زكاء النفس في عصر الحداثة

زكاء النفس في عصر الحداثة


من المقاصد والمنن العظمى التي جاءت بها الرسالة المحمدية زكاة النفس بتنميتها بالخيرات والبركات، وطهارتها ليستحق الإنسان الأوصاف المحمودة في الدنيا، والأجر والمثوبة في الآخرة[1]، يقول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّـمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْـحِكْمَةَ وَإن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [الجمعة: ٢].

لذا يتوجه الخطاب الشرعي للمسلم على الدوام بالمحافظة على جادة تزكية النفس بتطهير نفسه من الذنوب، وتنقيتها من العيوب، وترقيتها بطاعة الله، وإعلائها بالعلم النافع والعمل الصالح[2]، يقول الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا 9 وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 9، 10].

وكلما هبت ريح الفتن العاصفة التي تُذهِب بهاء زكاء النفوس اشتدت الحاجة إلى الاستعصام بعرى الإيمان والتقوى، فكيف ونحن في زمن الفتن التي تموج موج البحر، والتي جسدتها الحداثة الغربية وصبغت وجه الحياة المعاصرة جميعاً بسوادها الحالك وسديمها المهلك.

 روى أسامة بن زيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم  أشرف على أطم من آطام المدينة ثم قال: «هل ترون ما أرى؟ إني لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم، كمواقع القطر» (متفق عليه). 

وبرغم أن بعض الشراح قد حققوا مناطه - اجتهاداً - على فتنة الصدر الأول، إلا إنه تعبير دلالي معجز لا يمنع أن يتكرر نوع الفتن هذا في آخر الزمان، فهو أشبه ما يدل على الخيوط الأثيرية لأجهزة الإعلام المرئية والمسموعة، والهواتف الجوالة، ونحو ذلك مما يبث في الفضاء ثم ينزل عبر الأقمار الاصطناعية على كل البيوت، وعلى كل العمران البشري في البر والبحر، وسائر الفلوات، تماماً كنزول المطر!

وفي الحديث الذي رواه ابن عمر رضي الله عنه قال: كنا قعوداً عند رسول الله فذكر الفتن، فأكثر في ذكرها حتى ذكر فتنة الأحلاس، فقال قائل: يا رسول الله! وما فتنة الأحلاس؟ قال: «هي هرب وحرب، ثم فتنة السراء، دخنها من تحت قدمي رجل من أهل بيتي، يزعم أنه مني وليس مني! وإنما أوليائي المتقون، ثم يصطلح الناس على رجل كورك على ضلع، ثم فتنة الدهيماء، لا تدع أحداً من هذه الأمة إلا لطمته لطمة، فإذا قيل انقضت تمادت، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، حتى يصير الناس إلى فسطاطين: فسطاط إيمان لا نفاق فيه، وفسطاط نفاق لا إيمان فيه، فإذا كان ذلكم فانتظروا الدجال من يومه أو من غده»[3].  

إذن نجد أن هذه النصوص تجمع على هذا النوع من الفتن العام الشامل الذي لا يمكن التحرز عنه، تماماً كفتن الإعلام المحمل بالثقافات الغازية المدمرة، والملغم بريح العولمة اللاهبة[4].

نظريات الحداثة وحضارتها وجنايتها على النفس البشرية:

دون أن نتعمق فلسفياً في نظريات: التحديث، والحداثة، وما بعد الحداثة[5]، وأدواتها العولمية والإعلامية؛ سننفذ إلى آثارها النظرية والتطبيقية على الحياة البشرية نفسياً واجتماعياً وروحياً، لننظر هل وصلنا إلى نهاية التاريخ حقاً؟!

 انعدام الأخلاق والقيم العليا:

منذ بواكير العهد الصناعي ظهر أن المشروع المركزي للتنوير كان استبدال الأخلاق المحلية والعرفية والتقليدية وكل أشكال الإيمان المتعالي بأخلاق نقدية وعقلانية، قدمت كأساس لحضارة كونية[6].

