الذي لا يستطيع الأخذ من الكتاب والسنة ولا من المذاهب الأربعة، فيسأل العالم الحي في زمانه.

وأسفرت الاجتماعات عن تشكيل مرجعية تضم العلماء الذين لهم القدرة على تكييف المسائل المعاصرة واستنباط الحكم الشرعي لها من خلال الكتاب والسنة وأقوال الفقهاء.

البيان: ما الآليات والمعايير التي تم بها اختيار أعضاء المجمع الفقهي العراقي؟

كانت لدينا آليات في اختيار أعضاء المجمع الفقهي العراقي، حيث تم في البداية اختيار النواة الأولى، وكانت تمثل اللجنة التحضيرية وعدد أعضائها سبعة أشخاص، واختيرت بحضور عدد كبير من العلماء والمفكرين، ووضعت بعض المعايير، وقامت هذه اللجنة بمطابقتها في اختيار أعضاء المجمع الفقهي العراقي، ومنها: أن تكون لديه قدم راسخة في العلم الشرعي (تحصيلاً وتدريساً وإفتاء)، وأن يكون ممن يحظى بقبول حسن بين الناس، وأن يكون له جمهور بقصد التأثير، وراعينا أيضاً ما يفرضه الواقع من وجود مشارب فكرية في المجتمع السني، وكذلك راعينا المؤسسات العلمية الشرعية السابقة، فكان لها دور في اختيار الأعضاء.

فالعالم الذي اختير هو رجل ذو علم شرعي متمكن قوي يقول الحق ولا يخاف في الله لومة لائم، وصاحب ماض مشرق، وله تأثير بين عموم الناس، مع مراعاة المؤسسات السابقة والأطياف الفكرية السنية. وهذا ليس كما يتصوره البعض محاصصة، لكن المجمع لا بد من أن تكون له كلمة على الجميع، وهذا لا يتم إلا باحتواء الجميع تحت مظلة أهل السنة والجماعة.

البيان: هل ترون أن المجمع الفقهي العراقي حقق خلال السنتين الماضيتين من انطلاقته بعض الأهداف المرسومة؟ وما أبرز نشاطاته في ظل الظروف العصيبة التي يشهدها العراق؟

المجمع الفقهي العراقي ولد قبل سنتين، لكنه استمد عمقه من المكان الذي لم يخلُ منذ ما يزيد على 1400 سنة من أداء رسالته العلمية والدعوية والإصلاحية، إذ فتح الله على أعضاء المجمع أن جعلوا المقر العام بجوار مدرسة الإمام أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - ومسجده في قلب العاصمة بغداد.

فالمكان قبل نشوء المجمع هو متردد الناس للسؤال والجواب عن قضاياهم الخاصة والعامة، ولا يزال المكان يشهد نفس النموذج والنمط من المراجعات بين عقد وكتابة وصية وكتابة وقف وقسم شرعي وأسئلة عن الطلاق والنكاح وغيرها.

ثم لما تحصل نازلة بالبلد يتجه الناس إلى هذا المكان باعتباره رمزاً لهم، ويجدون فيه الشخصيات الإسلامية وأعيان البلد للتداول والحوار وما شابه ذلك.

وأول نشاط قام به المجمع هو قيامه بعمل ندوة علمية حول نظام الأقاليم، ونحن نعلم أن المرجعية كما قلنا مكان رجوع الناس إليها عند الحاجة، ولما كثر اللغط على موضوع الأقاليم فإن المرجعية لم تتسرع، وإنما عملت ندوة وخلطت بين الباحثين وأكثرت الدعوة للمؤيدين والرافضين للأقاليم، وأصبحت هناك ندوة ثرية علمية اتضح لكثير من الناس ما كان عنهم خافياً.

ولم تكن المناظرات كافية، وارتأى المجتمعون عقد مؤتمر علمي موسع، فعقد مؤتمر في شعبان الماضي، وقد ضم ما يزيد على 40 بحثاً، فضلاً عن المداخلات الكثيرة ومن دول متعددة، وكانت الآراء بعد التمحص قد رجحت كفة القائلين بجواز الإقليم وليس بوجوبه، وأنه أحد الخيارات المعتبرة لإنقاذ أهل السنة، مع الحرص على وحدة العراق.

