إعجاز فواتح سور القرآن وخواتيمها

إعجاز فواتح سور القرآن وخواتيمها


إن  المتأمل في فواتح سور القرآن وخواتيمها يدرك لوناً بديعاً من ألوان الإعجاز، ذلك أنَّها جاءت بألوان من الإعجاز الذي يؤكد المراد من قوله: {لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء: ٨٨]!

فبالنسبة لفواتح السور القرآنية؛ جاءت في غاية البراعة، وغاية الروعة: تارةً باستهلالها بتنزيه الله وتمجيده، وتارةً بالنداء، وتارةً بالاستفهام، وتارةً بالأمر، وتارةً بالحروف المقطعة لتشويق القارئ أوْ المستمع لما سيأتي بعدها من خطاب.. إلخ.

ومن يتأمل جميع فواتح السور؛ يلحظ دلالتها على مقصود السورة وأغراضها، وقد يكون واضحاً أحياناً، وأحياناً أخر يحتاج إلى نوع من التدبر والتأمل، والتفكر في استخراج تلك الدلالة.

ولنتأمل هنا مناسبة فواتـح السور لما قبلها، ومناسبة فواتح السور لمقاصدها وموضوعاتها، ومناسبة فواتح السور لخواتيمها؛ كي نفقه دلائل الإعجاز القرآني، وعظمة التنزيل الحكيم!

مناسبة فواتـح السور لما قبلها:

انظر إلى مطالع السور، ومدى ارتباطها الشديد بما قبلها؛ فمن تدبر خاتمة سورة الفاتحة ودعاء المؤمنين ربَّهم أنْ يهديهم الصراط المستقيم، ثمَّ نظر في افتتاح سورة البقرة، حيث قال سبحانه: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: ٢]، أيْ: إنهم لما سألوا الله الهداية، بَيَّن لهم سبيلها.

 وفي خاتمة سورة آل عمران أمر الله تعالى عباده المؤمنين بالصبر والمصابرة والمرابطة والتقوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ} [آل عمران: 200]، ثمَّ مالَ إلى الناس كافة في سورة النساء فأمرهم بالتقوى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [النساء: ١]، لأنه ليس كل الناس يستطيع الصبر والمصابرة والمرابطة، فكان افتتاح سورة النساء مناسباً لما خُتِمت به سورة آل عمران.

وهكذا يمضي الترابط بين سور القرآن كلها، وكأنها سورةٌ واحدة.. وقد تجلَّى من هذا إعجاز نفسي عجيب؛ يجعل القارئ المتدبِّر مستغرِقاً في لطائف التوجيهات الإلهية، والشواهد الربَّانية، فمثلاً: اختتم سبحانه سورة الواقعة بالأمر بالتسبيح: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74]، ثمَّ افتتح بعدها مباشرة سورة الحديد بالتسبيح، فقال: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الحديد: ١]!

وفي سورة الفيل أخبر بما حدث لجيش أبرهة الذين أرادوا الاعتداء على البيت العتيق، وكيف أهلكهم بأصغر الطير وأضعفه: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} [الفيل: ٥]، فجاءت بعدها سورة قريش وهي شديدة الاتصال بما قبلها؛ لتعلُّق الجار والمجرور في أولها بالفعل: {لإيلافِ قُرَيْشٍ} [قريش: ١]، وقد طالبهم في هذه السورة بالإيمان بربِّ هذا البيت، وشكر: {الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: ٤]. ثمَّ أعقبتها سورة الماعون التي توعد فيها تارك الصلاة، وذَمَّ الذين لا يطعمون الطعام: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ 4 الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ 5 الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ 6 وَيَمْنَعُونَ الْـمَاعُونَ} [الماعون: ٤ - ٧].. وهكذا.

من هنا نعلم أنَّ افتتاح كل سورة في غاية المناسبة لما قبلها، ولكنه يخفى تارة ويظهر تارةً أخرى، ولا يدرك ذلك إلا من رزقه الله تعالى قوة التدبُّر والتفكُّر في كتاب الله العزيز.

