الفرقان بين خيرية الأمة الإسلامية والعنصرية اليهودية

الفرقان بين خيرية الأمة الإسلامية والعنصرية اليهودية


قد يقول قائل: تنكرون على اليهود زعمهم بأنهم أبناء الله وأحباؤه وأنهم «شعب الله المختار»، وتقبِّحون عليهم هذه الدعوى، بينما تكررون مقالتهم نفسها؛ تقولون: نحن المسلمين خير أمة وأفضلها وأزكاها عند مولاها وأكرمها على الله جلَّ في علاه؛ فلماذا ننكـر عليهم ما ندعيه لأمتنا، ونستقِبح منهم ما نستحسنه لأنفسنا؟ وهـذا ما زعمه بعض خصوم الإسلام الطاعنين فيه؛ إذ اتهموا خيرية الأمة الإسلامية بأنها تحمل معنى العنصرية التي يُتهَم بها اليهود!

وهذا توهُّم فاسد وخلط مردود بين خيـرية الأمة الإسلامية وعنصرية اليهود وأمثالهم، وهو خطأ يقيناً؛ فالأمة الإسلامية ليست أمة عنصرية، بل هي أمة رسالة ومبادئ وقيم من آمن بها واعتنقها فهو منها من أي عرق كان أو لون أو مكان، بل قد يتولى إمامتها الدينية والسياسية والعلمية، بحسب مؤهلاته، والتاريخ يشهد بذلك.

وبادئَ ذي بَدْءٍ يحسن بي أن أقرر وأؤكد حقيقة مسلَّمة لدينا لا تقبل الجدل، وهي أن هذه الأمة الإسلامية هي - دون أدنى ريب أو تردد - خيـر أمـة، حقاً وصدقاً، بنصوص صريحة من القرآن الكريم في أكثر من موضع، منها قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]. وجاء في الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم  في الآية: «أنتم تُتِمُّون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله تعالى»[1].

وفي موضع آخر من الكتاب العزيز، جعلها ربُّها (أمةً وسطاً)، فقال سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة: 143]، والوسط يعني: العدل، والخيار. وذكروا من وجوه تسمية العدل وسطاً؛ قالوا: لأنه لا يميل إلى أحد الخصمين، ويعضد هذا المعنى أنه مقام شهادة فيقتضي الاعتدال وعدم الميل والجور.

والآيات والأحاديث التـي تدل علـى تميـز هذه الأمة وفضلها على غيرها من الأمم كثيرة، لا يتسع المقال لسردها.

ومن الجدير بالذكر أننا نجد دعوى «الاختيار الإلهي» عند كل أتباع الديانات؛ ففي اليهودية، يعتبر اليهود أنفسهم «شعب الله المختار»، كما جاء في سفر التثنية عندهم (14: 2): «لأَنَّكَ شَعْبٌ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ، وَقَدِ اخْتَارَكَ الرَّبُّ لِكَيْ تَكُونَ لَهُ شَعْباً خَاصّاً فَوْقَ جَمِيعِ الشُّعُوبِ الَّذِينَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ». وفي النصرانية نرى أن الله - بزعمهم - قد تجسد سبحانه في ابنه المخلِّص الوحيد، لإنقاذ البشرية، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، وكما قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18]، ومن قرأ كتب اليهود والنصارى رأى فيها لقب (ابن الله) قـد أطلق على كثير من أنبيائهم، وأطلق مجموعاً على الملائكة وعلى صالحي المؤمنين، وهذا الاستعمال كثير في العهد الجديد، ومنه ما حكاه (متى) في وعظ المسيح على الجبل: (5: 9): «طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون»، وقال بولس في رسالته إلى أهل رومية (8: 14): «لأن كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله»، ونحوه كثيرٌ جداً. فعلم من هذه النصوص وأشباهها أن لفظ «ابن الله» يستعمل في كتب القوم بمعنى «حبيب الله» الذي يعامله الله معاملة الأب لابنه من الرحمة والإحسان والتكريم، فعطف أحباء الله على أبناء الله للتفسير والإيضاح، يعني في قوله: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } [المائدة: 18] ؛ وإنما تحكم النصارى بهذا اللقب فجعلوه بمعنى الابن الحقيقي بالنسبة إلى المسيح عليه السلام، وبالمعنى المجازي بالنسبة إلى غيره من الصالحين[2].

