يعتبر النظام القبلي من أبرز العوامل التي أثرت في تشكيل الحياة السياسية في ليبيا، وتُعَد القبيلة عنصراً أساسياً من مكونات المجتمع الليبي. ويؤكد سنوسي الفكري (صاحب كتاب «النظام السياسي الليبي») على أن «الولاء القبلي يلعب دوراً كبيراً في النظام السياسي الليبي»، وقد استشرى النفوذ القبلي في العملية السياسية، وإن كان بشكل غير رسمي في المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية، من خلال عمليات التصعيد والاختيار الشعبي منذ عام 1977م. وقد تم تعريفها بأنها «المظلة الوطنية الرئيسية» لجميع القوى داخل ليبيا، مع التركيز عملياً على القيادات القبلية في كل منطقة، ومع خلق قيادة شعبية اجتماعية تغطي المنطقة اجتماعياً وجغرافياً[1].

وقد لعب القذافي خلال فترة حكمه على هذا العنصر لتثبيت أركانه من خلال تقريب قبائل ذات ثقل معيَّن من حاشيته وإغداق العطايا عليهم لضمان ولائهم له[2]؛ فقد أشارت الوثائق الدبلوماسية التي نشرها موقع «ويكيليكس» إلى أن القذافي «مخطط محترف تمكن من السيطرة على بلاده وقبائلها المتعددة لمدة أربعة عقود من خلال التحكم بنجاح بجميع المحيطين به»[3].

وفي دولة تعيش منذ نحو أربعة عقود من دون دستور وفي قبضة رجل واحد - تقريباً - هو معمر القذافي الذي ينتمي لقبيلة القذاذفة، اعتمد غالبية الليبيين على قبائلهم لإيجاد الحماية وتحصيل الحقوق، والحصول على وظيفة في أجهزة الدولة، كلٌّ حسب قوة قبيلته أو درجة قربه أو ولائه للنظام الحاكم.

ولا بد في البداية من تشريح التركيبة السكانية للشعب الليبي قبل الخوض في المسألة؛ حيث تتوزع هذه القبائل في ليبيا على الشكل التالي[4]:

قبيلة الورفلة: وتُعَد أكبر القبائل الليبية عدداً وانتشاراً جغرافياً ويبلغ عدد سكانها نحو مليون نسمة، وتتميز علاقات أفرادها بترابط اجتماعي وولاء قَبَلي متين وتتركز - خاصة - في غرب ليبيا.

قبيلة القذاذفة: وهي القبيلة الأساسية المهيمنة على السلطة في ليبيا ومنها ينحدر معمر القذافي، ومركزها الرئيسي في منطقة سبها وسط ليبيا التي يفوق عدد سكانها 126 ألف نسمة، وتُعَد من أكثر القبائل تسليحاً.

قبيلة المقارحة: وهي ثالث أهم قبيلة في ليبيا وتتركز في المنطقة الغربية.

وإلى جانب القذاذفة والورفلة والمقارحة، يوجد كثير من القبائل الأخرى من الأقل عدداً وتأثيراً على غرار قبائل الطوارق في الجنوب، وكذلك قبيلة الزنتان[5].

القبلية عامل استقرار أم عامل اضطراب؟

ومنذ أربعة عقود من حكم القذافي يوجد فراغ سياسي في ليبيا وليس بها أحزاب أو نقابات، وبالطبع ستواجه ليبيا مرحلة صعبة بعد نظام القذافي، ولكن هل ستكون القبيلة عامل استقرار أم عامل اضطراب في ليبيا في ظل السعي نحو حكم ديمقراطي في البلاد؟

إذا كان القول الفصل للنخبة السياسية والعسكرية القوية في تحديد مصير الثورة في كلٍّ من مصر وتونس، فإن الوضع مختلف في ليبيا؛ حيث التركيبة القبلية هي التي يمكن أن يكون بيدها تحديد مآل الأحداث هناك[6].

وتؤكد (عاليا براهيمي) رئيسة برنامج شمال إفريقية في كلية لندن للاقتصاد على أنه «في ليبيا النظام القبلي هو الذي سيكون في يده توازن القوى وليس الجيش»[7]. ويستبعد عدد كبير من المحللين تقسيم ليبيا إلى دويلات أو إلى شطرين، ولكن من المتوقع أن يحدث فراغ سياسي بعد سقوط القذافي الكامل وهنا يأتي دور زعماء القبائل والعشائر الذين سيتولون الإمساك بزمام الأمور في فترة انتقالية، قد تشوبها حالة من الفوضى السياسية؛ وخاصة أن القذافي قد «عمل خلال فترة حكمه على حظر الأحزاب ومنع جميع المنظمات والجمعيات المستقلة عن الحكومة»[8].

