الإصلاحات السياسية في إثيوبيا

الإصلاحات السياسية في إثيوبيا

 

تكرار للماضي أم تأسيس لنهــج سياســي جـديـد 

ملخص:

ما زالت تتفاعل في إثيوبيا آثار التغيير السياسي الذي شهدته العام الماضي بعد اختيار الائتلاف الحاكم آبي أحمد رئيساً للوزراء، وقد استقبل الإثيوبيون اختيار رئيس الوزراء الجديد بكثير من التفاؤل لاعتباره أحد كوادر الائتلاف المنحازة لمطالب الشعب الإثيوبي في الإصلاح السياسي، وقام آبي أحمد بعدد من الخطوات الإصلاحية التي قوبلت بالترحيب على المستويين الداخلي والخارجي، إلا إن استمرار الاضطرابات برغم هذه الإصلاحات وانتشار التوترات العرقية يثير تساؤلات حول طبيعة التغيرات السياسية التي تشهدها إثيوبيا ومستقبل التحول الديمقراطي فيها، وهو ما تتناوله هذه الدراسة انطلاقاً من محاولة فهم الديناميات المتحكمة في تشكيل الواقع السياسي الإثيوبي لكي يمكن في ضوئها فهم الأوضاع التي تمر بها إثيوبيا في الظرف الحالي، واستشراف ما يمكن أن تقود إليه هذه الأوضاع في المستقبل. وتخلص هذه الدراسة إلى أن إثيوبيا تمر حالياً بمرحلة انتقالية لها سوابق في تاريخ إثيوبيا الحديث، وأن هذه المرحلة لن تختلف في مآلاتها عن المراحل الانتقالية السابقة ما لم يحصل تغيير منهجي في النسق السياسي الإثيوبي الذي يشكل مصدر الأزمات السياسية في إثيوبيا.

 مقدمة:

شهدت إثيوبيا منذ بداية العام المنصرم تغييرات سياسية كان من نتائجها استقالة رئيس الوزراء السابق هيلي مريام ديسالن منتصف فبراير 2018م، ثم اختيار الائتلاف الحاكم رئيس الوزراء الحالي آبي أحمد الذي تسلم رئاسة الوزارة في أبريل من العام نفسه، واستهل إدارته بحزمة من التغييرات السياسية والاقتصادية شملت على المستوى الداخلي إطلاق العديد من السجناء السياسيين، ورفع أسماء الجبهات الإثيوبية المسلحة من قائمة الإرهاب والسماح لها بالعودة إلى إثيوبيا للانخراط السلمي في العملية السياسية، ورفع حالة الطوارئ التي كانت الحكومة السابقة قد أعلنتها لمواجهة الاحتجاجات الشعبية. وعلى الجانب الاقتصادي فقد أعلن آبي أحمد عن إصلاحات في النظام الاقتصادي في إثيوبيا لاعتماد اقتصاد السوق بدلاً من الاقتصاد الخاضع للتخطيط المركزي من جانب الدولة، وخصخصة جزئية أو تامة لجانب من القطاع العام مثل السكك الحديدية، وشركة الاتصالات الإثيوبية، والمصانع والفنادق التي تملكها الدولة، وشركة الطيران الإثيوبية.

أما على المستوى الخارجي فقد سارع رئيس الوزراء الجديد إلى فتح صفحة جديدة من التعايش السلمي مع دولة إريتريا المجاورة لإثيوبيا لإنهاء حالة الحرب القائمة بين الجارتين منذ عام 1998م، وأعلن قبوله اتفاقية الجزائر التي حكمت لصالح إريتريا في النزاع الحدودي الذي اندلعت الحرب من أجله بين الدولتين، ليتوج ذلك باتفاقية السلام التي وقعها مع الرئيس الإريتري أسياس أفورقي في مدينة جدة في السابع عشر من سبتمبر 2018م.

وقد رافق هذه الخطوات التي قام بها رئيس الوزراء الإثيوبي مزيج من الترحيب والتفاؤل من جانب الإثيوبيين وإشادة خارجية ترى فيه نموذجاً للقيادة الإصلاحية التي يفتقر إليها كثير من دول العالم الثالث، إلا إنه مع كل مظاهر الابتهاج في الداخل الإثيوبي إزاء التغيرات السياسية فإن إثيوبيا تشهد حالة من الانفلات الأمني والاضطرابات الداخلية كان من أبرز مظاهرها نزاعات عرقية دامية بين قوميات إثيوبيا، وهو ما بات يمثل تهديداً حقيقياً لآمال التحول الديمقراطي، ويلقي بظلال من الشك حول مدى قدرة الإصلاحات السياسية الحديثة في إثيوبيا على الصمود في وجه النزاعات العرقية المنتشرة على طول الخريطة الإثيوبية.

