بغداد والتغيير الديمغرافي

بغداد والتغيير الديمغرافي

يعد عام 145هـ نقطة التحول والانقلاب الجذري لمدينة بغداد بعد اختيار الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور لها عاصمة في خلافته، لتصعد إلى قمة الأحداث السياسية مع ما يستتبعه ذلك من تأثير على مجتمعها الجديد، ثم باشر المنصور تأسيس عاصمته الجديدة بغداد ليمثل مجتمعها النموذج المصغر لأجناس وثقافات الخلافة العباسية، ولكن وبكل الأحوال والظروف بقي العنصر العربي يشكل الرقم الأول في رأس الهرم الاجتماعي لأجناس العاصمة بغداد فضلاً عن كونه الفئة الحاكمة للعالم الإسلامي.

الحديث عن عروبة المدينة بدوره لا ينفي مطلقاً خلو المدينة من بقية الأجناس من الجاليات المسلمة الأخرى كممثلين عن شعوبهم في بغداد بل يؤكد مركزية الخلافة في حكم العالم الإسلامي وما كانت تتمتع به بغداد سياسياً واقتصادياً وتأثير ذلك اجتماعياً، وهذا بدوره لا يعطي الحق لأي من تلك الأجناس في ادعاء الأحقية في عائدية بغداد، الأمر الذي يدفع دعاة التشيع حتى ممن يدعي انتماءه العربي لكسر هذا الادعاء، وهذا إن دل على شيء فهو العمق السياسي الذي يخفيه المذهب الشيعي، وعلى ضوء ذلك كانت بغداد وما زالت شغلها الشاغل هو كيفية التصدي للمذهب الشيعي الفارسي الذي كان في كل مواجهة يلبس ثوباً بالياً، فتارة ثوب العلماء وتارة ثوب الوزراء وتارة ثوب التجار.. إلخ.

أساليب التغيير الديموغرافي لمدينة بغداد:

تعود جذور التحديات الشيعية التي يواجهها السنة في العراق وبغداد إلى قدم العقيدة السبئية، لاحتواء السبئية على مرتكزين عقائديين يغنيان عما سواهما في جولات الصراع المتكرر على مر التاريخ الذي شهدته بلاد الرافدين، وهما مبدأ التقية ومبدأ الرجعة للانتقام، فهم منشغلون ومنهمكون جداً في نشر عقائدهم ويتقون عدوهم في أوقات ضعفهم، ويظهرون خلاف ما يبطنون، ثم إنهم جزارون وقتلة ومنتقمون في أيام حكمهم وتسلطهم على البلاد، وعلى ضوء ذلك تعرضت مدينة بغداد لتحديات كثيرة بقدر أهميتها كعاصمة للخلافة العباسية، وللدولة العراقية فيما بعد، وقد اتخذت تلك التحديات أشكالاً وأساليب عدة (منها عسكرية، وسياسية، واقتصادية، ودينية)، ومن الطبيعي أن يرافق ذلك تأثيرات على الحالة الاجتماعية للمدينة وسكانها بقصد تغيير التركيبة السكانية، ونجاح ذلك وفشله يعود على ما يتطلبه من مواقف المجتمع البغدادي والعربي لمواجهة تلك التحديات، لكن الذي يميز كل تلك المواقف أن العنصر العربي بقي بشكل دائم المدافع الأول عن العقيدة والخلافة والدولة مع اختلاف مواقف القوميات الأخرى، مثل أطماع الجالية التركية في الخلافة العباسية أيام المعتصم ونقل العاصمة إلى سامراء بسبب عدم انصياع بغداد لمطامعهم الشخصية.

كذلك ما تعرضت له المدينة زمن التسلط البويهي الذي اعتبر الراعي الرسمي للحركة الشعوبية في القرنين الرابع والخامس الهجريين والتي كانت وما زلت تمثل التحدي الأول والدائم الذي يشغل أحداث الفوضى البغدادية منذ تأسيس بغداد عاصمة للخلافة وإلى يومنا الحاضر، ومن أشكاله السيطرة العسكرية والتي من آثارها طمس فروض الخلافة العباسية، ونشر المذهب الشيعي واتخاذه طابع حياة، وإشهار التعزيات الحسينية ولأول مرة في بغداد، وإجبار النساء البغداديات بالقوة على الخروج ناثرات لشعورهن ويندبن الحسين، وإجبار الناس على التعبد بالمذهب الشيعي، الأمر الذي نسف التعايش السلمي للمجتمع البغدادي من الجذور بل وأدخل مذاهب وإثنيات المجتمع البغدادي في مواجهات مباشرة معهم (ضد البويهيين) فظهرت المعارضة البغدادية العسكرية والدينية التي دامت لأكثر من قرن (334-447هـ) حتى سقوط التسلط البويهي وعودة الهيبة للخلافة العباسية.

