الحكمة
الخالدة فلسفةٌ باطنيةٌ تذهب إلى أن كل التقاليد الدينية على مرّ العصور
مظاهر مختلفة لحقيقة واحدة، وأن المعارف الدينية على اختلافها مستمدَّةٌ من جوهر
واحد أو «دينٍ خالد» Religio
Perennis؛ فكل الأديان، بغضّ النظر
عن سياقها الثقافي أو التاريخي، مجرد تفاسير أخرى لهذه
الحقيقة الكلية المشتركة، كما أن اختلاف الكتب المقدسة لهذه الأديان وتعارضها،
مردُّه إلى أن كل دين صيغ بشكل مختلف ليتناسب مع الاحتياجات
الاجتماعية والعقلية والروحية للعصر الذي ظهر فيه، ما يجعل اختلافات
الأديان عند أتباع هذه الفلسفة بمنزلة قشور (ظاهر) يمكن أن تنحى
للوصول إلى اللباب (الباطن).
أول
من ابتدع عبارة «الحكمة الخالدة» أو «الفلسفة الخالدة» الكاثوليكي الأفلاطوني
«أغوسطينو ستيوكو»، وكان أميناً لمكتبة الفاتيكان، وألف كتاباً بعنوان «في الفلسفة
الخالدة» عام 1540م وأهداه للبابا بولس الثالث. وقد اكتسب هذا المصطلح شيوعه في
العصر الحديث بعد صدور كتاب الفيلسوف ألدوس هَكسْلي عام 1945م بعنوان «الفلسفة
الخالدة» The
Perennial Philosophy. وأشهر المدارس
الفكرية القائمة على هذه الفلسفة الباطنية «المدرسة الإرثوية» التي تمثلها
كتابات كثير من مفكري القرن العشرين من أمثال رينيه جينو، ومارتن لينجز،
والإيراني سيد حسين نصر.
سُميت
المدرسة الإرثوية Traditionalism بهذا الاسم نسبة إلى ما تدَّعيه من وجود «إرث» مشترك بين جميع
الأديان، الهندوسية والبوذية واليهودية والنصرانية والإسلام.. وغيرها، هذا الإرث
المشترك أشبه ما يكون بمركز الدائرة، وكل الأديان تقف على محيطها، بينما يصلها في
المركز نصف القطر الذي يعبِّر عن منهجها الخاص الذي به تبلغ المركز. فالمسلم – عند
هؤلاء – ليس أسعد حظاً بالحق من الهندوسي عابد البقر، فكلا الدينَين تعبير عن
الحقيقة الكلية عينها.
تعود
أفكار المدرسة الإرثوية إلى الفيلسوف الفرنسي الباطني «رينيه جينو» René Guénon الذي ولد في
فرنسا عام 1886م ونشأ في بيئة كاثوليكية متدينة، وتربى على يد التنظيم اليسوعي. في
عام 1909م أسَّس جينو مجلة «الغنوص» أو «العرفان» La Gnose الباطنية. وفي
عام 1911م اعتنق الطريقة الشاذلية على يد الباطني السويدي الماسوني «إيفان أجويلي»
Ivan Aguéli أو «الشيخ عبد
الهادي عقيلي» كما كان يُدعى، وهو من المنافحين عن ابن عربي الصوفي. بعدها بعام
واحد تلقى «جينو» الطقوس الماسونية لينتمي إلى محفل Thébah التابع للمحفل
الماسوني الفرنسي الأعظم. وفي عام 1924م ألَّف كتابه «الشرق والغرب» الذي دعا فيه
إلى إنقاذ العالم الغربي عن طريق إحياء الباطنية الهندوسية[1].
في
عام 1930م انتقل «جينو» إلى القاهرة وهناك تزوج من ابنة أحد شيوخ الصوفية وأصبح
يُعرف بـ «عبد الأحد يحيى»، لكنه بعد ذلك أسَّس مع بعض رفاقه محفلاً ماسونياً في
فرنسا يحمل اسم أحد كتبه «الثالوث العظيم» La Grande Triade، وهو كتاب يبحث
في كيفية الدخول في الطقوس الماسونية[2].. توفي «جينو» عام 1951م ليصبح عند بعضهم عَلماً من أعلام
الإسلام!
من
أشهر تلاميذ «جينو» الباطنيُّ السويسري المتهتك «فريتيوف شوان»، الذي التحق
بالطريقة العليوية وشيخها «أحمد بن عليوة» المعروف بسوء أدبه مع النبي صلى الله
عليه وسلم وشطحاته الحلولية. ولما مات شيخه غلبت عليه نزعته النصرانية، فأسَّس
الطريقة المريمية نسبة إلى مريم عليها السلام بعد أن رأى – قبَّحه الله – رؤى لا
يليق ذكرها. وأتباع هذه الطريقة ليسوا من المسلمين فحسب، بل من اليهود والنصارى
والهندوس.. وغيرهم.
