معالم تيمية في تقويم كتب الفرق والمقالات

معالم تيمية في تقويم كتب الفرق والمقالات

ولم أر في عيوب الناس عيباً           كنقص القادرين على التمام

طالما أنشدنا هذا البيت، وها نحن نردده عندما نعاين ما حققه ابن تيمية وحرره بشأن مقالات الفرق الإسلامية وتاريخها ورجالاتها

وأصولها وآرائها، ولا يزال هذا التراث النفيس متناثراً في موسوعاته الكبيرة، وإنما يحتاج إلى جمع واستخراج، وسبك وصياغة، وتبويب وترتيب على غرار كتب المقالات والفرق المشهورة، ومع تيسّر هذا المشروع وأهميته إلا أنه ما زال غائباً عن الساحة العلمية السنية[1]!

لقد كان أبو العباس آية باهرة في الدراية بمقالات الفرق والملل، حتى قال عنه تلميذه ابن عبد الهادي: «أما معرفته بالملل والنحل، والأصول والكلام، فلا أعلم له فيه نظيراً... ومعرفته بالتاريخ والسير فعجب عجيب»[2]، بل إن ابن تيمية قال في ثنايا مناظرته بشأن العقيدة الواسطية: «أنا أعلم كل بدعة حدثت في الإسلام، وأول من ابتدعها، وما كان سبب ابتداعها»[3].

وسنقتصر في هذه المقالة على جملة من معالم منهجية صاغها أبو العباس في نقد وتقويم كتب الفرق والمقالات المشهورة والمتداولة.

كشف ابن تيمية عن موارد كتب المقالات، وأنها تنقل عن المعتزلة فقال: «المصنفون في المقالات ينقلون كثيراً من كتب المعتزلة، كما نقل الأشعري وغيره ما نقله في المقالات من كتب المعتزلة، فإنهم من أكثر الطوائف وأولها تصنيفاً في هذا الباب، ولهذا توجد المقالات منقولة بعباراتهم»[4].

وبيّن في موضع آخر أن الشهرستاني في كتابه الملل والنحل «ينقل من كتب من صنّف المقالات قبله، مثل أبي عيسى الورّاق وهو من المصنفين للرافضة، المتهمين في كثير مما ينقلونه، ومثل أبي يحيى وغيرهما من الشيعة، وينقل أيضاً من كتب بعض الزيدية والمعتزلة الطاعنين في كثير من الصحابة»[5]. ومن ذلك أن الشهرستاني نقل قصة مناظرة إبليس للملائكة، ومعارضة إبليس لشرع الله وقدره، وقد تداولها كثير من المتأخرين، لكن نقد ابن تيمية هذه المناظرة وبين أنها ليس لها إسناد يُعتمد عليه، وأنها أشبه بوضع مكذبي القدر، والشهرستاني ينقل عن المعتزلة مكذبي القدر، ومرادهم من هذه المناظرة: الرد على مثبتي القدر، وأن حجة الله على خلقه لا تتم إلا بإنكار القدر[6].

وإذا كان كتّاب المقالات يعولون على كتب المعتزلة، حتى إن الشهرستاني حكى تلك المناظرة التي تؤيد نفي القدر، مع أنه من الأشاعرة الذين يقولون بالكسب والجبر؛ فإن هذا يستدعي التثبت والتمحيص أثناء النقل والتعامل مع كتب المقالات.

ويؤكد أهمية التأمل والتمحيص فيما سطره أرباب كتب المقالات أن أبا العباس نبّه على ما يقع في عموم كتب المقالات من الغلط في نقل الأقوال بغير ألفاظ أصحابها، وإن لم يتعمدوا الكذب، وأنه يتعسّر أو يتعذر معرفة أقوال الطوائف بنفس ألفاظهم[7]. ويجلي ذلك أيضاً قوله: «الشهرستاني قد نقل في غير موضع أقوالاً ضعيفة، يعرفها من يعرف مقالات الناس، مع أن كتابه[8] أجمع من أكثر الكتب المصنفة في المقالات وأجود نقلاً... وهذا من جنس نقل التواريخ والسير ونحو ذلك من المرسلات والمقاطيع وغيرهما مما فيه صحيح وضعيف»[9]. وهذا التصحيف والغلط أمرٌ يلحظه الباحث في تفاصيل أسماء الفرق المتفرعة عن الفرق الكبرى، وأسماء رؤوسها فضلاً عما يقع من غلط وتصحيف في مقالات الفرق نفسها وآرائها.

