العراق إذ يصدر الثورة إلى إيران

العراق إذ يصدر الثورة إلى إيران


قبل 40 عاماً نزل الخميني مطـار طهران عائداً من باريس مدشناً بذلك حقبة جديدة في تاريخ الدولة الإيرانية، عاد قائداً ثورياً زاعماً بأن ثورتـه لن تقف عند حدود بلاده فقط؛ بل ستمتد للدفـاع عن المظلومين في أنحاء الكرة الأرضية حيث يقيم الولي الفقيه العدل في الأرض.

لم تكن تصريحات الخميني مجرد شعارات لدغدغة المشاعر بل صارت نهجاً تأسيسياً للدولة الشيعية الوليدة؛ ففي ديباجة الدستور الإيراني: «... وبالنظر إلى محتوى الثورة الإسلامية في إيران، والتي كانت حركة تهدف إلى نصرة المستضعفين على المستكبرين؛ فإن الدستور يعد الظروف لاستمرارية هذه الثورة داخل البلاد وخارجها».

وسار تلامذة الخميني على نهجه من بعده، يقول خامنئي: «أول درس تعلمناه من الثورة الإسلامية ونظام الجمهورية الإسلامية هو أن علينا أن تكون نظرتنا أبعد من الشعب الإيراني كي تصل إلى الأمة الإسلامية».

كانت لبنان أولى ضحايا النهـج الجـديد فسارعت طهران بإنشاء أول ذراع عسكري في دولة عربية؛ وهو حزب الله الذي ارتهن الحياة السياسية في لبنان لصلاحه؛ فهو الفصيل الوحيد في لبنان الذي يمتلك قوة مسلحة خارج نطاق الدولة، وهو مع ذلك لا يخفي علاقته بطهران ويصرح بشكل مباشر أنه تابع للولي الفقيه في إيران.

أعقبت لبنانَ دولةُ العراق بعد الاحتلال الأمريكي لها عام 2003م، وهو الذي سلم بغداد على طبق من فضة لدولة الولي الفقيه التي أنشأت ذراعها العسكري التالي وهو ميليشيا الحشد الشعبي، ثم تسارعت الأحداث في المنطقة فاستغلت إيران الفرصة في سوريا فدعمت الطاغية بشار الأسد بالمال والرجال، وساندت ميليشيا الحوثي في اليمن، وصار قادة طهران يتفاخرون أن العواصم العربية تتساقط في أيديهم واحدة تلو الأخرى.

ففي تصريح لـ (حيدر مصلحي) وزير الاستخبارات الإيراني الأسبق يقول: «إن إيران تسيطر فعلاً على أربع عواصم عربية... فالثورة الإيرانية لا تعرف الحدود وهي لكل الشيعة... وجماعة الحوثيين في اليمن هي إحدى نتاجات الثورة الإيرانية».

وكذلك قال الجنـرال (حسين سلامي) نائب قائد الحرس الثوري الإيراني: «إن المسؤولين في إيران لم يكونوا يتوقعون هذا الانتشار السريع لـ (الثـورة الإسلامية) خارج الحدود لتمتد من العراق إلى سوريا ولبنان والبحرين واليمن وأفغانستان»، حسبما نقلت عنه وكالة (مهر) للأنباء. وفي هذا السياق كانت تصريحات مستشار الرئيس الإيراني لشؤون الأقليات (علي يونسي) التي اعتبر فيها العراق «عاصمة لإمبراطورية إيران الجديدة» على حدِّ وصفه. إنها أحلام نظام الملالي باسترجاع إمبراطوريتهم الفارسية والانتقام من العرب واحتلالهم عواصمهم.

عُمْر الثورة الخمينية في أعمار الشعوب ليس بشيء؛ ففي روسيا لم تستطع الشيوعية أن تصمد أكثر من 70 عاماً لأنها قامت على المبدأ نفسه؛ تصدير الثورة وقمع الشعوب وتردِّي الأوضاع المعيشية، فانفجر الاتحاد السوفييتي من الداخل وانتهت حقبة الدولة المركزية القمعية، وسقطت كل أدوات الحزب الشيوعي وأجهزته الأمنية والمخابراتية وإن كان البعض يريد أن يُسنِد سقوط الشيوعية للدور الغربي، إلا أن الحقيقة هي أن نشر الخوف والذعر بين الناس واحتكار السلطة والثورة هي وصفة جاهزة للسقوط وعدم القدرة على الاستمرار مثل منسأة أكلتها دابة الأرض.