إن أصل الداء في قيم الحداثة وثقافتها هو إلغاء الإله المنزه والمفارق للإنسان والطبيعة كما جاء في كل الديانات التوحيدية السليمة وتعويضه بالإله المعلمن، فيحل الإله المطلق في الإنسان أو الطبيعة، ليختفي الإله وكل المطلقات حينما تتصاعد درجات التفكيك في عصر ما بعد الحداثة، ويتم تقويض المطلق والمقدس، وتسود النسبية والصيرورة[7].

ثم أصبح الثابت الوحيد في ما بعد الحداثة هو التغير المستمر، والمطلق الوحيد هو عدم وجود مطلق، فيتم نفي الإنساني والإلهي على حد سواء ويتغير تبعاً لذلك مفهوما الزمان والمكان؛ وهكذا ستكون كل القيم منفصلة عن الغيب والمرجعية المتجاوزة للإنسان[8].

لقد تعاظمت في عصر الحداثة النسبية المعرفية والأخلاقية، فأصبح من المستحيل الإيمان بأية قيم لتختفي النزعة النضالية والأحلام المثالية، ويرفض الإنسان إرجاء إشباع اللذة الفردية[9].

أصبح إنسان الحداثة يحارب التضحية بالملذات الحاضرة في سبيل الغايات البعيدة، ويحارب فكرة القبول بالمعاناة المستمرة في سبيل نيل الخلاص في الحياة الأخروية، كما أنه يشككك في قيمة التضحية بالملذات الفردية باسم مصلحة الجماعة أو في سبيل «القضية»[10].

وفي المحصلة: لقد أعلن المجتمع الحديث السائل نهاية فكرة «المجتمع الفاضل»[11].

المال «صنم الحداثة».. ديانة السوق وقيم الاستهلاك: 

يقول محمد أسد: إن الأوربي لا يعرف إلا ديناً إيجابياً واحداً هو التعبد للرقي المادي، أي أن يجعل الحياة - بحسب ظنهم - طليقة من ظلم الطبيعة، إن هياكل هذه الديانة إنما هي المصانع، ودور السينما، والمختبرات، وباحات الرقص، أما كهنتها فهم الصيارفة، والمهندسون، وكواكب السينما، وقادة الصناعة[12].

ثم أصبح الهدف النهائي من الوجود في الكون في مرحلة ما بعد الحداثة السائلة هو الاستهلاك والمزيد من الاستهلاك، وما يحرك المستهلك هو اللذة، فالاستهلاك بالنسبة للمستهلك واجب/ حق؛ فيصبح الاستهلاك - لا الإنتاج - هو هدف المجتمع، ولم يعد هدف المجتمع إشباع الحاجات وإنما تخليقها، وأصبح نمط الاستهلاك وإشباع اللذة، وليس ممتلكات الفرد وإنتاجيته، مؤشراً على مكانته في المجتمع[13].

لقد طبعوا في صميم القناعة أن الناتج الإجمالي للسعادة البشرية يزيد كلما زاد تبادل النقود بين الناس، ففي مجتمع السوق يطغى تبادل النقود على كل شيء[14].

إنها حياة استهلاكية تجعل من العالم بكل أحيائه وموجوداته موضوعات للاستهلاك، تفقد نفعها عند استخدامها، وتفقد معه سحرها وجاذبيتها وإغواءها وإغراءها[15] لقد ألّه الغرب المال، وأشبعوا أنفسهم بالتوهم أنه «القادر على استيعاب تعددية العالم في وحدته، وعلى منع أي حواجز تحول دون انتشاره، إنه حقاً قوة روحية، وهو دون شك المطلق الوحيد الذي يُسمح به في عصر النسبية»[16].

أضفى مجتمع الحداثة صفة الحاجة على ما هو زائد عن الحاجة، وعلى تحويل الهدم للطبيعة بناء، حوّل عالم الأشياء إلى بعد آخر للجسم والروح الإنسانيين ففي هذا المجتمع يتعرفون على أنفسهم في بضائعهم، ويجدون جوهر روحهم في مقتنياتهم[17].