ووسط هذا الانفتاح السياسي الذي تشوبه النزاعات والاضطرابات يبرز السؤال المتعلق بمستقبل التحول الديمقراطي في إثيوبيا وطبيعة الإصلاحات السياسية التي يقودها رئيس الوزراء آبي أحمد. وقد يكون من المفيد هنا أن نستعين بتاريخ إثيوبيا القريب لفهم الوضع السياسي الراهن في هذه الدولة وما يمكن أن يتمخض عنه هذا الوضع في المستقبل.

 ديناميات السياسة الإثيوبية:

من خلال استقراء التحولات السياسية وسقوط الأنظمة وقيامها في تاريخ إثيوبيا الحديث بالإضافة إلى دور الثقافة السياسية في هذه الدولة في هذه التحولات، يمكن أن نلاحظ بعض الخصائص التي تتسم بها الثقافة السياسية في إثيوبيا إلى جانب أنماط من الفعل السياسي يتكرر حدوثها في تجارب التحولات السياسية في هذه الدولة. وسنتناول بالترتيب هذه الخصائص والأنماط على النحو التالي:

- نظام الفرد:

من أبرز الخصائص التي تتسم بها الثقافة السياسية في الدولة الإثيوبية تمحور النظام السياسي في الدولة حول شخص الحاكم، حيث تميل الكفة لصالح دولة الفرد على حساب دولة المؤسسات، ومن ثم فإن بقاء النظام السياسي مرهون بالظروف الشخصية المحيطة بالحاكم، فإذا مات أو فقد القدرة على ضبط شؤون الدولة وإدارتها بكفاءة كان ذلك بداية لانهيار النظام السياسي ليفسح المجال أمام نظام جديد، في نمط يتكرر في أكثر من مشهد على مسرح الأحداث السياسية في تاريخ إثيوبيا الحديث.

فعندما تراخت قبضة الإمبراطور هيلا سيلاسي على الحكم وتراجعت قدراته في إدارة الدولة بسبب الشيخوخة، أفسح ذلك المجال أمام مجموعة من الضباط المتذمرين من الأوضاع القائمة لكي يستولوا على الحكم عام 1974م[1] ويلغوا النظام الملكي ليحل محله نظام اشتراكي ماركسي عرف بنظام الـ«ديرغ» استمر حتى عام 1991م.

 كذلك عندما اشتد ضغط التمرد المسلح على نظام الـ«ديرغ» في 1991م وأقنع الأمريكيون رئيس هذا النظام منغستو هيلا مريام بالتخلي عن السلطة واللجوء إلى زيمبابوي، قبل منغستو بهذا المقترح وقام بتسليم السلطة إلى نائبه تسفاي جبري-كيدان[2] على أمل أن يدخل هذا الأخير في مفاوضات - يرعاها الأمريكيون - مع المتمردين لإنقاذ إثيوبيا من التفكك، وبرغم أن جميع المدن الكبرى وأكثر من نصف مساحة الدولة كانت لا تزال بيد النظام الحاكم عندما هرب منغستو إلى زيمبابوي[3] إلا إن هروبه كان بداية لسقوط المدن الكبرى تباعاً في يد المتمردين، وفي غضون أسبوع واحد فقط من هروب منغستو، كان النظام قد انهار بالكامل وبدأت وحدات الجيش النظامي بالتفكك، وهو ما دفع الرئيس المؤقت تسفاي جبري-كيدان للاتصال بالأمريكيين ليعلن سقوط النظام الحاكم ويطلب منهم التنسيق مع المتمردين الذين كان يقودهم ميليس زيناوي لكي يدخلوا العاصمة دون قتال.[4]

وبنفس الدرجة تقريباً، فإن وفاة رئيس الوزراء الإثيوبي الأسبق ميليس زيناوي - الذي كان يقود إثيوبيا منذ سقوط نظام الـ«ديرغ» في عام 1991م إلى وفاته عام2012 م كانت بداية لأعنف تصدع مر به الائتلاف الحاكم[5] المعروف باسم EPRDF المكون من أربع جبهات عرقية، فقد كان زيناوي بمثابة مركز الثقل في هذا الائتلاف حيث كان يتزعم أقوى جبهة في الائتلاف من جانب - وهي جبهة TPLF التابعة لقومية التجراي التي ينتمي إليها زيناوي - وفي نفس الوقت كان رئيساً عاماً للائتلاف من جانب آخر، وبموته اهتز تماسك الائتلاف وزادت وتيرة تصدعاته الداخلية، ثم بدأت احتجاجات 2015م التي استمرت لما يقارب ثلاث سنوات، فكانت سبباً في استقالة رئيس الوزراء السابق هيلا مريام ديسالن بعد اختلاف قيادات الجبهات المتحالفة في الائتلاف في الطريقة المناسبة للتعامل مع هذه الاحتجاجات، وهذا عكس ما حدث عام 2005م عندما واجهت حكومة الائتلاف الحاكم تحت قيادة زيناوي احتجاجات شعبية اندلعت بعد انتخابات ذلك العام بوحشية مفرطة[6] دون أن يكون لذلك أثر ظاهر على تماسك الائتلاف.