تتلمذ
على يد هذا الزنديقِ الكاتبُ الإنجليزي «مارتن لينجز» صاحب الكتاب الشهير «حياة
محمد صلى الله عليه وسلم وفقاً للمصادر القديمة». يقول هذا المريمي في كتابه
«الساعة الحادية عشرة»: (مملكة السماء في داخلك. هذه الحقيقة هي أساس الباطنية،
علم ودراسة الباطن، وهمة الباطني تتجاوز الخلاص إلى التقديس، الذي هو في أسمى
معانيه تأليه، أي الاتحاد (أو «اليوجا» عند الهندوس) بالكمال المطلق للذات
الإلهية. إن فناء النسبة كلِّها هو «نيرفانا» البوذية؛ وفي التصوف الإسلامي القول
بأن «الصوفي غير مخلوق» يشهد للحقيقة المطلقة ذاتها)[3].
ويقول
في موضع آخر: «لكن الحقيقة تفرض نفسها، فلا شيء دون عقيدة الـ «سمسارا»[4] الكاملةِ قادرٌ على تقديم مفهوم
للكون يفي بمطالب العاقل المتدبر باعتبارها أساساً رمزياً للتأمل في الإلهي
المطلق»[5].
وكأنه لم يقرأ قول المولى جلَّ ثناؤه: {إنَّ
فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ
لأُوْلِي الأَلْبَابِ 190 الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا
وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ
النَّارِ}
[آل عمران:
190 -
191].
أما أغناه ذلك حتى جاءنا بوثنية الهنادكة والبوذيين يقدمها على وحي رب العالمين؟!
هذا
غيض مما قاله هذا الرجل الذي هو عند كثير من المسلمين من أعلام الدعوة في
بريطانيا، ناهيك عن الطوام التي أوردها في كتابه «حياة محمد صلى الله عليه وسلم»،
وليس هذا موضع بسطها؛ وإنما أردت أن أحذر من فكره الذي استقاه من شيخه الكاثوليكي
الباطني «فريتيوف شوان» ومن ضُلّال الطرق الصوفية.
هذه
الوثنية التي يدعونها «حقيقة» هي الدين الخالد عند أتباع الحركة الإرثوية، والوصول
إليها يكون من أي طريق، سواء كان بتأملات البوذيين أو بـ «يوجا» الهنادكة أو بطقوس
الماسون. وهو مذهب يطوف بالحلول والاتحاد، ويتجاوز عند كثير منهم إلى تناسخ
الأرواح، فلا غرو أن يكون ابن عربي صاحب الفصوص من أئمتهم.
ومن
مشاهير أتباع المدرسة الإرثوية «روجيه جارودي» الذي أبدى حماسه الشديد لكتابات
«جينو» في حوار مع الفيلسوف «آلان دي بينوا»[6]. ومحاولاته لتوحيد الأديان وصهرها في
قالب «الأديان الإبراهيمية» أشهر من أن تذكر. وقد وصفه الشيخ بكر أبو زيد في كتابه
«الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان» بقوله «النصراني المتلصص
إلى الإسلام». يؤيد هذا ما ذهب إليه الكاتب السياسي الأمريكي «روبرت دريفوس» في
كتابه «رهينة الخميني» (ص 211 - 212)، إذ يقول: «المنظِّر الفرنسي ذو الارتباط
اليسوعي «روجيه جارودي»... شخصية مهمة في عمليات المخابرات البريطانية... وهو منظر
سابق للحزب الشيوعي، اعتنق الكاثوليكية الرومية من خلال تأثير «بير ليبريه» Père Lebret اليسوعي المختص
في [كيفية] الإبقاء على البناء الاجتماعي الإفريقي على أساس من السحر القَبَلي»[7].
لكن
كتابات جارودي رغم شهرتها، لم تعد فاعلة كما كانت في القرن العشرين، بيد أن شخصية
بارزة تقوم بالدور ذاته بصورة ألطف بعض الشيء، ألا وهي الكاتبة الإنجليزية «كارين
آرمسترونج». «كارين آرمسترونج» واحدة من أخطر الكتَّاب الذين يسعون إلى توحيد
الأديان بناءً على عقيدة الإرثوية أو الدين الخالد. والفرق بينها وبين من سبق ممن
ذكرت هو أنها لم تعتنق الإسلام كما صنعوا، لكنها تظهر في المؤتمرات والوثائقيات
وكأنها تمثل أهل الإسلام، حتى ظن بعض البسطاء أنها قاب قوسين أو أدنى من دخول
الإسلام، علماً أنها راهبة كاثوليكية سابقة في «جمعية الطفل المقدس يسوع»
اليسوعية، تخلت عن الكاثوليكية – على حدِّ زعمها – لكنها لم تعتنق غيرها.