وبذلك استطاعت الحداثة أن توجد ذلك الشيء المشترك، القائد غير المرئي، الذي من الممكن أن يتحكم في الجماهير الدائمة، وهو «الاستهلاك» وتزييف الحاجات الإنسانية، فأصبح من السهل التحكم بهم على الدوام من خلال دفعهم إلى الشعور بـ«الحاجة» دائماً[18].

لقد وصلوا إلى هدف شيطاني: أن الشعب يستمال ويسيطر عليه من خلال استهلاك مقادير من السلع المتزايدة أبداً، ومع وعد بأن مثل هذا الاستهلاك يساوي الحرية ويأتي بالسعادة[19].

تعميق الفردانية وتفكيك المجتمع

الحداثة الغربية منذ تبلورت نظرياتها قائمة على الفردية والإعلاء من شأن الفرد مقابل الجماعة، ثم إنها في مراحل ما بعد الحداثة دفعت بالإنسان الغربي نحو النزوع الشديد «للفردانية/ التفرد» أي التميز والاختلاف عن كل المحيط من حوله، مما يجعله يستسلم لضغوط العولمة باسم الاستقلال الذاتي وحرية توكيد الذات، ثم يؤول إلى زيادة التفكك الهدام والعنيف للأنشطة الحياتية الاعتيادية، والهشاشة المخيفة لشبكات الروابط الإنسانية والالتزامات المتبادلة التي كانت تساندهم وتشعرهم بالأمان[20].

إنها حالة غير مسبوقة من الميوعة والهشاشة واللحظية التي تضرب أشكال الروابط الاجتماعية كافة، وإلغاء منطق الجماعة التراحمية وهو أشد ما يهدد الشكل الحالي للوجود الإنساني المشترك[21].

وتُفاقِم الحالةَ وسائلُ التواصل الاجتماعي حينما أوجدت ما يسمى بـ«المجتمع الافتراضي» الذي ينتهي بمدمنيه إلى العزلة والانفراد حيث يوصل إلى الانفصال التام عن الواقع، ويدفع للتمرد على العادات الحميدة والتقاليد الأصيلة والأعراف والقيم والعائلة والدين والأخلاق، وكذلك أثره في تفكيك الهوية الدينية والاجتماعية والوطنية بل والشخصية؛ فالكل يعيش في هذا المجتمع الغريب حيث لا قوانين تحكمه، ولا مجال للحياء فيه، ولا رقابة عليه ولا على تصرفاته[22].

الثمار المرة.. القلق وانعدام الأمن والحرية:

يقول محمد أسد: إن الإنسان الغربي وبسبب أنه قرر الاستغناء عن كل توجيه ديني فإن عليه أن يخترع حلفاء ميكانيكيين؛ من هنا نما عنده الميل المحموم إلى التقنية والتمكن من قوانينها ووسائلها، إنه يخترع كل يوم آلات جديدة ويعطي كلاً منها بعض روحه لكي تدافع عنه في سبيل وجوده، ولكنها - برغم ذلك - تخلق له حاجات جديدة، ومخاوف جديدة، وظمأ لا يرتوي إلى حلفاء جدد أكثر اصطناعية، فتضيع روحه في ضوضاء الآلة الخانقة، وتفقد الآلة غرضها الأصلي وتتطور إلى صنم بذاته[23].

لقد غدت حياة الحداثة حياة محفوفة بالمخاطر، يحياها المرء في حالة من اللايقين الدائم، وأشد هاجس يساوره هو الخوف من أن تأخذه على حين غرة، ومن الفشل باللحاق بالمستجدات المتسارعة، ومن إغفال تواريخ نهاية الصلاحية، ومن الاحتفاظ بأغراض مهجورة[24].

