فقه التعامل مع الحسنات

فقه التعامل مع الحسنات


التعامل مع الأحكام الشرعية والوقائع والمستجدات يحتاج إلى فقهاء لهم دراية كاملة بالأدلة والواقع، وهذا يحتاج إلى دراسة مستفيضة واعية، وهذا الفقه اهتم به كثير من العلماء والفقهاء، وكتبت فيه الدراسات والأبحاث الكثيرة، ولكن هناك فقهاً غاب عن كثير من الناس، ولم يهتم به علماؤنا وفقهاؤنا كاهتمامهم بفقه العبادات والمعاملات وهو فقه التعامل مع الحسنات، فإذا كان ميزان فقه العبادات والمعاملات هو الأدلة والمصادر والمقاصد.. فإن فقه الحسنات ميزانه مثقال الذرة الذي يترتب عليه دخول الجنة أو النار، فقد يثقل الميزان بمثقال ذرة فيفوز العبد، وقد يختل الميزان بسب مثقال ذرة فيخسر؛ من أجل ذلك لا بد أن نتعامل مع الحسنات بفقه يحافظ على حسناتنا وينميها، ويحقق لنا السعادة في الدنيا والآخرة، ومن فقه التعامل مع الحسنات:

المحافظة على الحسنات من الإحباط:

قد يكون الحصول على الحسنات أمراً يسيراً بشق تمرة أو بتبسمك في وجه أخيك، ولكن الحفاظ عليها يحتاج إلى صبر ومثابرة، لأن العبد عند حصوله على الحسنات قد أرغم أنف الشيطان، وتفوق على حظوظ نفسه وهواه وتغلب على صعوبات كثيرة حتى حصل على الحسنة.

وبعد اجتياز مرحلة المجاهدة مع الشيطان والنفس - قبل وأثناء فعل الطاعة - تأتي مرحلة المجاهدة للحفاظ على الطاعة والحسنات من أن تحبط، فبعد فعل الطاعة يأتي الشيطان إلى العبد وتتدخل النفس الأمارة بالسوء وهواه وغير ذلك ليضيع الحسنات التي جمعها، فأهم ما في الطاعات والحسنات أن تجيء بها يوم القيامة دون أن تحبط؛ لذا قال تعالى: {مَن جَاءَ بِالْـحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160].فلم يقل من فعل الحسنة، لأن من جاء بها كانت سليمة من الإحباط، ومن محبطات الأعمال: الإشراك بالله، والاستهزاء بدين الله، والنفاق والرياء، والعجب، ومعاصي الخلوات، وظلم الناس قولاً وفعلاً، وغير ذلك من الأعمال.

الإكثار من الأعمال الصالحة في الأزمنة والأمكنة والأحوال الفاضلة:

من حيث شرف الزمان، هناك أعمال تتضاعف حسناتها في أزمنة معينة، كالأعمال في شهر رمضان، والعشر الأوائل من ذي الحجة، وفي عاشوراء فصيامه يكفر السنة الماضية وغير ذلك من الأزمنة الفاضلة التي تتضاعف فيها الحسنات.

وشرف المكان، حيث خص الله بعض الأماكن بميزات عديدة تؤدى فيها العبادات على هيئتها ولكن يتحصل فيها العبد على أجور كثيرة، فالصلاة في المسجد الحرام بألف صلاة، والصلاة في أي مسجد في جماعة بسبع وعشرين درجة.

وشرف الأحوال، فالعبادة في جوف الليل والصلاة والناس نائمون من أفضل القربات بعد صلاة الفريضة، والصلاة والناس في هرج ومرج وغفلة أفضل من غيرها، يقول صلى الله عليه وسلم: «العبادة في الهرج كهجرة إلي»[1]، يقول النووي: المراد بالهرج هنا الفتنة واختلاط أمور الناس، وسبب كثرة فضل العبادة فيه أن الناس يغفلون عنها ويشتغلون عنها، ولا يتفرغ لها إلا أفراد[2].

تقديم العمل المتعدي نفعه على العمل القاصر:

ومن فقه التعامل مع الحسنات أن يقدم العمل المتعدي نفعه على العمل القاصر على النفس، وهذا بالطبع بعد القيام بالواجبات والفرائض التي لا يسع المسلم تأخيرها أو تأجيلها أو تقديم أي عمل عليها كالصلاة المفروضة، والصيام المفروض وغير ذلك من الفرائض.

والعمل المتعدي نفعه من أعظم الأعمال أجراً، وأكثرها مرضاة لله تعالى؛ وذلك لأن نفعها وأجرها وثوابها لا يقتصر على العامل وحده، بل يمتد إلى غيره من الناس، حتى الحيوان، فيكون النفع عاماً للجميع، وإن فقه تقديم العمل المتعدي نفعه على العمل القاصر على النفس قد نبه عليه الإسلام وحث عليه وبين أنه لا مقارنة بين من يعمل لنفع الناس والأمة ومن يعمل من أجل نفسه ونجاتها فقط، وهناك نصوص كثيرة توضح لنا ذلك منها قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْـحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْـمَسْجِدِ الْـحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِـمِينَ} [التوبة: 19]، وقوله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد: 10]، وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أحب الناس إلى الله أنفعهم، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخ لي في حاجة أحب إلى من أن أعتكف في هذا المسجد، يعني مسجد المدينة، شهراً، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظه، ولو شاء أن يمضيه أمضاه، ملأ الله قلبه أمناً يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى أثبتها له، أثبت الله قدمه على الصراط يوم تزل فيه الأقدام»[3]. إلى غير ذلك من الأدلة.