ولذلك يرى كثير من المراقبين أن الائتلاف الحاكم في إثيوبيا قد مات فعلاً بموت ميليس زيناوي ولم يتبق منه في الوقت الراهن غير هيكل فارغ[7] تستخدمه الإدارة الحالية كغطاء قانوني لإدارة البلاد في هذه الفترة المضطربة.

 

بيروقراطية الإقطاع:

برغم زوال الملكية الإقطاعية من إثيوبيا بسقوط آخر إمبراطور إثيوبي سنة 1974م، فإن إرثها الثقافي لا يزال حاضراً في نمط الحكم السائد في إثيوبيا.

وتتجلى ملامح الإرث الإقطاعي في الثقافة السياسية الإثيوبية من خلال تركيبة العلاقة التي تجمع بين الحاكم والطبقة المنتفعة من حكمه، فالعلاقة القائمة بين الطرفين علاقة زبانية، يقدم فيها الحاكم امتيازات اقتصادية وسياسية للطبقة المحيطة به، وتقدم هذه الطبقة في المقابل ولاءها المطلق للحاكم وتذود عن حكمه. وبقدر مماثل، يتجلى هذا الإرث أيضاً في علاقة الطبقة المتنفذة مع عامة الشعب المحكوم، فهي التي تتحكم في تفاصيل الحياة اليومية لهذا الشعب من خلال السيطرة على الجهاز البيروقراطي للدولة برعاية ومباركة الحاكم.

هكذا كان الحال في عهد الإمبراطور هيلا سيلاسي، فبرغم الجهود التي قام بها هذا الإمبراطور لنقل الدولة الإثيوبية من عهد الإقطاع إلى عهد الدولة الحديثة، فقد كان الجهاز الإداري في نفس الوقت بيد النبلاء بحكم موقعهم التاريخي كطبقة حاكمة.

وبعد سقوط هيلا سيلاسي ووصول المجلس العسكري بقيادة منغستو إلى سدة الحكم، استحوذ العسكر على الجهاز الإداري، ثم جاءت بعد العسكر جبهة التجراي بقيادة زعيمها ميليس زيناوي فانتقل الجهاز الإداري للدولة إلى يد قومية التجراي التي استحوذت على المناصب القيادية، ووصلت نسبة القادة المنتسبين إليها في المناصب العليا في المؤسسة العسكرية وحدها إلى 90% من مجموع قادة الجيش الإثيوبي[8] بالإضافة إلى استحواذ أبناء هذه القومية على المناصب الإدارية في الشركات المدنية التي تديرها الدولة، وبعد مجيء إدارة رئيس الوزراء آبي أحمد بدأت عملية إقالات واسعة للكوادر القيادية المنتمية للتجراي من المؤسسات المختلفة للدولة[9] لتحل محلهم كوادر جديدة من قوميتي الأورومو والأمهرا، فبعد إقالة رئيس أركان الجيش الإثيوبي الجنرال سمورا يونس (وهو من التجراي)، عين الجنرال سييرا ميكونين (من الأمهرا) كما عين نائباً لرئيس الأركان الجنرال بيرهاني جولا (من الأورمو). وعين لقيادة القوات الجوية الإثيوبية الجنرال ييلما ميرداسا (من الأورومو). وأقيل أيضاً رئيس المخابرات الإثيوبية الجنرال غيتاشو أسيفا (من التجراي)، ليحل محله الجنرال آدم محـمد (من الأمهرا). ومن المعروف أن إقليمي الأورمو والأمهرا كانا مركز الاحتجاجات التي انتهت باستقالة ديسالن ومجيء آبي أحمد - وهو من أب أورومي وأم أمهرية - إلى الحكم.