 وكما يقول قائلهم؛ فإن سادة العالم الجدد في الغرب «يدبرون في ما وراء واجهة أبراجهم الزجاجية العمياء مكائد واسعة، يقررون ما يتوجب علينا ارتداؤه، وتنفسه وشربه، يتصرفون في دماغنا وأحاسيسنا، ويلقحوننا بأمراض فظيعة يسعون من بعد لعلاجها، وأحلام مصفاة أو بكر يحاولون تحقيقها، وكل ذلك لإبقائنا في أيديهم وللاغتناء من آلامنا ومطامحنا»[25].

ولأجل اللهث لإكسير الحرية فقد تحول الإنسان المعاصر إلى إنسان لا يعرف لنفسه معنى إلا من خلال الاستهلاك للأشياء تلك التي لا يشعر بحريته إلا بها وإن كانت هي سبب شقائه وخضوعه.

لقد جعلوا الإنسان يستغني عن حريته بوهم الحرية، إنه ذلك الذي يتوهم أنه حر لأنه يختار بين تشكيلة كبيرة من البضائع والخدمات التي يوفرها نظام السوق الحر الرأسمالي، إنه كالعبد الذي يوهب الحرية في اختيار سيده[26].

مصاب الأمة من طوفان الحداثة:

لئن كان الغرب غارقاً في طوفان حداثته التي جعل من نظرياتها وتصوراتها للكون والإنسان والحياة بديلاً للرسالات السماوية وهدايتها، فبمقدار ما فتحت أمتنا مصاريع أبوابها وكوى منافذها لاستقبال نظريات الغرب وفلسفاته وتصوراته بقدر ما ستصاب من تلك الأوضار والأعطاب.

إن الناظر في مأساة الإنسان المعاصر اليوم يدرك أن الفساد الحاصل في الاجتماع البشري فساد عميق جداً، بمعنى أنه مس توازن الفطرة وخرم صورتها الأولى، وخدش أخص خصائصها الباطنية، فنتج عنه اضطراب كبير وفوضى عارمة في كل مناحي العمران البشري فشاهت الفهوم والتصورات، والأذواق والتصرفات، بل الحياة البشرية أجمعها إلا ما شاء الله[27].

لقد صار الرهان الغربي اليوم قائماً على تدمير الفطرة الإنسانية في الأمة، بما يجعلها قابلة للابتلاع العولمي الجديد، في دينها وأخلاقها، وقيمها الحضارية، وسائر أنماط عيشها على الإجمال، بل نعتقد أنه لم يمر مثله في التاريخ بهذا العمق، وبهذه الإحاطة والشمول[28].

فمن الواضح أننا بدأنا نسير خلف الغرب شيئاً فشيئاً بوضع رهاناتنا على الإنتاج والتقدم المادي، وتأمين حاجات الجسد.. وعلى المستوى النظري؛ فإن هناك انحيازاً واضحاً للشكلي والمادي والحسي على حساب المعنى والمضمون والفحوى والطلاقة والتدفق الداخلي والمشاعر والأحاسيس واللمسات الشخصية، وهذا من ضمن ما وفد من الشوائب والعوالق المصاحبة للتقدم المادي الأصم[29].

إن الغرب يسعى جهده عبر عولمة التقنيات والمنتجات إلى عولمة القيم فظهر ما يسمى «الاستهلاكية العالمية» التي ترى أن العالم والإنسان مادة استعمالية، وترى ضرورة أن يتحول العالم بأسره إلى ساحة كبيرة لا يسودها إلا قوانين العرض والطلب وتعظيم المنفعة المادية واللذة الجنسية، ولذا فهي تحاول ترشيد العالم بأسره لتحويله إلى مصنع وسوق وملهى ليلي[30]

لقد انتقل داء المادية إلى كثير من الأسس التي تقوم عليها العلاقات الاجتماعية في بلداننا الإسلامية، حيث أضحت تقوم - على نحو متصاعد - على تبادل المنافع، وليس على الحب والتقدير والوفاء والتناغم الخلقي والروحي.