ومستقبل ليبيا قد تحدده «حقبة ما بعد القذافي والقوى السياسية التي ستظهر على الساحة السياسية الليبية، وقد تنجح هذه القوى في إيجاد منظومة توافقية بين مختلف القبائل والمصالح بطريقة تضمن توزيعاً عادلاً للثروات في البلاد؛ وخاصة منها عائدات النفط، وبطريقة تمثل مختلف فئات المجتمع الليبي، وتحول دون أن تستولي أقلية على السلطة والثروات في البلاد». وقد يشكل هذا السيناريو المبني على «الأساس العشائري القبلي» البديل لنظام القذافي. وقد يشكل ذلك بديلاً لفترة انتقالية تمهد لتأسيس دولة لا تقوم على أساس «الرابط العشائري».

وليس بالضرورة تأكيد المؤشرات التي تقول بحدوث حرب أهلية؛ حيث ظهر توافق شديد بين مختلف القبائل والعشائر داخل ليبيا. ومن الواضح أن هناك رؤية واضحة منسَّقة بين هذه القبائل لإسقاط نظام القذافي وللإبقاء على وحدة التراب الليبي من خلال الأسس العشائرية الموجودة في هذا المجتمع، وهو ليس على شفا حرب أهلية.

وقد تشهد ليبيا مرحلة فوضوية ولكنها ليست حرباً أهلية بأي شكل من الأشكال[9]. ويرى برهان غليون[10] أن نظام القذافي هو مَن خلق حالة الفوضى وأطلق فزَّاعة الانقسام القبلي؛ بهدف مواصلة سيطرته على الشعب الليبي. وقال: إن غياب أحزاب في ليبيا، ربما يجعل مهمة الشعب الليبي صعبة قياساً لحالتي تونس ومصر، ولكنه سيتمكن بفضل نُخَبه وقياداته من القيام بها.

وفكر القبيلة لا يعني بالضرورة العداء والتعارض مع الدولة؛ فالقبائل تتفاهم وتتعاقد على قيام الدولة، ويرى غليون أن الليبيين قادرون بفضل نخبهم الواعية، وبفضل التعاون مع زعماء القبائل والعشائر أن يقودوا جميعاً حملة بناء مؤسسات الدولة، وَفْق معادلة تفاهم وتعاقد، يتم في إطارها تلبية مطالب العشائر والقبائل وهي تتلخص في تحقيق التنمية والعدالة وتوفير الخدمات ومرافق الصحة والتعليم ورفع مستوى معيشة أبناء القبائل، وهم لا يطالبون بتولي الحكم. وقد انتهى العصر القبلي، وما يتردد هو مجرد فزَّاعة تم تضخيمها للتستر على الكارثة الاجتماعية التي ارتكبها القذافي في حق بلده لأنه نظام أفرغ الدولة من كل مضمون[11].

وفي ليبيا يمكن للجيش أن يلعب دوراً مع بقية أطراف المجتمع والقوى السياسية والقبلية، من أجل إعادة بناء الدولة. وهذه مهمة لن يجد الشعب صعوبة في تحقيقها طالما هو متماسك وموحد حول رفضه لحالة الفوضى التي كانت الهدف والشرط الأساسي من أجل استمرار حكم القذافي وعائلته.


 

 


[1] راجع رولا الخطيب في تحليلها على موقع قناة العربية على الرابط التالي:

http://www.alarabiya.net/articles/2011/02/22/138673.html

[2] للمزيد راجع عوض يوسف الحداد: البعد الجغرافي للفساد في ليبيا، الشركة العربية المتحدة، ط1، 2011 م. 

[3] راجع الخبر على موقع روسيا اليوم على الرابط التالي:

http://forum.rtarabic.com/showthread.php?t=86442

[4] للمزيد راجع محمود السيد : تاريخ دول المغرب العربي «ليبيا - تونس – الجزائر» مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية، ط1، 2010 م

[5] للمزيد راجع يحيى مرسي عيد: دراسات أنثروبولوجية في المجتمع الليبي، دار الوفاء لدنيا الطباعة ، ط1، 2010م. 

[6] للمزيد راجع المولدي الأحمر: الجذور الاجتماعية للدولة الحديثة في ليبيا: الفرد والمجموعة والبناء الزعامي للظاهرة السياسية، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 2009م. 

[7] راجع التقرير على موقع قناة العربية على الرابط التالي:

   http://www.alarabiya.net/articles/2011/02/23/138922.html 

[8] راجع شمس العياري مصير القذافي رهن بتوافق القبائل الليبية ، على الرابط التالي:

http://www.masrawy.com/News/Writers/General/2011/March/1/kazafidw.aspx

[9] راجع آراء الدكتور زياد عقل على موقع دويتشه فيله على الرابط التالي:

http://www.dw-world.de/dw/article/0,,14861024,00.html

[10] مفكر عربي وأستاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة السوربون في باريس. 

[11] راجع التقرير على موقع دويتشه فيله على الرابط التالي:

http://www.dw-world.de/dw/article/9799/0,,14859007,00.html