ومن صور المقاومة البغدادية للتسلط البويهي ابتكارهم لنظام الحارات المغلقة، ويتمثل بغلق الحارات البغدادية على ساكنيها الأصليين ومنع إدخال العناصر الغريبة إليها واختيار العرفاء للحارات البغدادية، وأخذ العيارون والشطار في تدريب وحماية تلك الأحياء وتشكيل كتائب دفاعية شعبية تكون حاضرة للصدام وقت المواجهة حتى غدت تلك الأحياء ملاذاً آمناً للدعاة البغداديين ولا تستطيع القوات البويهية ملاحقتهم أو اقتحام تلك الأحياء لقوتها، ووصل الأمر إلى لجوء حرس الخلافة والجيش التركي دخلاء عند تلك الحارات، وهذا حدث مراراً وفي كل مرة كان يعجز الجيش الديلمي عن استعادة دخلاء تلك الحارات، وأخذ الخليفة العباسي يتحرر من سطوة البويهيين الإدارية بسبب شعوره بقوة تلك الحارات. وما كان من قرار إلغاء المذهب الشيعي مذهباً رسمياً للبلاد، أو إلغاء الدعوة للفاطميين على المنابر البغدادية، وإلغاء المواكب الحسينية - المظهر الدخيل على مدينة بغداد - إلا نتاج الضغط الجماهيري البغدادي لتلك الحارات، ومن نتاجها أيضاً حماية أفراد الحارات من العوز الاقتصادي ومن ظلم وسراق الجيش الديلمي الشيعي، واشتهرت العديد من تلك الحارات بوقوفها سداً منيعاً أمام التغيير الديموغرافي لمدينة بغداد واضطر البويهيون إلى إسكان جنودهم وعناصرهم خارج أسوار المدينة، وهذا بدوره حصن المدينة من جور التسلط البويهي وأعطى الحصانة للعلماء في ممارسة دورهم التوعوي لفضح العقيدة الشيعية، فلجأت الشعوبية الشيعية إلى أساليب المكر والنفاق للإطاحة بالمجتمع البغدادي السني، ومنها:

أولاً: استدعاء القوات الأجنبية لاحتلال بغداد وإغراؤها بتقديم المساعدات:

أشهرها ما قام به الوزير ابن العلقمي الشيعي من إغراء المغول لاحتلال بغداد وإسقاط الخلافة العباسية بمساعدة نصير الدين الطوسي، فتم لهم ذلك عام 656هـ لتبدأ مرحلة جديدة من المواجهة البغدادية للمد الشيعي لكن تحت ظل الحكام الملاحدة، وما تبع ذلك من الدمار الذي أصاب مدينة بغداد على وجه الخصوص، فقد تعرض المجتمع البغدادي المسلم لإحدى أكبر عمليات الإبادة التي شهدها التاريخ، ودمرت أشهر معالم المدينة ولم يسلم من مجزرة هولاكو سوى النصارى وبعض اليهود والشيعة، وعزز هولاكو إجراءات الاحتلال بطرده لعماله العرب الذين استجلبهم من بلاد فارس ونصب بدلهم الفرس خوفاً من تحرير أرضهم لاشتهار العرب بحميتهم الإسلامية، الأمر الذي كان يفتقده الفرس الشيعة، وسيطر جاثليق النصارى على دار الدويدار الكبير ودار الفلك في بغداد، وتسلط التجار الفرس على الأسواق، وأبرز المغول اهتمامهم بالعلويين لاستمالة الشيعة والصوفية إليهم، وكثر الموالي الفرس والترك في بلاط الحاكم، وبرغم أن العالم الإسلامي بما فيه بلاد فارس كان يدين لله بالتسنن إلا أن سقوط الخلافة العباسية أدى إلى نشاط المذاهب الأخرى بعد تولي أبنائها الوظائف المغولية السلطانية المهمة وبناء الدور لنشر دعوتهم، كما فرض الأيلخان المغولي خربنده المذهب الشيعي بالقوة على المجتمع البغدادي.

وبرغم الهزة العنيفة التي أصابت المجتمع في الصميم، إلا أن العنصر العربي بقي يمثل الصفة الأبرز للتركيبة السكانية لمدينة بغداد، وما الواقع الذي فرضه الاحتلال المتجدد إلا حالة طارئة تزول بزوال المحتل وظهور آخر على المدينة، ويظهر ذلك في تولي عطا ملك الجويني حكم ولاية بغداد وإقامة المشاريع التشجيعية للسكان الأصليين على العودة لمدينتهم بعد الفوضى التي أحدثتها العناصر الوافدة الجديدة الأمر الذي أقره الأيلخان المغولي خصوصاً بعد أن أدت تجربة الجويني في عودة السكان العرب الأصليين إلى زيادة كبيرة في خراج المدينة.