والقاعدة التقليدية في الثقافة السياسية في إثيوبيا أن من يتحكم بالجيش ويضمن ولاءه هو من يملك القدرة الفعلية على إدارة الدولة.[10]

 

ثورة دائمة:

من الأنماط المتكررة في واقع السياسة الإثيوبية ألا يخلو عهد أي نظام حاكم منذ عهد الإمبراطور هيلا سيلاسي من ثورة مناهضة لحكمه، فبداية من ثورة الإريتريين المناضلين من أجل الاستقلال في عهد هيلا سيلاسي إلى ثورات الحركات المسلحة التي كانت في صراع مسلح ضد نظام ميليس زيناوي ممثلاً في ائتلاف الـ EPRDF، فإن إثيوبيا لم تخل من تمرد مسلح. وحتى بعد إعلان رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد رفع أسماء الجبهات المسلحة في إثيوبيا من قائمة الإرهاب والسماح لها بالعمل السياسي السلمي في إطار المصالحة الوطنية والإصلاحات السياسية التي أعلنها آبي أحمد، فلا يزال التوتر قائماً بين بعض هذه الحركات وبين القوات الحكومية في إثيوبيا، وقد يصل في بعض الأحيان إلى مواجهات مسلحة دامية.[11]

ويعود السبب في استمرار الثورات في إثيوبيا إلى كون هذه الدولة مؤلفة من عدد كبير من القوميات التي يكافح كل منها لإثبات ذاتيته ككيان عرقي له طابعه الخاص المتميز، وهو ما انعكس بدوره على التاريخ السياسي الحديث لهذه الدولة[12]، وذلك لأن ملوك الحبشة المتعاقبين أقاموا دولة إثيوبيا الحديثة بحدودها الحالية من خلال الغزو العسكري والتوسع الجغرافي على حساب الشعوب المجاورة وضم أراضي هذه الشعوب إلى مملكتهم، فكان من الطبيعي أن تبقى في نفوس هذه الشعوب تطلعات متجددة للتحرر والاستقلال، الأمر الذي كانت تواجهه الأنظمة المتعاقبة في إثيوبيا بالرد العسكري الحازم، وحتى في الفترات التي شهدت قدراً هامشياً من التسامح - على المستوى النظري على الأقل - مع مطالب هذه الشعوب في حق تقرير المصير (كما ينص عليه الدستور الذي وضعه نظام ميليس زيناوي في 1994م - الذي يعتبر من أكبر الإصلاحات السياسية التي قام بها هذا النظام - والذي لا يزال معمولاً به في إثيوبيا حتى الآن) فإن نظام ميليس زيناوي لجأ إلى الحل العسكري لإسكات أي مطالب بتفعيل المادة 39 من الدستور الإثيوبي، وهي المادة التي تنص على حق كل شعب من الشعوب التي يعترف بها هذا الدستور - ضمن الاتحاد الفيدرالي الإثيوبي - في تقرير المصير، فكانت النتيجة شديدة المأساوية بالنسبة للشعوب التي طالبت بحق تقرير المصير كما حدث مع الإقليم الصومالي الخاضع للحكم الإثيوبي، فقد تعرض هذا الإقليم لموجات متتالية من القمع الوحشي على يد نظام زيناوي منذ تسعينات القرن الماضي، حيث اتبعت قوات هذا النظام سياسة الأرض المحروقة لخلق حالة من الصدمة والرعب بين أبناء الاقليم لكي يتنازلوا عن مطالب الاستقلال ويستسلموا للأمر الواقع، فلم تميز هذه القوات في عملياتها العسكرية بين مسلح ومدني، بل كان المدنيون أكثر من نالتهم وحشية قوات هذا النظام من تعذيب واغتصاب وقتل، أو حرق وتدمير للمساكن والممتلكات[13].

ومن الجدير بالذكر أن الثورات في تاريخ إثيوبيا القريب تراوحت بين ثورات هدفها الاستقلال التام عن الدولة الإثيوبية وأخرى كانت تهدف إلى تغيير نظام الحكم وإجراء إصلاحات سياسية واجتماعية واقتصادية مع المحافظة على كيان هذه الدولة، فمن ثورات النوع الأول الثورة الإريترية التي انتهت باستقلال إريتريا وانفصالها عن إثيوبيا عام 1993م، والثورات التي قامت بها - ولا تزال - حركات مثل جبهة تحرير أوغادين ONLF وجبهة تحرير أورومو OLF.

ومن ثورات النوع الثاني ثورة الضباط بقيادة منغستو هيلا مريام التي أسقطت نظام الإمبراطور هيلا سيلاسي، والتمرد المسلح الذي قادته جبهة تحرير تجراي بقيادة ميليس زيناوي TPLF والجبهات المتحالفة معها لإسقاط نظام منغستو، وحركة «جيمبوت» المناهضة لنظام ميليس زيناوي.