قرر ابن تيمية في غير موضع أن كتّاب المقالات والفرق الإسلامية يسوقون عموم أقوال الفرق والطوائف، ولا يوردون مقالة السلف الصالح، فقال رحمه الله: «قد تدبّرت كتب الاختلاف التي يُذكر فيها مقالات الناس إما نقلاً مجرداً، مثل كتاب المقالات لأبي حسن الأشعري، وكتاب الملل والنحل للشهرستاني، ولأبي عيسى الورّاق، أو مع انتصار لبعض الأقوال كسائر ما صنفه أهل الكلام على اختلاف طبقاتهم، فرأيتُ عامة الاختلاف الذي فيها من الاختلاف المذموم، وأما الحق الذي بعث الله به رسوله، وأنزل به كتابه، وكان عليه سلف الأمة فلا يوجد فيها في جميع مسائل الاختلاف، بل يذكر أحدهم في المسألة عدة أقوال والقول الذي جاء به الكتاب والسنة لا يذكرونه، وليس ذلك لأنهم يعرفونه ولا يذكرونه بل لا يعرفونه»[10]. وقال في كتاب آخر: «لهذا يوجد كثير من المتأخرين المصنفين في المقالات والكلام يذكرون في أصل من أصول الإسلام الأقوال التي يعرفونها. وأما القول المأثور عن السلف والأئمة الذي يجمع الصحيح من كل قول فلا يعرفونه، ولا يعرفون قائله»[11]. وبيّن في موضع ثالث أن كتّاب المقالات والفرق لما لم يذكروا القول الذي جاء به الرسول، صار الناظر في كتبهم حائراً فليس فيما ذكروه ما يهديه ويشفيه[12].

ومع أن ابن تيمية احتفى بـ«مقالات الإسلاميين» للأشعري، ووصفه بأنه أجمع الكتب التي رآها، وأن الأشعري أعلم بالمقالات، وأنه حكى مقالات للفرق الإسلامية بتفصيل لم يذكره غيره، إلا أنه انتقده بأنه حكى مذهب السلف الصالح مجملاً وبحسب فهمه، فقال رحمه الله: «من أجمع الكتب التي رأيتها في مقالات الناس المختلفين في أصول الدين كتاب أبي الحسن الأشعري، وقد ذكر فيه من المقالات وغيرها ما لم يذكره غيره، وذكر فيه مذهب أهل الحديث والسنة بحسب ما فهمه عنهم»[13].

ويُلحظ مما سبق نقله ما عليه ابن تيمية من مسلك مطّرد في العدل والإنصاف مع كتّاب المقالات؛ إذ أوضحأنهم لم يذكروا مقالة السلف الصالح لأنهم لا يعرفونها، وليس كراهيةً لمذهب السلف، ولا تعمداً لتركه.

ثم إن في تلك النقول إشارة مهمة لابن تيمية في تقرير تقسيم مفيد لكتب المقالات، حيث جعلها على قسمين، أحدهما: كتب المقالات التي تنقل نقلاً مجرداً، بلا نقد ولا نقض مثل كتاب الملل والنحل للشهرستاني، وبالرجوع إلى كتاب الشهرستاني نجده اشترط على نفسه أن يورد مذهب كل فرقة من غير كسر عليهم، ولا تبيين صحيحه من فاسده[14]، والقسم الآخر: كتب المقالات التي تناقش آراء الفرق وتنقض شبهاتهم كما هو في «الفصل» لابن حزم.

ومن التقاسيم المهمة التي ساقها ابن تيمية، أن الناس في ترتيب أهل البدع على أقسام، منهم من يرتبهم على زمان حدوث البدعة، فيبدأ بالخوارج، ومنهم من يرتبهم بحسب خفة أمرهم وغلظه، فيبدأ بالمرجئة ويختم بالجهمية[15].

وكعادة أبي العباس في تحري السنة النبوية، وتنزيل الناس منازلهم فإنه قرر أن الأشعري أعلم بمقالات الفرق الإسلامية من الشهرستاني، والشهرستاني أعلم بذلك من الغزالي[16]. وفصّل ابن تيمية في موضع آخر تلك المفاضلات، وما يتميّز به بعض كتّاب المقالات والفرق عن سائرهم، فقرر أن أبا الحسن الأشعري أعلم بمقالات المعتزلة فقال: «مع أنه [الأشعري] يحكى ذلك كما وجده في كتب المعتزلة فإن كان أعلم بمقالتهم، وما نقلوه من مخالفيهم من قول غيرهم؛ لأنه كان منهم وبقي على مذهبهم أربعين سنة، ثم انتقل إلى نحو من مذهب ابن كلاب وما يقاربه من مذهب أهل السنة والحديث، ولهذا يوجد علمه بمقالات المعتزلة علماً مفصلاً محكماً»[17]، وبين أن الشهرستاني أجود نقلاً لمذهب الأشاعرة ومذهب الفلاسفة؛ لأنه كان خبيراً بذلك[18]. كما بيّن في موضع ثالث أن ما صنفه أبو بكر محمد بن إسحاق الكلاباذي في كتابه «التعرّف لمذهب التصوف» هو أجود مما ذكره أبو القاسم القشيري وأصوب وأقرب إلى مذهب السلف[19].