وفي القرنين العشرين والحادي والعشرين عمل الشيعة في العراق وإيران على دفع القوات البريطانية بعد الحرب العالمية الأولى لاحتلال العراق وإنهاء سلطة الدولة العثمانية عليها، وفي عام 2003 عملوا مرة أخرى على تقديم الدعم للقوات الأمريكية والبريطانية من أجل احتلال بغداد كما جاء على لسان أبطحي مستشار الرئيس الإيراني: لولا طهران لما احتلت واشنطن كابل وبغداد، وقد تحقق لهم ما أرادوا وحرصوا أن تكون مكافآتهم امتيازات في زيادة نفوذهم في بغداد ومنها إلى المنطقة برمتها تحت مبدأ شرطي الخليج.

ثانياً: تحالفاتهم مع كل محتل يسعى لضرب المجتمع السني وفرض التشيع:

وهي مرحلة لاحقة، مثل تحالفهم مع غازان حاكم المغول ومن بعده خربنده الذي حاول فرض المذهب الشيعي بالقوة على المجتمع البغدادي ذي الأغلبية السنية الساحقة، فشهدت بغداد تصادماً حاداً بين قضاتها من أهل السنة وبين دعاة ابن مطهر الحلي رأس الشيعة المدعوم من خربنده فقاد القضاة والعلماء بحراك بغدادي منع جيش خربنده العائد مكسوراً من أرض الحجاز بعد أن سول له ابن مطهر الحلي هدم قبري أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، واحتشد حينها اثنا عشر ألف بغدادي بسلاحهم منعوا خربنده وجيشه من دخول بغداد حتى اضطر إلى إعلان براءته من الدين الشيعي وتمكين الدعاة المسلمين في مدينة بغداد.

ومن المكر السياسي في هذه التحالفات أن أبواب الفقه الجهادي لدى الشيعة مؤصدة ومقرونة بخروج الإمام المهدي (ويستثني بعضهم بخروج الإمام العادل)، وبناء على ذلك لم يحفظ لنا التاريخ قط قيام دولة شيعية واحدة بالتوسع على حساب أراضي غير إسلامية بل على العكس كانت كل توسعاتها على حساب الأراضي الإسلامية وبالتعاون مع الصليبية سواء أكانت فاطمية أم بويهية أم قرمطية أم صفوية أم خمينية والأمثلة تطول، ومن مكرهم أن هذا الفقه الذي يغلق أبواب الجهاد للأسباب أعلاه يفتحها على مصراعيها ويعلن الجهاد في حربه إلى صف الجيش المغولي ضد الخلافة العباسية أو مماليك مصر وبلاد الشام، أو أي احتلال للبلاد الإسلامية؟! فهل يمثل لديهم هولاكو المهدي المنتظر أم الإمام العادل وهل يمثل الإنجليز والأمريكان أئمة الهدى والعدل؟! وهذا يقودنا إلى أمرين:

الأول: أن الدين الشيعي ذو طابع سياسي أكثر منه ديني، ومن تحديد الجهة المستفيدة نعلم بوصلة هذا المذهب في دمار الشعوب الإسلامية عبر التاريخ وتغذية التبعية لإيران.

الثاني: ما أوضحه لنا الجاحظ في تمام القرن الثالث الهجري حيث قال: «الشعوبية هي أن تكره العرب وما جاؤوا به من الدين»، فلا يقول أحدهم أكره الدين الإسلامي بل أكره العرب.

ثالثاً: توظيف علاقاتهم بالقيادات السياسية في تنفيذ مشاريعهم الاستيطانية:

من ذلك تقربهم للحكام الظالمين وتزيين الباطل لهم من خلال فتاوى ملفقة على الدين، منها جواز عمل المنكرات لغير المسلم كونه لا تجري عليه أحكام الدين الإسلامي، وشجعوا الحكام المغول المتأخرين ومن تلاهم من جلائريين وغيرهم على الخروج والعودة للدين الشيعي مرات عديدة تبريراً لمواقفهم الإجرامية بحق المجتمع المسلم.

