فريضة تحيط بنا ونغفل عنها!

فريضة تحيط بنا ونغفل عنها!

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:

فإن لديننا الذي ختم الله به الأديان والشرائع شعائر عظيمة، ومعالم واضحة؛ أمر الله بتوقيرها، وحذر من العدوان عليها بتفريط أو إفراط، وجعل تعظيمها فرضاً على الفرد، وعلى الأمة، وعلى أهل القدرة؛ فهو حق لله سبحانه وتعالى على عباده، وامتثاله والعناية به برهان على تقوى القلوب، وما أصدقه من برهان، قال عنه سبحانه وتعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32].

وكل ما جاء في كتاب الله العزيز، أو في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما تعبدنا الله به فهو من شعائره ومعالم دينه، فالشعائر هي جميع ما أمر الله به من أمور الدين، وكلُّ ما وجبت علينا طاعة الله فيه أو طاعة نبيه صلى الله عليه وسلم، وتختلف مراتبها بحسب الحال والزمان والمكان، بيد أنها تتفق في وجوب التعظيم، وأن الاستهانة بقدرها قد تردي المرء من حيث لا يحتسب.

وشعائر الله تحيط بحياتنا كلِّها، وهي متنوعة ومتعددة، تدخل فيها الشعائر الظاهرة والباطنة؛ لأن الدين باطنٌ وظاهرٌ، وشعائره عملية واعتقادية، ومنها شعائر مكانية وأخرى زمانية، ومن ضمنها الأركان والواجبات والمستحبات، والمسلم مأمورٌ بأن يعظمها كلَّها، وأن يجلَّها ولا يحلَّها؛ وأن يمتثل أوامر الله فيها، ويجتنب نواهيه، وهذا هو معنى التعظيم وحقيقته؛ فتعظيم شعائر الله إجلالها بالقلب، وإحلالها مكاناً رفيعاً في النفس، وأداؤها برغبةٍ ومحبةٍ، دون تضجر أو تثاقل، مع تكميل العبودية فيها بلا تهاون، أو تكاسل.

ويستلزم تعظيم شعائر الله عدة أمور، هي:

تعظيم الله جل وعلا.

تعظيم ما جاء عنه في كتابه الكريم من أوامر وزواجر.

تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته القولية والفعلية والتقريرية الثابتة.

تعظيم حرمات الله، وهي كل ما يجب احترامه.

وتنقسم شعائر الله إلى أقسام هي: شعائر مكانية، وشعائر زمانية، وشعائر ظاهرة، وشعائر باطنة.

 ومن أمثلة الشعائر المكانية المساجد، وتعظيمها يكون بتعميرها، والتعبد لله فيها كما قال تعالى: {إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْـمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18]، وقال: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [النور: 36].

وأعظم الشعائر المكانية المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، ومسجد النبي، والمسجد الأقصى؛ فقد أخرج البخاري في صحيحه عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ مرفوعاً للنَّبي صلى الله عليه وسلم: «لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ والْمَسْجِدِ الأَقْصَى»، وتعظيم هذه المساجد يكون بمعرفة مكانتها ومنزلتها، واجتناب الذنوب فيها، وشدِّ الرحال إليها وحدها، والدفاع عنها، وحمايتها من الشرك والبدع والمنكرات والمظالم.

وروى الألباني في صحيح الجامع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فضل الصلاة في المسجد الحرام على غيره مئة ألف صلاة، وفي مسجدي ألف صلاة، وفي مسجد بيت المقدس خمسمئة صلاة».

وفي عموم المساجد روى الإمام مسلم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أحب البلاد إلى الله مساجدها»، وما أعظم حنق المنافقين والمبتدعة والكافرين على هذه الشعائر، وأشد كيدهم لها، ولعمارها، والله خير حافظاً.

وأما الشعائر الزمانية، فمثالها شهر رمضان، قال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185]. وتعظيم شهر رمضان يكون بالاجتهاد فيه بسائر أنواع الطاعات، والابتعاد عما يخدش التقوى، ويضيع أجر الصوم. ومما يؤسف له أن هذه الشعيرة الزمانية تتعرض سنوياً لهجمات إعلامية شرسة؛ تسعى لتفريغه من مضمونه الطاهر، وتقليل بركته على الأمة وأفرادها، ولن تصح مقاومة هذا المدِّ الطاغي بغير بث الوعي في الناس عن قيمة هذه الشعيرة ومعانيها ووجوب تعظيمها.