مناسبة فواتح السور لمقاصدها:

برغم أن القرآن نزل مُنجَّماً ومتفرِّقاً على ثلاث وعشرين سنة؛ إلا أنه تمَّ مترابطاً محكماً متناسقاً في بناء جُمَلِهِ وآياته لفظاً ومعنى.. لذلك تجد مطلع كل سورةٍ من سور القرآن متناسقاً متناسباً مع مقاصد تلك السورة، تنتقل فيها من آية لآية، ولا تجد تنافراً بين كلماتها أو آياتها. وهذا فن من فنون البلاغة واللغة يدل على حُسن الصياغة وتماسك البناء. والأمثلة على ذلك كثيرة وفيرة، منثورة في جميع سور القرآن المجيد، ولكن الحاذق هو وحده من يدركها ويتلمس قدرته تعالى وإعجازه فيها. قال صاحب الإتقان: «أجاب ابن الزملكاني حين سُئِلَ عن الحكمة من افتتاح سورة الإسراء بالتسبيح، والكهف بالتحميد؟ بأنَّ سورة (سبحان) لمَّا اشتملت على الإسراء الذي كذَّبَ المشركون به النبيّ، وتكذيبه تكذيب للهِ سبحانه، أتى (بسبحان)، لتنزيه الله تعالى عمَّا نُسِبَ إلى نبيِّهِ من الكذب، وسورة الكهف لمَّا أُنزِلت بعد سؤال المشركين عن قصة أصحاب الكهف وتأخُّر الوحي، نزلت مُبيِّنةً أنَّ الله لم يقطع نعمته عن نبيِّهِ ولا عن المؤمنين، بلْ أتمَّ عليهم النعمة بإنزال الكتاب، فناسب افتتاحها بالحمد على هذه النعمة»[1].

مثــال آخَـر: سورة النور استهلَّها المولى تعالى بقوله: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور: ١] وقد كرَّر قوله: {لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ} [النور: 46] عدة مرات؛ للتأكيد على هذه التشريعات، ووجوب الالتزام بها، فقد شرع في هذه السورة كثيراً من الأحكام والأخلاق والآداب؛ فقد حذَّر من الإفك والبهتان، ورميْ المحصنات الغافلات، ونهى عن دخول البيوت دون استئذان، وأمر بِغَضّ البصر، وتجنُّب الفواحش، وأمر بالصلاة والزكاة، وأدب الحديث مع الجناب النبوي الشريف، وقد كرَّر الأمر بطاعة اللهِ ورسولِه.

مثــال آخـر: سورة الفتح استهلها سبحانه بقوله: {إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} [الفتح: ١] وهو الفتح الأكبر، ودخول الرسول وأصحابه مكة في عزَّةٍ ومهابةٍ وجلال، وتطهيرهم الكعبة من الأصنام والأوثان، ثمَّ الثناء على المؤمنين الذين بايعوا الرسول في بيعة العقبة. ثمَّ صلاتهم بالبيت: {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29].

مثــال آخر: سورة الرحمن استهلَّها الحقُّ تعالى باسمه {الرَّحْمَنُ} [الرحمن: ١] الذي وهب كل هذه الآلاء والنِّعم على عباده، ليؤمنوا به ويشكروه عليها. وطالبهم بعد ذِكْر كل نعمةٍ أنْ يُقرُّوا بها ويعترفوا، وكرَّر عليهم السؤال: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13]، ثمَّ تلتها سورة الواقعة مباشرة، بقوله سبحانه: {إذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} [الواقعة: ١]، لأنها تتحدث عن الأهوال التي سيشهدها الناس يومئذ، والمشاهد التي سيرونها رأيَ العين، وجزاء كل فريقٍ من الناس بحسب ما قدَّمتْ يداه!