وأصبح هناك عزلة شعورية كبيرة، تجتاح الكثيرين، وهناك اندفاع متزايد نحو البحث عن الخلاص الشخصي بعيداً عن خلاص الجماعة[31].

إن المخاوف الماثلة في أن يصاب الضمير الخلقي الجمعي للأمة بتشوهات غير إسلامية، بسبب التأثير الطاغي للثقافة الغربية الذي يسنده الانبهار بالتقدم المادي والتقني والمعرفي للغرب، وسلطان الإعلام المسيطر.. وتسرب بعض اتجاهات الثقافة الغربية إلى مجتمعات المسلمين، مثل النسبية الأخلاقية والميكيافيلية والأنانية، والتسليم بفكرة الصراع والمغالبة حتى في أوساط بعض العاملين للإسلام[32].

لقد تفتقت عبقرية الشيطان اليوم عن أسوأ ما عرفته البشرية من الفتن، في اختراق الشعوب وضربها في أخص خصائصها، وفي جوهر هويتها، فلا يسهل دفع مثل هذا البلاء لطبيعته (العولمية) الشاملة ثقافياً، واجتماعياً، واقتصادياً، وتقنياً، وعسكرياً

إن الإنسان اليوم يفقد سكينة الإيمان، ويدخل في جحيم الحيرة، حيرة الضلال، لقد بدأت ريح العولمة فعلاً تحتل الإنسان قبل احتلال الأوطان، فتجرده من كل قيم الدين، ومن كل مشاعر الخضوع لرب العالمين[33].

تزكية النفس من جاهلية الحداثة:

مما سبق ندرك يقيناً أنه لم تكن البشرية أحوج إلى هداية ربانية لزكاء النفوس وسعادتها مثل هذا العصر، بعد أن تآكلت إنسانيتها وتحللت آدميتها وهبطت إلى عالم الحيوان، وعلى المسلمين مسؤولية جسيمة بالعودة للاعتصام بمعالم الهدى وتزكية النفوس ثم دلالة الناس وهدايتهم له بحكم ميثاقهم الرسالي للعالمين.

فكيف يهدي الإسلام لسلام النفوس وزكائها؟

الإيمان نور القلب وحياة الروح:

يقول الله جل وعلا: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122].

هذان مثلان متقابلان لواجد نور الإيمان وفاقده، وكما وصفهما ابن القيم فإنسان الحداثة «المعرض عن الله له من ضنك المعيشة بحسب إعراضه، وإن تنعم في الدنيا بأصناف النعيم، ففي قلبه من الوحشة والذل، والحسرات التي تقطع القلوب، والأماني الباطلة والعذاب الحاضر ما فيه، وإنما يواريه عن ذلك سكرات الشهوات والعشق، وحب الدنيا والرياسة»[34].

ويقابله من وجد لذة الإيمان والأنس بالرحمن: «فلذة كل أحد على حسب قدره وهمته وشرف نفسه، فأشرف الناس نفساً، وأعلاهم همة، وأرفعهم قدراً من لذته معرفة الله ومحبته والشوق إلى لقائه والتودد إليه بما يحبه ويرضاه، فلذته في إقباله عليه وعكوف همته عليه[35].

ونور الهداية الذي يقذفه الله في قلب المؤمن يحدث أثراً عظيماً على وظائف القلب، أهمها توجيه وظيفة التعقل الوجهة الصحيحة، حيث يركن إلى الوحي وحده يستقي منه العقائد والشرائع، فلا يزال القلب يتعقل المعارف والحكم من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم  فتبنى عقائده على أساس ثابت، وتغذى عواطفه بمعين الخير الصافي، ويخرج ما يضاد ذلك من ظلمات الجاهلية[36]

بعث الفطرة:

إذا كانت حضارة الغرب وحداثته قد طمرت الفطرة بركام كثيف كما أسلفنا فإن الإسلام بهداياته كلها هو دين الفطرة: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30].