منعطفات التغيير السياسي في إثيوبيا:

بناءً على ما سبق، فإن منعطفات التغيير السياسي في تاريخ إثيوبيا القريب يحددها التفاعل القائم بين ثلاثي: نظام الفرد، وبيروقراطية الإقطاع، والثورة الدائمة. فدوران عجلة التغيير يبدأ أولاً بالثورة والاحتجاج ضد النظام السياسي القائم، بسبب الاستئثار والمحسوبية وممارسة القمع والتهميش ضد قطاعات واسعة من الشعب من جانب الطبقة الحاكمة، التي يتربع على قمتها حاكم أوتوقراطي تتركز بيده السلطة الحقيقية في الدولة، فإذا تراجعت قدرات هذا الحاكم في مواجهة الثورات أو اختفى من المشهد السياسي فجأة بموت أو بغيره، انهار النظام السياسي كما رأينا في نماذج هيلا سيلاسي، ومنغستو، وزيناوي، فتنتهي بذلك دورة كاملة من تفاعل نظام الفرد، وبيروقراطية الإقطاع، والثورة الدائمة، لتبدأ بعدها دورة جديدة مع نظام سياسي جديد.

وهناك نمط يتكرر وقوعه في كل منعطف من منعطفات التغيير السياسي في إثيوبيا منذ عهد هيلا سيلاسي، وهو الحضور الأمريكي في كواليس الترتيبات المتعلقة بانتقال الحكم من نظام إلى آخر، ففي أواخر حكم الإمبراطور هيلا سيلاسي عندما لاحظ الأمريكيون تزايد الاضطرابات في إثيوبيا، نصحوا الإمبراطور بالتنازل عن العرش ونقل السلطة لابنه (أمها هيلا سيلاسي) لتفادي الانقلاب العسكري الذي رآه الأمريكيون قادماً في الأفق[14].

كذلك أيضاً تدخل الأمريكيون عام 1991م لإقناع منغستو هيلا مريام بالتنازل عن الحكم، بعد اشتداد المواجهات العسكرية بين قوات نظامه وبين الجبهات المسلحة التي كانت تسعى لإسقاط حكمه.[15]

وفي ظل الاحتجاجات الشعبية التي استمرت في إثيوبيا بين عامي 2015م وحتى بداية 2018م، فإن الأمريكيين تدخلوا مرة أخرى عندما أعلنوا مهلة 28 يوماً في فبراير 2018م للضغط على الحكومة الإثيوبية حتى توافق على إجراء تحقيقات مستقلة في انتهاكات حقوق الإنسان في إثيوبيا، وإلا تعرضت للعقوبات.[16]

 وقد يفسر هذا النمط من التدخل الأمريكي المتكرر - حين تكون هذه الدولة على أعتاب تغيير سياسي - سبب استمرار تماسكها وعدم تفككها كنتيجة لتركيبتها العرقية والدينية المعقدة عند التعرض للاضطرابات السياسية.

ولا يخفي الأمريكيون أن حرصهم على بقاء الدولة الإثيوبية متماسكة هو الدافع وراء قيامهم بدور المايسترو الذي يضبط إيقاع التحولات السياسية في هذه الدولة، كما لا يخفون أن أكبر ما يهمهم لضمان بقاء واستمرار هذه الدولة هو وجود من يقدر على فرض القانون والنظام، بغض النظر عن هوية من يقوم بذلك.[17]

وكون اهتمام أمريكا بالشأن الإثيوبي منصباً على الاستقرار السياسي في المقام الأول يلقي الضوء على أسباب تأخر التدخل الأمريكي لحل أزمة الاحتجاجات التي بدأت في 2015م في إثيوبيا، فلم يمارس الأمريكيون ضغطاً جاداً على النظام الحاكم إلا بعد مضي أكثر من سنتين من بداية الأزمة، حين تأكد لهم أن إدارة رئيس الوزراء هيلا ماريام ديسالن لم تعد قادرة على احتواء الاحتجاجات التي عمت إثيوبيا، خاصة عندما انتقلت آثار التوتر السياسي إلى داخل الجيش الإثيوبي نفسه ووقعت بين أفراده اشتباكات مسلحة سقط فيها قتلى[18].

ويبدو أن الحضور الأمريكي في منعطفات الانتقال السياسي الإثيوبي يعمل كعنصر لضبط حركة الانتقال السياسي حتى لا تخرج عن السيطرة وتنقلب إلى حرب أهلية.