وحرصاً من المجمع على الارتقاء بالمستوى العلمي والتفاعلي للدعاة في العراق، قام بدورات علمية ومحاضرات دعوية ضمت عدداً مباركاً من طلاب العلم، وغالبيتهم من الأئمة والخطباء، وبعضهم من طلاب الدراسات العليا وممن يعشق الثقافة الإسلامية.

ثم كان المجمع كالجندي المتأهب لكل ما يحصل للأمة، فيقوم بتقديم النصح للمسلمين، ويحذر من الخطأ، ويصدر البيانات في النوازل التي تحتاج إلى رفع الصوت وتحذير الناس من الخوض في الباطل، ونصرته للحق وأهله، ومنها: دعمه المتواصل للحراك الشعبي الذي شهدته المحافظات الست المنتفضة للمطالبة بحقوقها المشروعة ورفض الانتهاكات الممنهجة ضد أهل السنة في العراق.

البيان: ذكر فضيلتكم أن من مهام المجمع إصدار فتاوى في النوازل، والمتابع يرى أن هناك فوضى في الفتاوى عبر وسائل الإعلام.. كيف يمكن ترشيد الفتوى في الإعلام؟

الأصل أن الإعلام لم يؤسس ليكون منبراً للفتوى، لكن لتطور التكنولوجيا واستثمارها في الدعوة إلى الله لا بأس في استخدام هذه الوسائل لنشر دين الله، ومنها الفتوى في المسائل الشرعية، لكن لسعة جمهور المتلقين لهذه الوسائل كان لا بد من ضوابط لترشيد الإفتاء عبر وسائل الإعلام، والفتوى في الإعلام إما أن تكون خاصة فيسأل المداخل ويجيبه من تصدّر للإفتاء في الاستديو، فحينئذٍ ينبغي أن يتم اختيار صاحب العلم الراسخ ومن لديه أمانة وورع في فتواه، هذا هو الضابط الأول. أما بالنسبة للسائل فعليه أن يأخذ الفتوى لسؤاله المباشر لا أن يأخذ فتوى لسائل آخر بحجة أن السؤال مشابه، فكثير من المخالفات الشرعية التي تحدث من الناس يقول: «العالم الفلاني أفتى بكذا». نقول: نعم ليست الحال مثل حالك، إنما لسؤال آخر ظننت أن سؤالك مشابه لتلك المسألة، وهي غير ذلك. فالترشيد يكون من جانبين كما ذكرنا: المفتي والمستفتي.

ثم ينبغي لمن يتصدّر للإفتاء أن يكون عالماً بالكتاب والسنة، ولديه علم بمواطن الإجماع؛ حتى لا يفتي بخلاف ما أجمعت عليه الأمة، وكذلك أن يكون على علم بتفاصيل المسائل الخطيرة؛ كالنكاح والطلاق والربا والمعاملات والحدود وجميع أبواب الفقه الإسلامي، لا سيما التي لها صور حادثة مستجدة، مع علم بالواقع الذي يعيشه.. فإذا توافرت مثل هذه الصفات تكون المسألة إلى الصواب والترشيد أقرب بإذن الله.

البيان: هناك مصطلح بدأ يأخذ حيزاً وهو الفتوى السياسية.. كيف تنظرون إلى هذا المصطلح في بعدين (سيادة الشريعة) و(سيادة السلطة السياسية)؟

لا شك في أن الإسلام كما جاء بالعبادات جاء لتنظيم شؤون الناس، ومنها قضايا الحكم والحقوق المترتبة على ذلك، وللأسف حصل انفصال بين العلم الشرعي والسلطة السياسية، وهذا الانفصال حصل في بدايات الدولة الأموية، ويحيله ابن خلدون إلى أن السلطان يلاحظ المتغيرات والعالِم يهتم بالقواعد الثابتة التي تنتج الحكم الشرعي، ومن ثم مع توالي الأيام والمستجدات يجد السلطان نفسه غير قادر على تطبيق ما يقوله العالم وأيضاً يدخل فيها الهوى وحب الشهوات.

والإمام ابن القيم - رحمه الله - في الطرق الحكمية، وابن خلدون - رحمه الله - في المقدمة؛ يحمّلان العلماء شيئاً من التقصير في هذا الباب؛ إذ قلَّ المجتهدون، وكثر التقليد، ووجد بعض أهل الصلاح من أصحاب السلطة أنهم لا يستطيعون تطبيق الفتوى بتمامها من العالم فيما يخص شؤون إدارة الدولة.