ومن حيث انطلقت أذرع إيران الخارجيـة تعـاود السقوط مرة أخرى؛ فلبنان الدولة الطائفية المنقسمة سياسيّاً بين سنة وشيعة ودروز ونصارى... إلخ، وهو ما يجعل فكرة الثورة والتوحد الشعبي حول فكرة أو مبدأ سياسي أمراً عصيّاً على الحدوث، لكن اللبنانيين خرجوا جميعهم في مطلب واحد هو سقوط المحاصصة الطائفية، وكأن المعنى المقصود هو سقوط حزب الله، لذلك فلا عجب أن تخـرج خطابات (نصر الله) زعيـم الحزب تستنكر الحَراك وتؤيد بقاء الحكومة وتحذِّر من حرب طائفية فيقول بعبارة صريحة: «لا نقبل بإسقاط العهد ولا نقبل باستقالة الحكومة ولا نقبل في ظل هذه الأوضاع بإجراء انتخابات برلمانية مبكرة». وخرج رجاله في مسيرات بالعاصمة بيروت يرددون شعارات مؤيدة لخطابه، محاولين تفريق المتظاهرين! لقد أدرك حسن نصر الله أن الشعب قد ضاق به ذرعاً سنةً وشيعةً فخرج يتهددهم، لقد صار شعار الثورة اللبنانية الأشهر «كلن يعني كلن» يعني (جميعكم تعني جميعكم)، والعرب تقول في المجاز «أطلق الكل وأراد البعض»، وكأن الشعار موجَّه لحزب الله وحدَه، لذلك فهو أكثرهم تألُّـماً من استخدامه وخوفاً من تحقُّقه على أرض الواقع.

لم يكن لبنان وحده على موعد مع الثورة؛ فالعراقيون خرجوا يعبِّرون عن غضبهم وضيقهم من الفساد والظلم والاحتلال الإيراني لوطنهم لكنهم كانوا أصدق لهجة في التعبير عن رفضهم للتدخل الإيراني في بلادهم، فحرقوا الأعلام الإيرانية، وأسقطوا صورة خامئني وسعوا لحرق القنصلية الإيرانية في كربلاء وانطلقت حناجرهم بالصياح: «إيران برة برة... العراق تبقى حرة»، وهو الأمر الذي يعبِّر عن مدى إدراك الشعب العراقي لمكمن الخطر الوجودي الذي يتهدده ومصدر أزماته المتشعبة.

وها هو الشعب الإيراني نفسه يخرج في العاصمة الإيرانية طهران، وتهز مظاهراته مدناً كبرى مثل مشهد (شمال شرق) وسرجان (جنوب) والأحواز (غرب)، رافعين شعارات تندد بفساد الحكومة وتدعوها للكف عن شؤون الدول الأخرى «لا غزة ولا لبنان، روحي فداء لإيران».

والحقيقة أن هذه ليست المرة الأولى التي تخرج فيها المظاهرات في إيران، ولولا الخطاب التآمري الذي يعتاش عليه النظام الإيراني، والذي يعد فيه نفسه مستهدفاً من قبل الإمبريالية العالمية، وأن العالم أجمع يتآمر عليه ويسعى لتقويض تجربته الرائدة... لما امتد أجله إلى الآن، وهكذا هم المستكبرون في كل الأماكن والأزمان يهلكون من حيث يظنون أنهم مصلحون. الإشكالية هنا أن الشعوب تتعرض لخديعة كبرى فتتبادل الولايات المتحدة الأمريكية والنظام الإيران التصريحات العدائية أمام وسائل الإعلام، ليضللوا بها الشعوب حتى تخضع لوصايتهم، لكن على الرغم من ديموغائية النظام المبالغ بها، إلا أن الشعب أدرك أنه يغرر به، وضج من حديث  نخبته السياسية عن المظلومية وتمثيل دور الضحية، ضج من إنفاق أموال الشعب التي من المفترض أن توجه لتحسين ظروف أوضاعهم المعيشية، فإذا بالنظام الإيراني ينفقها لتجنيد المرتزقة وإنشاء الأذرع العسكرية التي تثير الخوف في كل بقعة حلت بها.

إنها لمن عجائب القدر أن إيران التي سعت يوماً لتصدير ثورتها إلى البلد الجار العراق، فإذا بالعراق اليوم يصدِّر ثورته لإيران منبئاً عن عصر جديد، عهد لا مكان فيه للظلم والطغيان وقهر الشعوب، لكن المستبدين لا يفهون إلا بعد فوات الزمان، ولو كان من نصيحة اليـوم لحكام طهران فهي أن يبحثوا في معاجمهم الفارسية عن ترجمة لعبارة (بن علي) الأخيرة «لقد فهمتكم»، ثم يتنحون. 

أعلى