الإصلاحات السياسية في عهد آبي أحمد:

إذا نظرنا إلى الأوضاع السياسية الراهنة في إثيوبيا في ضوء المعطيات السابقة، فإننا ندرك أن إثيوبيا تحت قيادة رئيس وزرائها الحالي تعيش حالة من التغيير السياسي سبق لها أن عاشت فصوله في أكثر من محطة من محطات تاريخها المعاصر في إطار الديناميات المتحكمة في النسق السياسي الإثيوبي، فبرغم حالة الارتياح الداخلي والخارجي إزاء الإصلاحات السياسية التي قام بها آبي أحمد، فإن استمرار هذه الإصلاحات وتوسعها محكوم بديناميات الواقع السياسي في إثيوبيا الذي لا يملك في الوقت الحالي المرونة الكافية للانتقال الراديكالي من دولة الفرد ذات الأصول الإقطاعية إلى دولة المؤسسات الحديثة القائمة على الشفافية والتعاقد الاجتماعي، فإثيوبيا بحكم تنوعها العرقي والديني - الذي يعود إلى تكوينها من شعوب جمعت تحت حكم واحد دون اختيار منها - مثقلة بإرث من الاستغلال والتهميش الذي تعرضت له كثير من قومياتها على يد الأنظمة المتعاقبة، الأمر الذي يجعل من الصعب تطبيق إصلاحات سياسية جذرية تأخذ بعين الاعتبار كل المطالب التي ترفعها القوميات المختلفة، فبعض هذه المطالب يتضمن استقلالاً تاماً عن إثيوبيا.

 وعليه، فبرغم أهمية ما قام به آبي أحمد حتى الآن من إرخاء للقبضة الأمنية الخانقة وفتح نسبي لفضاء العمل السياسي أمام كل الحركات السياسية في إثيوبيا، فإن ما تحقق حتى الآن لا يرقى إلى مستوى التغيير السياسي الشامل الذي يضع إثيوبيا على طريق الديمقراطية الحقيقية، كما لا يخرج عن نطاق «الإسعافات الأولية» لدولة تعرضت لاضطراب سياسي كاد أن يقضي على وجودها كدولة.

فما حدث حتى الآن هو دخول أنيق إلى المسرح السياسي الإثيوبي من جانب آبي أحمد بوعود لم توضع بعد على المحك لاختبار مصداقيتها أو اختلافها مثلاً عن وعد ميليس زيناوي - عندما دخلت قواته المنتصرة أديس أبابا - حيث وعد بتحويل إثيوبيا إلى «دولة ديمقراطية تقوم وحدتها على الإرادة الحرة للإثيوبيين بدلاً من القهر والإخضاع بالقوة»[19]، ومن المعروف أن الرجل الذي افتتح عهده في الحكم بتلك الكلمات تحول نظامه فيما بعد إلى أحد أشرس الأنظمة القمعية في العالم حيث «يفوز» ائتلافه الحاكم في الانتخابات بنسبة 99.6% أو 100% من مقاعد البرلمان[20] ويطلق جنوده الرصاص الحي على رؤوس المتظاهرين.

ولا يوجد أيضاً ما يثبت عملياً اختلاف التغييرات التي قام بها آبي أحمد (من إطلاق لسراح السجناء السياسيين وإظهار لميول ليبرالية في السياسة والاقتصاد من خلال تعيين عدد كبير من النساء في المناصب الحكومية أو تبني فكرة اقتصاد السوق) عن تلك التي قام بها تسفاي جبري-كيدان عندما تسلم الرئاسة بعد استقالة منغستو، فقد أطلق جبري-كيدان سراح 196 سجيناً سياسياً وأزال تمثال لينين من وسط العاصمة الإثيوبية كمؤشر على سقوط نظام منغستو الشيوعي، وبداية إصلاحات سياسية جادة [21] لكن المفارقة أن تسفاي جبري-كيدان نفسه كان من أقطاب نظام منغستو، تماماً كما أن الائتلاف الحاكم الذي اختار آبي أحمد لرئاسة الوزارة بعد استقالة هيلا مريام ديسالن هو نفسه الائتلاف الذي ثار عليه الإثيوبيون، بالإضافة إلى أن آبي أحمد خدم في هذا النظام كضابط في المخابرات ومسؤول عن مراقبة وضبط أنظمة الاتصالات والمعلومات في الدولة.