هذه هي اجتهادات ابن خلدون وابن القيم في أسباب الفصل بين العلم الشرعي والسلطة الحاكمة.

وفي العصر الأموي والعباسي والعثماني لم يكن هناك انفصال تام، بل كان القضاء شرعياً 100%، لكن شؤون الحاكم في الحرب والسلم وغيرهما تعتريها بعض الاجتهادات الفردية البعيدة عن صوت العلماء وآرائهم.

لكن بعد مجيء النظم العلمانية إثر سقوط الخلافة العثمانية، حصل انفصال تام بين العلم الشرعي المتمثل في العلماء، وبين السلطة السياسية، حتى القضاء أصبح يخضع لكثير من القوانين الوضعية وابتعد عن الشريعة وأحكامها، فازدادت المفاصلة.

والذي ينبغي على العلماء في هذا الجانب هو تقديم النصح لولاة الأمور وفق أحكام الشريعة، وأيضاً تبصير العامة بكيفية اتخاذ موقف مما يدور في الساحة السياسية يكون مطابقاً للمنظور الشرعي.

إن الفتاوى التي تتعلق بالجوانب السياسية والاقتصادية وكل ما له مساس بحال البلد، أشبه ما تكون بالمعاهدة، ولها مزية تستدعي من الفقيه أن يحيط بارتباطاتها السياسية والاقتصادية والأمنية، وعليه مراعاة بعض الضوابط والإجراءات، منها: عمق النظر في النصوص أو المصالح المتعلقة بها، ومن ثمّ دقة الحكم لما لها من مآلات في المجتمع وارتباط مباشر بأحوال شرائحه، وبعضها له ارتباطات مع الدول الأخرى.

وكذلك إذا وجد العالم من المصلحة العليا أن يلزم الناس بفتوى واحدة في مجالٍ ما؛ مثل فتوى الإمام أبي حنيفة في زكاة جميع المحاصيل الزراعية؛ فهذه يلجأ إليها العلماء إذا تفشى الجوع واحتاج أهل البلد إلى الطعام وفيهم فقراء.. وهكذا، وكذلك في مجال الاقتصاد وتصدير البضائع وغيرها.

والملخص في هذه الحالة أن الفتوى إذا وافقت مراد السلطة السياسية ولم تصطدم بحكم شرعي قطعي الدلالة والثبوت وفيها تحصين لمصالح البلاد والعباد؛ ينبغي أن تؤخذ في الحسبان والله أعلم.

البيان: في ظل صراع الإرادات في العراق، ما دور العلماء في الساحة العراقية؟

في البداية، سجل التاريخ عبر مراحله المختلفة أن طبقة العلماء هم أكثر الناس صلابة في المحن وثباتاً أمام الباطل، وهذا من فضل الله ونعمته. أما ما يتعلق بموضوع العراق، فقد شهدت الساحة العراقية نشاطاً مباركاً لأهل العلم من حيث الدروس والوعظ والإرشاد والقيادة وتثبيت الناس في النوازل، وكان آخرها قيادة الجماهير في رفضها للظلم ورفع الصوت عالياً بردّ المظالم إلى أهلها بشكل سلمي حضاري نال إعجاب القاصي والداني على حد سواء.

ولا يزالون حتى الآن يرابطون في بلدهم، ويقدمون أوقاتهم وأرواحهم ثمناً لكلمة الحق، ونسأل الله أن يجزي جميع العاملين لنصرة دينه خير الجزاء.

البيان: في ظل الصعود السياسي للحركات الإسلامية، كيف تقيّمون هذه الظاهرة وما تواجهها من تحديات؟

بعد الربيع العربي وإن لم تكتمل صورته في بعض البلدان، وبعد أن تسلم بعض الحركات الإسلامية زمام إدارة الدولة؛ فإنها وجدت من التعنت والتبعات والفساد الشيء الكثير وفوق احتمالها في كثير من الأحيان، فضلاً عن وجود المتربصين والمناوئين لها حتى داخل منظومة الحكم.

لذا؛ نرى أن تكون هذه الحركات بعيدة عن المناكفات السياسية، ومنهجها في ذلك أن تكثف من نشاطها الدعوي والخدمي بين الناس، وأن تسهم في إصلاح المنظومة للدولة بشكل متدرج وحكيم ومن غير تصدّر، حتى تؤتي العملية أُكلها وبشكل انسيابي من غير تصادم أو حدوث أزمات قد لا تحمد عقباها.