الاهتمام بالعمل الأكثر نفعاً والأبقى أثراً:

من الممكن أن يجعل المسلم له عمراً آخر بل أعماراً عديدة، عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له»[4].

فعلى المسلم المداومة على العمل الصالح وإن قل، فعن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم كان يحتجر حصيراً بالليل فيصلي ويبسطه بالنهار فيجلس عليه فجعل الناس يثوبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيصلون بصلاته حتى كثروا فأقبل فقال: «يا أيها الناس خذوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا وإن أحب الأعمال إلى الله ما دام وإن قل»[5]، وكان صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملاً أثبته وكان إذا نام من الليل أو مرض صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة[6].

الموازنة بين الأعمال (ترتيب الأولويات ومراعاة ما يقتضيه الوقت):

يقول ابن القيم: «إن أفضل العبادة العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته، فأفضل العبادات في وقت الجهاد الجهاد، وإن آل إلى ترك الأوراد من صلاة الليل وصيام النهار، بل ومن ترك إتمام صلاة الفرض كما في حالة الأمن. والأفضل في وقت حضور الضيف مثلاً القيام بحقه والاشتغال به عن الورد المستحب. وكذلك في أداء حق الزوجة والأهل. والأفضل في أوقات السحر الاشتغال بالصلاة والقرآن والدعاء والذكر والاستغفار. والأفضل في وقت استرشاد الطالب وتعليم الجاهل الإقبال على تعليمه والاشتغال به. والأفضل في أوقات الأذان ترك ما هو فيه من ورده والاشتغال بإجابة المؤذن. والأفضل في أوقات الصلوات الخمس الجد والنصح في إيقاعها على أكمل الوجوه والمبادرة إليها في أول الوقت... والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه أو البدن أو المال الاشتغال بمساعدته وإغاثة لهفته وإيثار ذلك على أورادك وخلوتك. والأفضل في وقت قراءة القرآن جمع القلب والهمة على تدبره وتفهمه حتى كأن الله تعالى يخاطبك به... والأفضل في وقت الوقوف بعرفة الاجتهاد في التضرع والدعاء والذكر دون الصوم المضعف عن ذلك. والأفضل في أيام عشر ذي الحجة الإكثار من التعبد لاسيما التكبير والتهليل والتحميد فهو أفضل من الجهاد غير المتعين. والأفضل في عشر رمضان لزوم المسجد والخلوة والاعتكاف دون التصدي لمخالطة الناس والاشتغال بهم، فإنه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلم وإقرائهم القرآن عند كثير من العلماء. والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته عيادته وحضور جنازته وتشييعه وتقديم ذلك على خلوتك. والأفضل في وقت نزول النوازل وأذية الناس لك أداء واجب الصبر مع خلطتك بهم دون الهرب منهم؛ فإن المؤمن الذي يخالط الناس ليصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالطهم ولا يؤذونه. والأفضل خلطتهم في الخير فهي خير من اعتزالهم فيه، واعتزالهم في الشر أفضل من خلطتهم فيه، فإن علم أنه إذا خالطهم أزاله أو قلله فخلطتهم حينئذ أفضل من اعتزالهم. فالأفضل في كل وقت وحال إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال، والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه. وهؤلاء هم أهل التعبد المطلق، والأصناف قبلهم أهل التعبد المقيد، فمتى خرج أحدهم عن النوع الذي تعلق به من العبادة وفارقه يرى نفسه كأنه قد نقص وترك عبادته، فهو يعبد الله على وجه واحد، وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبد بعينه يؤثره على غيره، بل غرضه تتبع مرضاة الله تعالى أين كانت، فمدار تعبده عليها فهو لا يزال متنقلاً في منازل العبودية، كلما رفعت له منزلة عمل على سيره إليها واشتغل بها حتى تلوح له منزلة أخرى»[7].

إذا أسأت فأحسن وتب واستغفر:

لا يخلو أحد من معصية ولولا ستر الله علينا ما سر أحد ولا هنئت معيشته بسبب سيئاته، ولكن نأمل في سعة رحمة الله ونلجأ إلى باب التوبة والاستغفار، ولكن من فقه المسلم أنه إذا أساء ووقع في المعصية أن يتبعها بالحسنة، قال صلى الله عليه وسلم: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن»[8].

كما أنه لا يُكتفى بفعل الحسنات بعد السيئات بل لا بد من التوبة والاستغفار.


 


[1] أخرجه مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب فضل العبادة فى الهرج.

[2] شرح النووي على صحيح مسلم (18/88-89).

[3] رواه ابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج، وحسنه الألباني في الترغيب (2623).

[4] أخرجه مسلم، كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته.

[5] أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب الجلوس على الحصير ونحوه. ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره.

[6] أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب جامع صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض، من حديث عائشة رضي الله عنها.

[7] مدارج السالكين 1/88.

[8] رواه الترمذي وقال حديث حسن.

 

 

 

أعلى