في ضوء ما سبق، فإن إثيوبيا في الوقت الراهن تعيش مرحلة انتقالية وصل فيها النظام الذي أسسه ميليس زيناوي  - الذي يمثله الائتلاف الحاكم - إلى نهايته، ولم تتضح بعد بالقدر الكافي ملامح النظام الذي سيقود إثيوبيا بعد هذا النظام، وهو ما يرشح هذه المرحلة لأن تكون بداية لدورة جديدة من دورات التغيير السياسي النمطي في إثيوبيا ما لم يثبت آبي أحمد استثنائية نهجه السياسي بخطوات عملية تجمع بين مرونة التعامل مع الواقع السياسي المعقد الذي تواجهه إدارته وبين الانتقال المتدرج بإثيوبيا من دولة الفرد إلى دولة المؤسسات، وعليه فإن الإصلاحات السياسية في هذه الفترة الانتقالية ستكون هي الأخرى انتقالية ومؤقتة حتى يأتي نظام جديد يتبنى هذه الإصلاحات ويهيئ لها أسباب الاستمرار والدوام بعد انتخابات 2020م المزمع إجراؤها في إثيوبيا، حيث يتوقع الكثيرون أن تكون تلك الانتخابات نقطة التحول الفاصلة بين عهدين (عهد ائتلاف EPRDF بتركيبته الحالية وعهد ما بعد هذا الائتلاف).

وبسبب الكاريزما وما يتمتع به آبي أحمد من الشعبية الكبيرة بين الإثيوبيين بالإضافة إلى موقعه الحالي كرئيس للوزراء، فهو يملك فرصاً أكبر في تصدر المشهد السياسي بعد الانتخابات القادمة.

وسواء أفضت الانتخابات القادمة إلى نظام جديد يتصدره آبي أحمد أو جاءت بغيره فإن تحويل إثيوبيا إلى دولة ديمقراطية سيتطلب تغييراً في النسق السياسي الإثيوبي بدلاً من الاكتفاء بتغيير نظام سياسي معين، فالأزمات السياسية في إثيوبيا تضرب بجذورها في عمق الثقافة السياسية في هذه الدولة.

 خاتمة

إثيوبيا اليوم تقف على مفترق طرق، وأوضاعها السياسية لم تستقر بعد، وفي هذا السياق يمكن أن نفهم الاضطرابات العرقية التي تشهدها إثيوبيا منذ وصول آبي أحمد إلى الحكم، حيث سمح الانفتاح السياسي النسبي الذي رافق توليه السلطة ارتفاع في سقف الطموحات السياسية للقوميات المختلفة المكونة للنسيج الاجتماعي في إثيوبيا، وهو ما أدى بدوره إلى ما يشبه التزاحم على الميدان السياسي بين هذه القوميات التي يسعى كل منها إلى تحقيق أكبر قدر من المكاسب في ظل الانفتاح السياسي الراهن، وبقدر ما يحمله هذا الانفتاح من انتعاش لآمال الإثيوبيين في التحول الديمقراطي، فهو في الوقت نفسه لا يخلو من مخاطر الانزلاق إلى حرب أهلية، وهنا يكمن التحدي الأكبر في اللحظة الراهنة بالنسبة لإدارة آبي أحمد إذ تقع عليها مسؤولية الاستجابة لمطالب القوميات المتعددة من أجل تحقيق الاستقرار والتوازن الاجتماعي دون اللجوء إلى الخيار العسكري وأساليب القمع التقليدية التي كانت الخيار المفضل للأنظمة الإثيوبية السابقة.

ومما يضاعف هذا التحدي أن قومية الأورومو التي ينتسب إليها آبي أحمد هي التي تلعب الدور الأكبر في النزاعات العرقية التي تشهدها إثيوبيا في الوقت الراهن، كأسلوب للتعبير عن القوة في وجه القوميات الأخرى[22] في سعي منها لتعزيز موقعها الجديد كطبقة حاكمة، وهو ما يحتم على آبي أحمد أن يقوم بتلجيم حالة الانفلات التي تعيشها العناصر المتطرفة من القوميين الأوروميين لدورهم الأكبر في إشعال المواجهات العرقية، وأن يثبت لجميع الإثيوبيين أنه جاء إلى الحكم ليمثلهم جميعاً دون تفريق، وإلا تحول عهده إلى مجرد حلقة في سلسلة دورات التغيير السياسي المتكررة في إثيوبيا.


 


[1] Association For Diplomatic Studies And Training, The Last Emperor. The Fall of Haile Selassie, Association For Diplomatic Studies And Training, https://adst.org/2015/10/the-last-emperor-the-fall-of-haile-selassie/

 [2] Jane Perlez, New View of Ethiopia, The New York Times 31/05/1991, https://www.nytimes.com/1991/05/31/world/new-view-of-ethiopia.html

 [3] Clifford Kraus, Ethiopian Guerillas Mount Offensive As Peace Talks Near, The New York Times, 20/05/1991, https://www.nytimes.com/1991/05/20/world/ethiopian-guerrillas-mount-an-offensive-as-peace-talks-near.html