وفي الوقت نفسه، نرى أن تطور المشهد السياسي يستلزم عملية مراجعة من قبل تلك الحركات الإسلامية في طريقة اندماجها بالمجتمع، وكيفية المشاركة مع الجميع، مع بقاء الخصوصية الفكرية والعقائدية التي تميزهم عن المناهج الأخرى.

البيان: في ضوء هذه المعطيات ما طبيعة العلاقة بين العلماء والحكام؟

هناك منهجان معروفان في التاريخ؛ أولهما منهج المواجهة الذي يمثله سعيد بن جبير وأحمد بن نصر الخزاعي، وهناك منهج ثان هو المداراة {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: ٤٤].

وفي الحقيقة مطلوب أن يتكامل العنصران اللين مع المواجهة، فالحاكم يحتاج إلى الصوت العالي لردعه عن الظلم، وكذلك كي يعلم جمهور الناس أن الاعتراض على الحاكم حين يخطئ أمر لا بد منه شرعاً. وأما اللين مع الحكام فمطلوب، شريطة أن ينضبط بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتذكير بمصالح المسلمين والابتعاد عن زخارف الدنيا، فذلك أطهر للنفس وأقرب لمرضاة الله عز وجل.

البيان: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما ينتزع العلم بقبض العلماء»، ويرى بعضهم أن الأمة تعيش أزمة قيادة.. كيف يمكن صناعة القيادة الفقهية؟

فعلاً هذه الأزمة موجودة، والقيادة الفقهية تحتاج إلى الدراية بالعلوم الشرعية والدراية بواقع المجتمعات وأحوال الناس، فهذا مهم أيضاً للقائد الفقيه.

ومن جملة مشاريع المجمع الفقهي العراقي إنشاء مدارس ومعهد للعلوم الشرعية، وعمل دورات مكثفة تقوم بتدريس أمهات الكتب في اللغة والفقه والأصول ومصطلح الحديث وغيرها.

ومما يدل على هذا التوجه هو الحرص الكبير من الأئمة والخطباء على دراسة الخطاب الإعلامي، وذلك لمساسه بالواقع الذي نعيشه وتأثيره الشديد على توجيه الرأي العام.

ورغم البرامج والمشاريع المستقبلية التي يعتمدها المجمع، إلا أننا نرحب بأي فكرة أو نصيحة أو رأي يسهم في صناعة التفوق للمشاريع العلمية والدعوية التي يسعى المجمع إلى إقامتها.

البيان: في ظل الاستهداف الحكومي لمكون أهل السنة والجماعة، لا سيما في محافظة الأنبار، كيف تقيّمون المشهد؟ وما سبل النجاة؟

إن المجمع الفقهي العراقي تفاعل مع قضايا أهل السنة في باكورة انطلاقته، وكان حاضراً في الأزمات التي عصفت بالبلاد، لا سيما منذ انطلاق الحراك الشعبي السني وانتفاضة المحافظات الست، حتى بعد حصول المواجهات، فإن المجمع وضع خريطة طريق لتجاوز هذه الأزمات، ومنها: تشكيل مجلس للحكماء من العلماء وقادة الحراك وزعماء العشائر والنخب في محافظة الأنبار، وأن يخرج الجيش من مدن المحافظة ويوقف قصف المناطق فوراً بلا استثناء، وتتولى العشائر مع الشرطة المحلية من أبناء المحافظة إدارة الملف الأمني في المحافظة، وأن تسارع الحكومة لتلبية مطالب المعتصمين التي تمثل حقوقاً مشروعة لإنصاف أهل السنة واستقرار العراق.

كما علينا ألا نغفل عن ضرورة تحمّل الدول العربية والإسلامية مسؤولياتها في نصرة إخوانهم بالعراق؛ لأن شرر الفتنة سيصيب الدول العربية بلا استثناء.

وأخيراً، فإن علينا ألا ننسى في هذه المحن وظيفة الدعاء واللجوء إلى الله في الشدائد، لا سيما لمن فقد الوسيلة، استجابة لقوله تعالى: {أَمَّن يُجِيبُ الْـمُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62].

:: مجلة البيان العدد  322 جمادى الآخرة 1435هـ، إبريل  2014م.