مناسبة فواتح السور لخواتيمها:

أيضاً؛ من أسرار القرآن: مناسبة فواتح السور لخواتيمها، فمن تتبع فواتح السور سيجدها مناسبة تماماً لخواتيمها، لا تشذ من ذلك سورة واحدة، وذلك من أبدع الفصاحة حين يتعانق آخر الكلام مع أوله، فبعد أن تعرض السورة مواضيع شتى في العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق والجهاد والمسائل الأسرية وغير ذلك، فإنك ستجد في نهاية المطاف آصرة قوية تربط المبدأ بالمنتهى. فعلى سبيل المثال: من يتأمل أول سورة القلم والتي تُنوِّه بأسرار المعرفة السماوية، والحثّ على نشر العلم، وقد بدأت بالقسم: « وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم: ١]، وقد جاء ختام السورة مؤكداً لهذا المعنى الجليل: {وَإن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَـمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إنَّهُ لَـمَجْنُونٌ 51 وَمَا هُوَ إلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} [القلم: 51، 52].

 من يتأمل سورة مريم يجد أن الله سبحانه قد ذكر في أولها رحمته بعبدٍ من عباده وهو سيدنا زكريا: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} [مريم: ٢]، وفي آخرها ذكر رحمته بعباده المؤمنين جميعاً: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِـحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96].

وبشَّر في أولها عبداً من عباده وهو زكريا: {يَا زَكَرِيَّا إنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا} [مريم: ٧]، وبشَّر في آخرها عباده المتقين: {فَإنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْـمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا} [مريم: 79]، فسبحان من أبدع هذا النظْم العجيب، وسبحان من أعجز به العرب والعجم.

  مثــال آخر: افتتح الملك جلَّ جلاله سورة المؤمنون بالثناء على عباده الصالحين، ومدح أوصافهم ومناقبهم: {قَدْ أَفْلَحَ الْـمُؤْمِنُونَ 1 الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: ١، ٢]، واختتم السورة بالدعاء بجلْب المغفرة واستنزال الرحمات: {وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون: 118]، فجاءت براعة الاستهلال مناسبة لروعة الختام! وقال الزمخشري: «قد جعل الله فاتحة سورة المؤمنون: {قَدْ أَفْلَحَ الْـمُؤْمِنُونَ} وأورد في خاتمتها {إنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 117] فشتَّان بين الفاتحة والخاتمة».

  مثــال آخر: افتتح الحقُّ سبحانه سورة القمر بالحديث عن اقتراب الساعة والبعث والحساب: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر: ١]، واختتمها بالحديث عن مصير الفريقين، المجرمين والمتقين: {إنَّ الْـمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} [القمر: 47]، {إنَّ الْـمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} [القمر: 54].

مثــال آخر: افتتح سبحانه سورة الحشر بتسبيح ما في السماوات والأرض لله العزيز الحكيم: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْـحَكِيمُ} [الحشر: ١]، واختتمها أيضاً بتسبيح ما في السماوات والأرض للعزيز الحكيم: {يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْـحَكِيمُ} [الحشر: 24]، ففي مطلع السورة جاء التسبيح بالماضي: {سَبَّحَ}، وفي الختام جاء للاستمرار: {يُسَبِّحُ}!

مثــال آخر: افتتح المولى تعالى سورة القيامة بالقَسَم بهذا اليوم المُروِّع: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القيامة: ١]، واختتم السورة ذاتها بقدرته على بعث الموتى وإحيائهم في ذلك اليوم الرهيب: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أن يُحْيِيَ الْـمَوْتَى} [القيامة: 40]. وهذا المثال نراه يتكرر كثيراً في السور المكيَّة، لاسيما التي تبدأ بالحديث عن القيامة والبعث والنشور، مثل سور: المرسلات، النبأ، الحاقة، الانشقاق، الانفطار، الزلزلة، القارعة، وغيرها.

 إعجــاز خواتيـم السور:

تختلف خواتيم سور القرآن من سورة إلى أخرى مثل اختلاف مطالع السور، وتتصف خواتيم السور والفواتح بالحسن والكمال، فالقرآن سبيكة واحدة لا تفاوت فيها ولا اختلاف.