والفطرة: هي الصورة النفسانية الأولى التي خلق الله عليها الإنسان بما سوّاها عليه من توازن وكمال، أي قبل تدخل اليد البشرية العابثة فيها، إنها ذلك السر الكامن في قلب الروح، والجوهر المكنون للخلق الإنساني.. فهي المعنى الوجودي لحقيقة «الإنسان»، ذلك هو مقتضى البيان النبوي العميق من قوله صلى الله عليه وسلم : «ما من مولود إلا ويولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟» (متفق عليه).

كما دل عليه المفهوم القرآني، المؤسس لأصل الإيمان في الخلق البشري ابتداء: {وَإذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172].

فكل دلالات الفطرة ترجع إلى أصل واحد هو مدار التوحيد والإخلاص، الذي هو الصورة الجبلية الأولى للنفس الإنسانية[37].

وستظل الفطرة الإنسانية تحس بالتوتر والجوع والظمأ حتى تجد الله وتؤمن به، وتتوجه إليه، هناك تستريح من تعب، وترتوي من ظمأ، وتأمن من خوف، هناك تحس بالهداية بعد الحيرة، والاستقرار بعد التخبط، والاطمئنان بعد القلق، ووجدان المنزل والأهل، بعد طول الغربة والضرب في أرض التيه[38]

وإذا كان انحراف الفطرة ينشأ من الأسئلة المحيرة حول الوجود والكون والحياة وما بعدها فإن جواب ذلك بيناً في كتاب الله لمن قرأه مستبصراً، فبالأجوبة القرآنية اهتدى المؤمن إلى سر وجوده، ووجود العالم كله، لقد عرف الله فعرف به كل شيء، وحل به كل لغز، واهتدى به إلى كل خير، فالعالم مملكة الله، وكل ما فيه من آثار رحمة الله، والإنسان خليفة الله، خلق لعبادة الله، وتحمل أمانة الله، والحياة هبة من الله، والموت قدر من الله، والدنيا مزرعة الله، والآخرة موعد الحصاد والجزاء من الله، والسعيد من اهتدى بهدى الله، والشقي من أعرض عن ذكر الله[39].

الدنيا والآخرة.. الحياة والموت وإعادة التوازن:

 من أقوى أسباب الشقاء في حياة الغرب؛ ومصابه في نظرياته وفلسفاته التي تسيّرها؛ الاختلال الشديد بين ميزان الحياة الدنيا والآخرة، بل الإهمال والإغفال التام لكل ما وراء الحياة والطبيعة، ولك أن تتصور نفسية الذي لا يؤمن بالآخرة وطبيعة تصوره للحياة وطريقة شعوره بها، إن الحياة في حسه هي الأولى والأخيرة، والعمر فرصة واحدة إن لم تنتهب فسوف تضيع! وإذا كان العمر - مهما طال - محدوداً بسنوات، ولذائذ الحس كثيرة ومتنوعة، فالبدار البدار

وعلى ذلك فإن قيد الأخلاق وقيد الضمير وقيد المشاعر الإنسانية كلها قيود غير معقولة، كقيد الحرام سواءً بسواء، ومن ثم تفسد الأخلاق، ويضعف وازع الضمير وتحل المصلحة محله، أما المشاعر الإنسانية والقيم العليا فتعد سخفاً وسذاجة لا تليق بعاقل إذا هي فوتت عليه فرصه للمتاع[40].

ولكي يتزكى المسلم حقاً ينبغي أن يعتدل في حسه ووجدانه بين الدنيا والآخرة والحياة والموت، بأن يكون الأول مرحلة مؤقتة وقنطرة ومسافة تزود للعبور والوصول إلى الثاني الذي هو المآل والمستقر.