واليهود والنصارى بادعائهم أنهم «أبناء الله وأحباؤه»، كانوا يقولون - تبعاً لهذا - إن الله لن يعذبهم بذنوبهم، وإنهم لن يدخلوا النار إلا أياماً معدودات، كما أخبر عنهم تعالى: {وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 80]  ومعنى هذا أن عدل الله لا يجري مجراه، وأنه - سبحانه - يحابي فريقاً من عباده فيدعهم يفسدون في الأرض ثم لا يعذبهم كالآخرين! أليست هذه هي العنصرية المقيتة بعينها؟ وأيُّ فساد في الحياة يمكن أن ينشأ عن مثل هذا التصور؟ وأيُّ اضطراب في الحياة يمكن أن ينشئه مثل هذا الانحراف[3]؟

وهنا يهدم الإسلام هذا التصور الفاسد وكلَّ ما يتبعه وينشئه من جور وفساد وانحراف، ويقرر عدل الله الذي لا يحابي فرداً أو أمة على أخرى بعنصرها أو لونها أو حسبها ونسبها؛ فالشريعة الحنيفية السمحاء لا تفـرق بين متشابهين، ولا تسوِّي بين مختلفـين، قال تعالى: {بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِـمَن يَشَاءُ } [المائدة: 18]، وإنما «العبرة بالإيمان الصحيح والأعمال الصالحات، لا بمن سلف من الآباء والأمهات»، والتفاضل بالتقوى بمفهومها الواسع، ومن التقوى - بل لبُّها - الإتقان والإحسان: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]. ويعلمنا القرآن الكريم كيف نرد على أهل الكتاب، وننقض دعواهم ونهدم عنصريتهم بالدليل المحسوس المشاهد: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم} [المائدة: 18]؟ فلو كانوا أبناء الله وأحباءه لَـمَا عذبهم بذنوبهم، وشأن المحب ألا يعذب حبيبه وطبع الأب ألا يعذب بنيه رأفة ورقة. ومن هذا العذاب ما كان على يد فرعون: {وَإذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة: 49]، ثم التيه بعد الخروج مدة أربعين سنة، ومنه أيضاً ما كان من تدمير مملكتهم وسبي أشرافهم وكهنتهم على يد نبوخذ نصر، وإجلائهم مرتين؛ مرة في عام (597 ق.م)، والمرة الثانية في عام (586 ق.م)، ثم تدمير مملكتهم على أيدي قياصرة الروم عام 70م وما بعدها، كذلك النصارى اضطهدهم اليهود والرومـان، خلا اضطهاد طوائفهم بعضها لبعض بأشد مما اضطهدتهم به الأمم!

إشكال وحله:

فإن قال قائل: إن نصوص القرآن تشهد باختيار الله عز وجل لبني إسرائيل وتفضيلهم على العالمين، والآيات في هذا المعنى كثيرة، {يَا بَنِي إسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 47]، وقال تعالى على لسان موسى مخاطباً لهم: {قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 140]، {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان: 32]، ونحو ذلك، وهو ما يسبب التباساً في الفهم عند بعضهم، ويتوهم بوجود تناقض بين (خيرية الأمة) وتفضيل بني إسرائيل، ويمكن أن يجاب عن هذا الإشكال من وجهين:

الأول: أن تفضيلهم واختيارهم مخصوص بزمانهم وعالمي زمانهم، وكذلك أتباع كل نبي اختارهم الله سبحانه وفضَّلهم على عالمي زمانهم، وليس على إطلاقه، وهو قول أكثر المفسرين. وهذا الامتياز والتفضيل الذي نالوه قد سقط عنهم بكفرهم بعيسى عليه السلام ومحاولتهم قتله، حيث تفرقوا في الأرض، وضربت عليهم الذلة والمسكنة.

الثاني: أن هذا الاصطفاء والاختيار ليس لجنسهم ولا لونهم، ولكن لكثرة الأنبياء فيهم، وهو حجـة عليهم لا لهم، كما قال سبحانه: {وَإذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 20]. وهي أفضلية لا تقتضي الخيرية لكن المقصود منها الزيادة عن غيرهم بنِعَم وخصائص خصَّهم الله بها، دون غيرهم من العالمين كفلق البحر، وإهلاك فرعون وجنوده، وإطعامهم المن والسلوى، وكثرة الأنبياء، وإنزال الكتب، كما قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْـحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الجاثية: 16]، لكنهم لم يشكروا هذه النعم ولم يعرفوا قدرها؛ بل جحدوها ونقضوا عهودهم ومواثيقهم، وكذبوا أنبياءهم، كما قال القرآن: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُــكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87]، فباؤوا بغضب من الله، وضربت عليهم الذلة والمسكنة، وقضي عليهم بالتشريد وحق عليهم الوعيد، ولعنهم الله ولعنهم اللاعنون.