وبالجملة فهذه المفاضلات المحررة تمنح الباحث توثيقاً وطمأنينة في النقل عن الأشعري بشأن المعتزلة، والشهرستاني في حكايته لمذهب الفلاسفة والأشاعرة، والكلاباذي في نقوله عن الصوفية الأوائل.

من براعة ابن تيمية وإنصافه في التعامل مع كتب المقالات أن بيّن إمكانية الاستفادة من ردود بعضهم[20]، كما ينتفع بصوابها في نقد أغلاطها، ومن ذلك أن كتّاب المقالات كالشهرستاني والرازي إنما ينقلون فلسفة أرسطو وابن سينا.. فانتقدهم ابن تيمية ووضح أن الفلاسفة أصناف غير هؤلاء، واحتجّ عليهم بأن القاضي أبا بكر الباقلاني في كتابه «دقائق الكلام» وقبله أبو الحسن الأشعري في كتاب «مقالات غير الإسلاميين» - وهو كتاب كبير أكبر من «مقالات الإسلاميين» - أوردا أقوالاً كثيرة للفلاسفة لا يذكرها هؤلاء[21]. ونقل ابن تيمية عن محمد بن يوسف العامري أن قدماء الفلاسفة - قبل أرسطو - دخلوا الشام، وأخذوا عن أتباع الأنبياء[22].

هذه الدراية العميقة وسعة اطلاع أبي العباس على كتب متقدمة ومفقودة تكشف تهافت حصر الفلسفةبالفلسفة المشائية الأرسطية ومن سلك سبيلها، فهناك فلاسفة كثيرون وسابقون قد تأثروا بالأنبياءوانتفعوا بحكمة النبوة.

قناة البيان المرئية

 

:: مجلة البيان العدد  352 ذو الـحـجــة  1437هـ، سبتمبر  2016م.


[1] تبنى قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية مشروعاً كبيراً بشأن آراء الفرق الإسلامية في مؤلفات ابن تيمية، وأعدّت في ذلك رسائل علمية عديدة لنيل درجة الدكتوراه، واستوفوا عامة الفرق الإسلامية، لكن هذه الرسائل كثيرة وضخمة، وبعضها لم ينشر، وتتفاوت قوةً وضعفاً، كما تختلف في منهجية بحثها وغلب على كثير منها جمع ردود ابن تيمية ومناقشاته لتلك الطوائف فهي أقرب إلى كتب الاعتقاد منها إلى كتب المقالات والفرق.

[2] العقود الدرية، ت: العمران، ص33.

[3] المرجع السابق، ص293، 294.

[4] مجموع الفتاوى 8/ 15.

[5] منهاج السنة النبوية 6/ 301.

[6] ينظر: الملل للشهرستاني 1/6-20، الفتاوى 8/115، ومنهاج السنة 6/307.

[7] ينظر: منهاج السنة 6/303.

[8] يعني كتابه الشهير: الملل والنحل.

[9] منهاج السنة 6/305،304 = باختصار.

[10] منهاج السنة 5/268، وينظر: المرجع نفسه 6/304،303.

[11] الدرء 2/307، وينظر: الفتاوى 5/484.

[12] ينظر: الدرء 9/68،67.

[13] منهاج السنة 5/275، وينظر: المرجع نفسه 5/277-279.

[14] ينظر: الملل والنحل للشهرستاني 1/16.

[15] ينظر: الفتاوى 13/50.

[16] ينظر: النبوات 2/631-634.

[17] بيان تلبيس الجهمية 1/223، 224، وينظر: منهاج السنة 5/277.

[18] ينظر: منهاج السنة 6/304.

[19] ينظر: الاستقامة 1/83.

[20] ينظر: الدرء 9/68،67.

[21] ينظر: منهاج السنة 5/283،282.

[22] ينظر: الرد على المنطقيين ص337.

أعلى