وكلما استطاع المسلم التخلص من الضباب الكثيف الذي يصنعه الانهماك في الدنيا، ومنح نفسه ساعة تأمل في لحظة صفاء، وتذكر قرب لقاء الله، فإنه سيتفاجأ بحيوية جديدة تدب في نفسه، ستغير نظرته للكثير من الأمور[41]، وحينما يتمعن المسلم في حقيقة الموت، هذه الحقيقة الكبرى، تسري به سلسلة التساؤلات إلى هذه المفارقة التي نعيشها يومياً، أعني التناقض بين العقيدة والسلوك

إذا كنا نؤمن فعلاً بأن لحظة توديع الدنيا قريبة منا، قريبة جداً، فكيف يا ترى نغفل ونحن نرى أخبار الموتى لا تتوقف؟! {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ} [الأنبياء: ١].

والواقع المشاهد اليوم أن من أكثر ما ينسج حول العيون حجاب الغفلة التنافس الاجتماعي على الدنيا، فالمرء منذ أن يُستجر إلى دوامة المباهاة فإنه لا يكاد يفيق منها إلا على أعتاب القبر

أرأيت أين تنتهي حفلة التكاثر هذه؟ تنتهي عند أول ليلة في القبر، وحينها يكتشف أحدنا أنه ضيع حياته المستقبلية الحقيقية، ولكن بعد ماذا؟ بعد فوات الزمن المحدد من الله جل وعلا: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ 1 حَتَّى زُرْتُمُ الْـمَقَابِرَ} [التكاثر: ١، ٢][42].

ومع ذلك فليس في الإسلام ردة فعل تنزع إلى الرهبانية فهو يسعى إلى التوفيق الدائم بين أهداف الحياة وضرورات المجتمع ونوازع الفرد، دون أن يطغى شأن على شأن، بل إن من أهداف الحياة الأصيلة في الإسلام ترقية الحياة ذاتها والارتفاع بها على الدوام، ومن وسائل هذا الارتفاع «الروح» من خلال اتصالها الدائم بالحقيقة الكبرى في هذا الكون[43].

نداء الضمير:

في داخل الإنسان «نفس لوامة» يدفعها نداء الزكاء في خطاب الوحي وتعاليمه نحو الارتقاء للمحافظة على القيم العليا، لكي لا تهبط فتصبح نفساً أمارة بالسوء[44].

إنه نداء الضمير، الصوت الداخلي الذي يجتذبه نحو داعي الفطرة النقية، وهو واعظ الله في قلب كل مسلم كما جاء في الحديث، الذي يدفعه للتذكر ثم الإفاقة والعودة: {إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف: 201].

هو الحصن الأول والأخير أمام غارات وغوائل الفتن عموماً، وفتن الحداثة والحضارة المعاصرة خاصة؛ فمهما بنيت حصون المناعة والوقاية فلا مناص من سد الرقابة الذاتية الصلب، خاصة مع فتن عولمة الإعلام والإنتاج المادي التي سربلت القلوب وغشت الأبصار.

الفطام لضبط النفس:

لا تنفك النفس عن الحاجة للفطام المستمر عن عوائدها ومشتهياتها التي تقودها إلى الحرام أو الغفلة ونسيان حق الله والدار والآخرة

إنه الضبط الواعي، المنظم المتحكم الذي يحد من تيار الشهوات وتقف به دون حدوث الضرر، فهي قيود ليست للكبت وإنما لحفظ كيان الفرد من الانهيار أمام ضغط الشهوات المتحللة[45].

إن من أفظع نتائج هذا الانهماك المضني في تروس المدنية المعاصرة تلك القسوة التي تدب في القلوب فتستنزف الإيمان، وتفرغ السكينة الداخلية. ألم يحن لنا أن نستقطع وقتاً نهرب فيه من هذا التطاحن المعاصر لنعيد شحن أرواحنا بالإيمان؟![46].