وإذا كانت التوراة تقول عن بني إسرائيل: إنهم «شعب الله المختار»، فإننا نحن أيضاً نزكيهم ونشهد لهم حين كانوا يحملون رسالة التوحيد، ويحاربون الشرك والوثنية، وينفِّذون تعاليم الأنبياء ووصاياهم، حتى إذا غيَّروا ما بأنفسهم غيَّر الله ما بهم.

عَوْد على بَدْءٍ:

فإن الأمة الإسلامية خير أمة، كما وصفها الله تعالى وأخبر عنها في كتابه: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]، غير أن هذه الخيرية ليست نابعة من محاباة أو اختصاص بلا مسوغ أو مستند؛ وإنما مناطها هو ما ذكره الله بعد ذلك معللاً هذه الخيرية، فقال: {تَأْمُرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، فمن حقق الشرط تحقق له المشروط وقامت به الصفة؛ كما قال عمر رضي الله عنه في حجة حجها رأى من الناس رِعَة سيئة (أي سوء خلق وأدب)، فقرأ: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [آل عمران: 110]، ثم قال: «من سرَّه أن يكون من تلك الأمة فليؤدِّ شرط الله تعالى فيها»[4]. وشرط الله الذي أشار إليه الفاروق هو قوله تعالى: {تَأْمُرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}، قال مجاهد: «كنتم خير الناس للناس على هذا الشرط: أن تأمروا بالمعروف، وتنهوا عن المنكر، وتؤمنوا بالله»[5]. وقدَّم ذكر الأمر بالمعروف لعظم شأن هذا الواجب، ولما يترتب عليه من الصلاح العام[6].

وقد تحقق الشرط في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم  أكثر ممن جاء بعدهم من القرون، فنالوا من الخيرية أعلاها درجة، لكن الخيرية ليست مختصة بهم على الراجح بل هي عامة في جميع الأمة، كلُّ قرنٍ بحسبه، وخير قرونهم الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم[7].

اعتراض وجوابه:

قد يقول قائل: من أي وجه يقتضي وجود هذه الصفات في الأمة كونها خير الأمم مع أنها حاصلة في سائر الأمم؟

والجواب: لأنها تحققت فيهم أكثر من غيرهم، ألم تقرأ قول الله تعالى في بني إسرائيل: {وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ 62 لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 62، 63]، وقال أيضاً: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ 78 كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78، 79]، فقد لعنهم الله سبحانه لسكوتهم عن المنكرات، فنزعت منهم الخيرية والتفضيل بسبب ذلك، وصـاروا - عياذاً بالله - «أمة ملعونة» مغضـوباً عليهم. أما أمة محمد صلى الله عليه وسلم  فإن الصفات الثلاث أو شروط الخيرية تستمر فيهم أو في طائفة منهم حتى قيام الساعة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم ، قال: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك»، والحديث في الصحيحين.

الخيرية درجة دنيوية وأخروية:

الخيرية منحة ربانية لكنها مقيدة بالإيمان والعمل الصالح، ومرتبطة بما تمتلكه الأمة من القيم العليا والمثل الرفيعة ومحاسن الأخلاق، فضلاً عمـا تقدمه للبشرية في مجالات العلوم والفنون والآداب والصنائع والعمران، بحيث تحقق الأفضلية والتفوق المادي والمعنوي معاً، وهي درجة مكتسبة حسب سنن الله في خلقه، وليس قفزاً فوق القوانين والسنن الثابتة أو بالخوارق والكرامات، فبهذه الصفات المكتسبة بالجهد البشري والجهاد والاجتهاد يتمايز الناس أفراداً وجماعات، ويتفاضلون ويتسابقون على درجات سلم الخيرية، لأن اكتساب هذه الصفات هو مضمار سباق مفتوح للناس كافة، ولذلك دعا القرآن الكريم أهل الكتاب إلى اعتناق الإسلام لنيل شرف الخيرية ودرجاتها العليا: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم } [آل عمران: 110].

وبناءً عليه فإن تخلف الأمة في عصرنا الحاضر، علمياً وتقنياً، يتنافى مع الخيرية والوسطية التي تؤهلها للشهادة على الأمم، وما ينبغي لها ذلك ولا يليق بها، وعليها اليوم واجب النهوض الحضاري المرتهن بتحرير الإنسان وتحرير العقل، لتقوم بأداء رسالتها نحو العالم المعاصر.