هذا؛ وقد جاءت خواتيم السور في غاية الترابط والإحكام؛ فالجملة الأخيرة من كل سورةٍ جاءت فخمة جزلة، عظيمة الوقع على السمع والقلب معاً؛ بحيث تهزّ أوتار القلوب بإيقاعها الأخاذ، وتأثيرها النفسي؛ لأنها آخر ما يقرع الأسماع، ولهذا جاءت متضمنة للمعاني البديعة مع إيذان السامع بانتهاء الكلام حتى يرتفع معه تشوّق النفس إلى ما يُذكَر بعد؛ فهي بين تنزيه لله، وأدعية، ووصايا ومواعظ، ووعد ووعيد، وأمر ونهي، إلى غير ذلك.

وإذا كانت فواتح السور تشير إلى مقصودها لتهيئ النفوس والقلوب لاستقبال تلك المقاصد وتمثلها - كما أشرنا آنفاً - فإنَّ خواتيم السور هي الأخرى قد جاءت على نحو بديع وعجيب، حيث اشتملت من خلال آياتها وتراكيبها بلوحتي إيقاعها الصوتي على ما يذكر ويُلخِّص المقاصد الهامة في السورة. فخواتيم السور لها دور مهم في الكشف عن مقاصد السور ذاتها، وهذا يكشف بدوره عن مدى الترابط الوثيق بين أجزاء السور. وفي الاستقراء التام لختام السور نرى بوضوح كيف صيغت على نحو يشير بشكلٍ واضح إلى تلك الأغراض، يقول ابن أبي الإصبع في كتابه: «بديع القرآن»[2] وهو يستعرض هذه الخواتيم مبيناً دورها وأثرها في الكشف عما نحن بصدده: «جميع خواتم السور الفرقانية في غاية الحسن ونهاية الكمال، لأنها بين: أدعية، ووصايا، وفرائض، وتحميد، وتهليل، ومواعظ، ومواعد، إلى غير ذلك من الخواتيم التي لا يبقى للنفوس بعدها تشوُّق إلى ما يقال». ثمَّ استرسل في ذِكْر خواتيم السور وجمعها لخلاصة المقاصد فيها، كالدعاء الذي خُتِمت به البقرة، والوصايا في خاتمة آل عمران، والفرائض في خاتمة النساء، والتبجيل والتعظيم في خاتمة المائدة، والوعد والوعيد في خاتمة الأنعام.. إلخ.

إننا إذا وقفنا مع هذه الخواتيم بشيء من التدبر والتفكر؛ سنجد أنها تشير بشكلٍ واضح إلى المقصود الأعظم في السورة، فالدعاء في خاتمة سورة البقــرة بما يحمل من معاني جمة ومركزة، كلها طلب للإعانة والقدرة على امتثال التكاليف العقدية والشرعية والأخلاقية الواردة في ثنايا السورة، ومهما اجتهد المسلم في محاولة للاستجابة لتلك التكاليف يبقى التقصير سمة من أبرز سماته، ومن أجل ذلك جاء الدعاء في خاتمة السورة بطلب عدم المؤاخذة على النسيان والخطأ، وطلب عدم تحمل ما لا نطيق، والعفو والمغفرة والرحمة، فمن خلال هذه المعاني نفهم قيمة «التكاليف الربانية»، والامتحان الإلهي، والذي تمثله أوضح تمثيل «قصة البقرة» بما ترمز إليه من واقع الاستجابة للتكاليف الربانية.

وهكذا؛ ففي نهاية سورة آل عمــران التي جاءت في صورة وصايا آمِرةً بالصبر والمصابرة، والمرابطة، وتقوى الله تعالى. وكذا ختام سورة النســاء بذِكْر الفرائض التي ما كانت سورة النساء في مقصودها إلا إعراباً عن واقع التشريع تجاه قضية من أهم القضايا التي كانت تعاني منها المرأة في الجاهلية، حيث كانت تُحرَم من ميراثها، ومن حقِّها في مالها، بل هي نفسها من الميراث، فتُحبَس في البيت انتظاراً لما يُقرَّر في أمرها، بالزواج، أوْ الرق والعبودية، أوْ غير ذلك من صُوَر الاستعباد والاسترقاق الشنيع، فجاء ختام السورة مُذكِّراً ومُلخِّصاً لمقصود السورة الأعظم، المتعلِّق «بحقوق المرأة» بمختلف أحوالها، في حقوق التركة المالية.