أما
فكرها الإرثوي فبيِّنٌ لمن قرأ كتابها «The Case for God»، فهي تزعم فيه
أن البشر لم يكونوا يعبدون إلهاً موصوفاً بصفات، وإنما كانوا يعبدون وجوداً مطلقاً
حتى ظهر الآريون في الهند في القرن العاشر قبل الميلاد فعبَّروا عن هذا المعبود
باسم «براهمن»، الوجود المطلق[8]؛ ولذا فهي تمجِّد غلاة الصوفية بقولها: «إن الفرع الباطني من
الإسلام، أعني الصوفية، حرص دائماً على القول بأنك عندما تكون في حضرة الله فأنت
لست بيهودي ولا نصراني ولا مسلم، ولا يضيرك أكنت في بِيعَة أم مسجد أم هيكل أم
كنيسة؛ فكل الأديان المهدية إنما تأتي من الله، فإذا أبصر المتأله الإله، نبذ هذه
الفروق التي صنعها البشر وراء ظهره»[9].
وأما
عن موقفها من الإسلام فهو كموقف غيرها من المستشرقين، فهي تقول في كتابها «تاريخ
الرب» – الذي ترجم إلى العربية تحت عنوان «الله والإنسان» – بعد حديثها عن ذكر
القرآن لأنبياء بني إسرائيل: «إن المسلمين اليوم يصرون على أن محمداً صلى الله
عليه وسلم لو كان يعلم عن الهندوس والبوذيين لأضاف [قصص] زعمائهم»[10]، فهي لم تكتفِ بزعمها أن القرآن من
تأليف النبي صلى الله عليه وسلم، بل جعلت كفرة الباطنيين من زعماء الهندوس
والبوذيين في مقام الأنبياء والمرسلين. وتقول في موضع آخر: «من لطفاء اليهود في المدينة،
تعلم محمد صلى الله عليه وسلم قصة إسماعيل»[11]. ولا أدري من أيهما أعجب: من لطف
اليهود أم من تعليمهم سيد البشر صلى الله عليه وسلم؟
وقد
طرحت هذه الكاتبة مبادرة عالمية أسمتها «ميثاق التراحم» Charter for Compassion تستهلها بقولها: «يقع مبدأ التراحم في صميم ما توارثه البشر من
تقاليد دينية وأخلاقية وروحية». فهي تسعى إلى توحيد الأديان عن طريق ما يسمى
«المشترك الإنساني» الذي لا يعدو كونه ذريعةً لمروِّجي عقيدة الفلسفة الخالدة. مثل
هذا ترجمتهم لـ «كلمةٍ سواء» الواردة في سورة آل عمران (64) بـ Common Word وتعني «كلمة
مشتركة»؛ مع أن المعنى المقصود في الآية كلمة عَدل هي البراءة من الشرك.
وقد
رأيت مؤخراً كتاباً متهافتاً لأحد المنتسبين إلى العربية يزعم فيه أن «براهما» إله
الهندوس هو في الحقيقة «إبراهيم» عليه السلام؛ بل أسفار الـ «فيدا» الهندوسية هي
صحف إبراهيم عليه السلام، ليبرر بذلك مصطلح «الأديان الإبراهيمية» الباطل. وهو لم
يأتِ بهذا القول من تلقاء نفسه، إنما استقاه من بعض الكتاب الغربيين، لكنه بقصد أو
بغير قصد لم يبتعد كثيراً عن مذهب «رينيه جينو» الذي رأى في الهندوسية منبعَ الدين
الخالد الذي هو بزعمه مَعِين الأديان.
ختاماً؛ أردت
من هذه النبذة الوجيزة أن أبصِّر المسلمين من دعاة وطلاب علم ومفكرين ببعض العقائد
الباطنية التي يُروَّج لها بغير اسمها، وبعض الشخصيات التي أُعليت وحقها السُّفل،
وهو موضوع غاية في الأهمية ينبغي لطلاب العلم أن يطرقوه فيبيِّنوا ما فيه من باطل؛
حفظاً لجناب التوحيد، وفضحاً لمن حارب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
:: مجلة البيان العدد 301 رمضان 1433هـ، أغسطس 2012م.
[1] Mark
Sedgwick, Against the Modern World (Oxford University Press, 2004), pp.
[2] Against the Modern
World,
p. 121.
[3] Martin Lings, The Eleventh Hour, 10.
[4] سمسارا هي عقيدة
شرقية تقول بالميلاد المتكرر وتناسخ الأرواح.
[5] Martin Lings, The Eleventh Hour, 27, 28.
[6] Against the Modern
World,
p. 337.
[7] Robert Dreyfuss, Hostage to Khomeini, pp. 211, 212.
[8] Karen
Armstrong, The Case for God (Vintage,
2010), p. 21.
[9] في حوار أجراه
معها الصحفي الأمريكي «بِل مويَرز» تجده على هذا الرابط:
http://www.pbs.org/now/transcript/transcript_armstrong.html .
[10] Karen
Armstrong, A History of God (Vintage,
1999), p. 178.
[11] A History of God, p. 180