 [4] Clifford Kraus, Ethiopian Rebels Storm the Capital And Seize Control, The New York Times ,28/05/1991, https://www.nytimes.com/1991/05/20/world/ethiopian-guerrillas-mount-an-offensive-as-peace-talks-near.html

 [5] Tazab, Ethiopia: The demise of EPRDF in The Offing After the Split of The TPLF, Tesfanews, 09/02/2013, https://www.tesfanews.net/ethiopia-the-demise-of-eprdf-in-the-offing-following-split-within-the-tplf/  

 [6] BBC News, Ethtiopian Protesters “Massacred” BBC News, 19/10/2006, http://news.bbc.co.uk/2/hi/africa/6064638.stm

 [7] Zekerias Ezra, Stick a Fork in it, EPRDF is Dead As We Know it, ECADF, 19/11/2018, https://ecadforum.com/2018/11/19/stick-a-fork-in-it-eprdf-is-dead-as-we-know-it/

 [8] Engidu Woldie, Breaking: Over 160 Generals, Commanders Fired From Ethiopian Army, Esat, 09/11/2018, https://ethsat.com/2018/11/breaking-over-160-generals-fired-from-ethiopian-army/

 [9]Stratfor, Ethiopia: How Military Purges Further Prime Minister’s Plans, Stratfor, 12/11/2018, https://worldview.stratfor.com/article/ethiopia-how-military-purges-further-prime-ministers-plans

 [10] Diiradda, Muxuu Salka ku Hayaa Qalalaasaha Siyaasadeed ee Itoobiya?, Diiradda, 24/02/2018, http://diiradda.blogspot.com/2018/02/muxuu-salka-ku-hayaa-qalalaasaha.html

 [11] Engidu Woldie, Ethiopia: Several Killed in Clashes between OLF and Gov’t Forces, Esat, 29/10/2018, https://ethsat.com/2018/10/ethiopia-several-killed-in-clashes-between-olf-and-govt-forces/

 [12] Elemayehu Weldemariam, Ethiopia’s federation needs reviving, not reconfiguration, Ethiopia Insight, 10/01/2019, https://www.ethiopia-insight.com/2019/01/10/ethiopias-federation-needs-reviving-not-reconfiguring/

 [13]Folketinget, Evidences of genocide crime in Ogaden and world’s silence, Folketinget, Nov-2010, https://www.ft.dk/samling/20101/almdel/uru/bilag/154/988822.pdf

 [14] Association For Diplomatic Studies And Training, The Last Emperor, The Fall of Haile Selassie, Association For Diplomatic Studies And Training, https://adst.org/2015/10/the-last-emperor-the-fall-of-haile-selassie/

 [15]  New View of Ethiopia, Jane Perlez, The New York Times, 31/05/1991, https://www.nytimes.com/1991/05/31/world/new-view-of-ethiopia.html

 [16] Engidu Woldie, U.S Gave 28 Day Ultimatum To Ethiopia Regime to Allow UN Rapporteus, Esat, 02/02/2018, https://ethsat.com/2018/02/u-s-gave-28-day-ultimatum-ethiopia-regime-allow-un-rapporteurs/

 [17] Clifford Kraus, Ethiopian Rebels Storm the Capital and Seize Control, The New York Times, 28/05/1991, https://www.nytimes.com/1991/05/28/world/ethiopian-rebels-storm-the-capital-and-seize-control.html

 [18] Bashir, Ciidamo Itoobiyaan ah oo ku Dhex Dagaallamay Gudaha Soomaaliya, Midnimo, 24/10/2016, https://midnimo.com/2016/10/24/ciidamo-itoobiyaan-ah-oo-ku-dhex-dagaalamay-gudaha-soomaaliya/

 [19] Craig R. Whitney, Ethiopian Seeks to Form Temporary Government, The New York Times, 29/05/1991, https://www.nytimes.com/1991/05/29/world/ethiopian-seeks-to-form-temporary-government.html

 [20] TesfaNews, Ethiopia’s Ruling Party Announced 100% Election Victory, TesfaNews, 22/06/2015, https://www.tesfanews.net/ethiopias-ruling-party-announced-it-won-100-percent-votes/

 [21] Clifford Kraus, Ethiopians Rejoice as Rebels Close in, The New York Times, 23/05/1991, https://www.nytimes.com/1991/05/24/world/ethiopians-rejoice-as-rebels-close-in.html

 [22] Aaron Brooks, Ethnic violence is rising through Ethiopia, staining its “new era” in blood, The East Africa Monitor, 18/09/2018, https://eastafricamonitor.com/ethnic-violence-is-rising-through-ethiopia-staining-its-new-era-in-blood/

 

أعلى