وهكذا؛ كلما أمعنت النظر في سائر خواتيم سور القرآن الكريم ألفيتها تجري على هذا المنوال، ولا تخرج عن هذا الضرب، وإنما الأمر يحتاج إلى تدقيق النظر، والتأمل والتدبر في معاني الكتاب الحكيم، واعتباره وحدة متكاملة متناسقة، مترابطة في أجزائها، ومحكمة في نسجها، وما من سبيل لفهم القرآن وإدراك مقاصده إلا من خلال الدخول بمفاتيح هذه الأبواب التي تعد فيها المطالع والمقاطع من أبرز المداخل الدالة على إدراك مقاصد القرآن وأسراره.

هذا؛ ولا تخرج خواتيم سور القرآن عن المحاور التالية:

تنزيه الله بالتسبيح والحمد: السور التي خُتِمِت بالتسبيح: (يس، الطور، الواقعة، الحشر، الحاقة، النصر)، كقوله سبحانه: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 83].

 أما السور التي خُتِمِت بالحمد: (الإسراء، النمل، الصافات، الزُمُر، الجاثية)، كقوله تعالى: {وَالْـحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 182].

عِلْم الله تعالى وإحاطته بكل شيء: وقد جاء في تسع خواتيم: (النور، لقمان، فُصِّلت، الطلاق، الجن، الحجرات، التغابن، المنافقون، العاديات)، كقوله: {أَلا إنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور: 64].

العظمة الإلهية، أي جلال الله وعظمته: وقد جاء في ست خواتيم: (القصص، الشورى، الرحمن، التين، قريش، الإخلاص) كقوله: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْـجَلالِ وَالإكْرَامِ} [الرحمن: 78].

المشيئة والفضل والقدرة الإلهية: وقد جاءت في ست خواتيم: (المائدة، الحديد، القيامة، المدثِّر، الإنسان، التكوير، الانفطار)، {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 29].

تسلية النبي صلى الله عليه وسلم  وأصحابه وأتباعه بالصبر والصفح: وقد اختتمت به سور: (يونس، النحل، الزخرف، الأحقاف، الغاشية)، كقوله: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 89].

الأمر والنهي: وقد تكرَّر في سُور (الحِجْر، ق، النجم، المزمِّل، الضحى، الشرح، العَلَق، الكافرون، الإخلاص، المعوّذتيْن)، كقوله تعالى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم: 62].

الدعاء، والابتهال، والاستغاثة، والتضرع إلى الله: وهو ما جاء في سور: (البقرة، التوبة، المؤمنون، نوح)، كقوله: {وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون: 118].

الوعد والوعيد لمن لا تنفعهم الذِّكرى، والبشارة لمن اهتدى وأطاع: وقد جاء ذلك في ختام أكثر من ثلاثين سورة: (الأنعام، الرعد، الكهف، مريم، طه، الفرقان، الشعراء، العنكبوت، الروم، السجدة، الأحزاب، سبأ، فاطر، غافر، الدخان، الأحقاف، مُحمَّــد، الفتح، المجادلة، القمر، المُلْك، المرسلات، الانشقاق، الطارق، الغاشية، البلد، البيّنة، الليل، الزلزلة، القارعة، الهُمزة، الماعون، الكافرون، المسد)، كقوله سبحانه: {قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى} [طه: 135].


 


[1] الإتقان في علوم القرآن (مرجع سابق).

[2] بديع القرآن، لابن أبي الإصبع، دار نهضة مصر، القاهرة.

 

 


أعلى