المجاهدة وتربية الإرادة

وفوق الفطام وأمنع منه تأتي الإرادة الواعية، وهي مَلَكة تروض النفس للسيطرة والتوجيه والفاعلية على النوازع البشرية والرغبات الجبلية بحيث تستقيم على الأمر والنهي، وفي العصر الذي التبست فيه المعايير والقيم، ومُيّعت الثوابت الصلبة، وتحللت الحوائل والموانع، نحتاج إلى «التأبي الخلقي» بحيث ننمي ببطء مقاومة قيم العصر السائدة، ونكف عن رؤية الأشياء في ضوء المعايير القائمة.

اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.


 


[1] المفردات للراغب الأصفهاني ٣٨١، وانظر: المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم لمحمد حسن جبل ٩٢٦-٩٢٧.

[2] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ٤/١٩٧٢.

[3] رواه أحمد وأبو داود والحالك، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (٤١٩٤).

[4] ميثاق العهد في مسالك التعرف إلى الله، فريد الأنصاري 11- 13.

[5] انظر: دراسات معرفية في الحداثة الغربية، عبد الوهاب المسيري ١٠٠.

[6] الدولة المستحيلة.. الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي، وائل حلاق ٤٠.

[7] الاتصال الجماهيري وسؤال القيم، هشام المكي ٢٦٦-٢٦٧.

[8] الاتصال الجماهيري وسؤال القيم ٢٤٨-٢٤٩.

[9] دراسات معرفية في الحداثة الغربية ١١١-١٢٠.

[10] الحياة السائلة، زيجمونت باومان ٧٤

[11] السابق٣٣ .

[12] الطريق إلى مكة، محمد أسد 373.

[13] دراسات معرفية في الحداثة الغربية ١٠٦.

[14] الحب السائل، زيجمونت باومان ١٠٦.

[15] الحياة السائلة ٣٠

[16] بؤس الرفاهية.. ديانة السوق وأعداؤها،  باسكال بروكنر ٤٨.

[17] الإنسان ذو البعد الواحد، هربرت ماركوز ٤٥.

[18] صناعة الواقع.. الإعلام وضبط الواقع، محمد علي ٦٩.

[19] السابق  ٩٨.

[20] الحياة السائلة ٦٥، الحب السائل ٢٧.

[21] الحب السائل ١٣٢، ١١٤.

[22] صناعة الواقع.. الإعلام وضبط الواقع ١٧٠، ١٧٧

[23] الطريق إلى مكة ٣٧٣.

[24] الحياة السائلة ٢٢.

[25] بؤس الرفاهية ٦٦.

[26] صناعة الواقع ٩٨، ١٢٠.

[27] الفطرية بعثة التجديد المقبلة، فريد الأنصاري ٩٩.

[28] السابق ١٢.

[29] عصرنا والعيش في زمانه الصعب، عبد الكريم بكار  ٣١.

[30] الفلسفة المادية وتفكك الإنسان، عبد الوهاب المسيري ١٧١-١٧٢.

[31] عصرنا والعيش في زمانه الصعب 33.

[32] رؤى تأصيلية في طريق الحرية، صالح الحصين ٨٠.

[33] ميثاق العهد في مسالك التعرف إلى الله، فريد الأنصاري 14- 16.

[34] الجواب الكافي ١٦٤.

[35] الفوائد ١٥١.

[36] أثر الإيمان في تحصين الأمة الإسلامية ضد الأفكار الهدامة، عبد الله الجربوع: ٢٧٨-٢٧٩.

[37] الفطرية بعثة التجديد المقبلة ٩٥-٩٨.

[38] الإيمان والحياة، يوسف القرضاوي ٩٦.

[39] السابق بتصرف 103-105.

[40] ركائز الإيمان، محمد قطب ٤٠٠-٤٠١

[41] رقائق القرآن، إبراهيم بن عمر السكران ٥١.

[42] رقائق القرآن ١٩-١٨/٢٣-٢٢.

[43] الإنسان بين المادية والإسلام، محمد قطب ٧١-٧٠.

[44] ركائز الإيمان ١٦٦.

[45] الإنسان بين المادية والإسلام ٦٩/٩١/٨٣/٧٩.

[46] رقائق القرآن ٧-٦.

أعلى