ومنها الأشهر الحرم التي يدخل موسم الحج ضمنها، وتعظيمها يكون بأداء فريضة الحج فيها، والتقرب لله بسائر أنواع الطاعات، خاصة في العشر الأوائل من ذي الحجة، وأيام التشريق، مع ترك المعاصي والمنكرات، لأن إثمها في هذه الأشهر أعظم، ولذلك خصها الله بالنهي عن ظلم النفس خلالها، قال الله سبحانه وتعالى: {إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} [التوبة: 36].

ويروي الإمام أحمد مرفوعاً للرسول صلى الله عليه وسلم قوله عن العشر الأوائل من ذي الحجة: «ما من أيامٍ العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام»؛ يعني: أيام العشر، قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله، قال: «ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلاً خرج بنفسه وماله، ثم لم يرجع من ذلك بشيءٍ».

وجاء في صحيح مسلم عن فضل يوم الجمعة: «خير يومٍ طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خُلق آدم، وفيه أُدخل الجنة، وفيه أُخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة»، وفيه ساعة عظيمة قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يصادفها عبدٌ مسلمٌ وهو يصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه».

ومن أبرز الشعائر الظاهرة الحج إلى بيت الله الحرام، والسعي بين الصفا والمروة، ونهر الدم الحلال في الهدي والأضاحي.

ومن الشعائر الظاهرة المتكررة الأذان للصلوات، ورفع الصوت بالمناداة لها، ولذلك نُدب إليه المسافرون وعابرو الفلوات، وكان رفعه في أي بلدة مانعاً من قتال أهلها. وكم تتأذى منه شياطين الجن والإنس، وما برح أبالسة البشر يحاولون قطعه من ديار المسلمين، أو منعه في بلاد الكفار التي تدعي الالتزام بالحرية.

وتعظيم هذه الشعيرة يكون بترداد النداء وراء المؤذن، والتبكير للصف الأول، وحضور صلاة الجماعة، كما أخرج البخاري في صحيحه عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِي مرفوعاً: «إذَا سَمِعْتُمُ النِّدَاءَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ»، وكما في الخبر المتفق عليه: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا...» الحديث.

ومثال الشعائر الباطنة كل عبادة شرع الله تأديتها في الخلوات بعيداً عن أعين الناس، من جنس أعمال القلوب، وقيام الليل، وصدقة السر، والبكاء من خشية الله، وترك الذنوب، وقد أخرج ابن ماجه في سننه عَنْ ثَوْبَانَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَاماً مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضاً فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ هَبَاءً مَنْثُوراً. قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ. قَالَ: أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا».

ويختلف تعامل الناس مع هذه الشعائر بأنواعها، فمنهم من غلا في تعظيم شعائر الله، حتى أدخل فيها ما ليس منها سواء أكان تعظيماً للأمكنة، أم تعظيماً للأزمنة. وقد روي مرفوعاً عند الشيخين: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد». ويقابلهم على الطرف الآخر أقوام لا يبالون بتعظيم حرمةٍ ولا شعيرةٍ، بسبب ما ضرب على قلوبهم من غفلة، أو ما ران عليها من ذنوب، وأما أهل الهدى وأهل السنة فهم القوم الوسط، الذين عظموا ما عظم الله، وتركوا ما لم يعظمه الله، واتبعوا سنة رسول الله؛ فاتبعوا ولم يبتدعوا.

إن تعظيم الشعائر من علامات سلامة القلوب وصلاحها، وفلاح أصحابها بإذن الله، قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} [الحج: 30]، وإن تعظيمها مرتبط بأعمال قلبية من جنس المحبة والإجلال، وبأعمال ظاهرة، يأتي على رأسها الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمته، والدفاع عن دينه وعن المقدسات، والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ونشر العلم الشرعي، وبث الوعي بدين الله ومعانيه وأسراره البديعة، وحكمه البالغة، ومن أجلِّها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بمعناه الواسع، وشموليته الكاملة، وهي بحد ذاتها شعيرة واجبة، وبفعلها تُحمى الشعائر من التفريط والتبديل والتضييع.

ومما يحسن التنبيه إليه، ضرورة بث مفهوم شعائر الله وتعظيمها في المساجد وخطب الجمعة وكلمات الوعاظ، وفي البيوت والمحاضن التربوية، حتى يعيش الناس لذة التعبد لله سبحانه وتعالى كاملة غير منقوصة، وكي يستشعروا عظمة ما هم فيه من عبادة أو حال أو زمان أو مكان، فيكون الإخلاص أعظم، والأثر أكبر، والأجر أكثر، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

 

 

أعلى