والحاصل أن خيرية الأمة الإسلامية ليست في ذاتها ولا في عنصرها؛ بل متوقفة على ما تقوم به من واجبات إصلاح الأرض وتعميرها ومحاربة الفساد، ومن الإيمان بالله وكتبه ورسله والالتزام بكل ما شرع الله لعباده؛ فمن قام بواجبه واتصف من هذه الأمة بهذه الصفات استحق هذه الخيرية والتزكية، ومن أعرض وتولى استحق غضب الله وانتقامه في الدارين، ولا كرامة. ودونك ما قاله القرطبي: «في الآية مدحٌ لهذه الأمة ما أقاموا ذلك واتصفوا به، فإذا تركوا التغيير وتواطؤوا على المنكر زال عنهم اسم المدح ولحقهم اسم الذم، وكان ذلك سبباً لهلاكهم». إذن مجرد الانتماء بالاسم لهذه الأمة دون التزام بالرسالة وتنفيذ تكاليفها، لا يكفل للمنتسب النجاة والفلاح لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يعطي عهداً عند الله، قال تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً} [النساء: 123].

أما العنصرية اليهودية التي تعاني منها البشرية اليوم والمسلمون خاصة وأهل فلسطين في المقام الأول، فهي عقيدة فاسدة مناقضة للدين والعلم تفترض تفوق اليهود ونقص غيرهم من سائر الأجناس، لتسويغ العدوان عليهم وانتقاص حقوقهم. وقد نشأت هذه العنصرية مع تحريف الديانة اليهودية على أيدي الكتبة ورئيسهم عزرا الوراق، إبَّان الأسر البابلي في ما بين عامي (586 - 538 ق م)، وهي آفة موغلة في بنية الفكر الديني اليهودي الذي أنشأته أسفار التوراة المحرفة وملحقاتها، وغذَّته ونمَّته تعاليم التلمود في ما بعد؛ فالله رب إسرائيل، والتوراة كتاب لبني إسرائيل، والنبي الموعود المنتظر من بني إسرائيل لا من بني إسماعيل (العرب)، واليهود هم شعب الله المختار، وقد وعدهم ربهم بتملك ما بين الفرات والنيل، وسوغ لهم الإفساد في الأرض والبغي بغير الحق! فهذه هي مقومات العنصرية اليهودية المقيتة التي غذتها أيدي الكتبـة التي عبثت وحرفت في التعاليم السماوية، زيادة وحذفاً وتبديلاً، ونسبت إلى الله سبحانه وملائكته ورسله ما يتنزهون عنه، كل ذلك لينحتـوا ديناً قومياً عنصرياً، يمجد الجنس اليهودي ويعطيه الحق في السيطرة على شعوب الأرض. وبذلك أصبحت (العنصرية اليهودية) أسوأ أنواع العنصرية وأقبحها، لأنها تستغل الدين وتخضعه لأهوائها وأمراضها النفسية. وهي قديمة كما رأينا ترجع إلى أيام السبي البابلي حيث يزيد عمرها على 2500 سنة، لكنها ما زالت تنحدر حتى هبطت إلى أدنى دركاتهـا مع ظاهرة (العنصرية الصهيونية) التي شادت دولة (إسرائيل) على أرض فلسطين واقتلعت أهلها، وتمارس الإرهاب والإفساد[8].

بالمقابل نرى القرآن الكريم يعلن بصراحة ويقين: أن الله هو {رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54] و {رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 164] و {رَبِّ النَّاسِ} [الناس:١]، ولم يقل: إنه رب العرب أو رب المسلمين فقط، في حين تؤكد التوراة عن الله بأنه «رب بني إسرائيل»! بل إن التوراة من أولها إلى آخرها لا تهتم إلا ببني إسرائيل، وتاريخ بني إسرائيل، وهموم بني إسرائيل، وملك إسرائيل، ومجد إسرائيل[9].

 فشتان شتان ما بين خيرية الأمة الإسلامية وبين العنصرية اليهودية المتعصبة التي لا ترى إلا نفسها، ولا تعترف بحق لغيرها.


 


[1] رواه أحمد في مسنده والترمذي وحسنه، وابن ماجة والدارمي، وحسنه الألباني.

[2] تفسير المنار (6/ 259).

[3] في ظلال القرآن (2/ 867 ).

[4] تفسير الطبري، تحقيق شاكر (7/ 102).

[5] تفسير الطبري (7/ 102).

[6] مجموع فتاوى ابن باز (3/ 265).

[7] تفسير ابن كثير (2/ 94).

[8] العنصرية اليهودية وآثارها في المجتمع الإسلامي والموقف منها، د أحمد الزغيبي، مكتبة العبيكان، الرياض، 1418هـ / 1998م، ص 66، وما بعدها .

[9] القدس قضية كل مسلم، الشيخ يوسف القرضاوي .

 

 

أعلى