كما يتجلى تقربهم في النيل من الخصوم السياسيين والدينيين من خلال الوشاية بهم وتصفيتهم، ومن ذلك: دفع المغول إلى قتل كل أبناء وأحفاد أسرة ابن الجوزي الحنبلية البغدادية بوشاية من ابن العلقمي الشيعي بسبب قوة تأثيرهم على المجتمع البغدادي، فكان الرد من المجتمع البغدادي إعلان المقاطعة التامة لنائب الحاكم المغولي الجديد وزير الخليفة العباسي ابن العلقمي وإبراز ازدرائه واحتقاره في الطرقات والأسواق، مما أشعر المغول بخيبة أمل في تولي ابن العلقمي لنيابة حكم بغداد، ويروى عن ذلك أن المغول كانوا يمنعون ابن العلقمي من ركوب الخيل وأعطوه برذوناً كثير الحركة يذهب هيبته انتقاصاً منه فرأته إحدى النساء البغداديات وهو في تلك الحال فقالت له: «أهكذا كان شأنك عند خليفة المسلمين؟!»، فطلب ابن العلقمي من هولاكو أن ينقل عمله إلى مقره السلطاني في تبريز بمعية المستشارين المغول فرفض هولاكو طلبه ورد عليه: «لقد خنت من أكرمك [يقصد الخليفة العباسي] فكيف بمن أهانك؟!»، فمات كمداً بعد مضي قرابة الشهر على احتلال المغول لبغداد.

وفي الدولة العثمانية قتل بكر صوباشي مفتي بغداد (ملا غانم) كعربون يتقرب به إلى الصفويين والشيعة المقربين منه، الذين عملوا على تشييع بغداد وتوطين التجار والفرس فيها.

من ذلك أيضاً، قتل عباس الصفوي (عام 1623م) لخطيب بغداد والإمام الأعظم محمد أفندي والقاضي نوري أفندي وأربعين ألفاً من سكان بغداد وإلقاء كتبهم في النهر وتسكين التجار الفرس مكانهم وتفريغ المدينة من سكانها الأصليين، فعلماء السنة مصيرهم القتل دوماً في حال كان الحكم سنياً هزيلاً أو صفوياً شيعياً.

ومن أساليب الشيعة الأخرى الوشاية بالعمال المسلمين لدى الأيلخان المغولي واستبدالهم بالفرس بعد إثباتهم الولاء التام للعرش المغولي بالتعاون مع التحالف الصليبي الذي يمثله جاثليق النصارى في بغداد أو مع الوزير سعد الدولة اليهودي، فما كان من المجتمع البغدادي إلا إعلان العصيان التام في المدينة والخروج في مظاهرة مسلحة نكبت جاثليق النصارى وابن كمونة اليهودي، واضطرتهم للهروب خارج المدينة إلى الأبد وجعلتهم عبرة لكل من سولت له نفسه التحالف مع الشيعة ضد أبناء المدينة، وطرد التجار الفرس من الأسواق وأغلقت حارات الشيعة والنصارى واليهود خوفاً من اجتياحها من قبل البغداديين، ولم تستطع الحامية المغولية تهدئة الوضع إلا بعودة الوالي المسلم عطا ملك الجويني على ولاية بغداد وإعلائه لشأن الأمة السنية وعلمائها ما اضطر الأيلخان المغولي للرضوخ لتلك المواقف.

واليوم يتم تصفية السياسيين السنة حتى الذين يشاركون في العملية السياسية البائسة، وتلاحقهم مذكرات اعتقال محلية ودولية.

رابعاً: إثارة الفوضى لإرغام الحكام على تبني مذهبهم، وما يتبع ذلك من إنشاء مستوطنات لهم:

شهدت بغداد سنة 860 هـ/ 1456م هجوم المشعشعين الشيعة على أطراف بغداد فنهبوا وقتلوا وسبوا الذراري تحت حكم تطبيق أحكام الدين الشيعي فرد عليهم حكام بغداد من القره قوينلو بإعلان المذهب الشيعي مذهباً رسمياً للبلاد بهدف كسب التأييد الشيعي في العراق وسحب البساط من تحت المشعشعين وباتت بغداد بين سندان حكام بغداد المترفضين ومطرقة المشعشعين للحفاظ على دينهم.

رضخت الدولة العثمانية للاعتراف بالشيعة بشكل رسمي زمن الوالي علي رضا اللازر الباطني عام 1841م، وسمحت بمجالس العزاء الحسينية واللطميات في بغداد، وفي عام 1870م زار شاه الفرس ناصر الدين بغداد وإلزام الشيعة بذكر الشهادة الثالثة في الأذان ولأول مرة في العراق دون منع العثمانيين له.

 وفي القرن العشرين دفعوا عبد الكريم قاسم إلى إنشاء مستوطنات شيعية في وسط بغداد، إذ شجع المعدان مربي الجاموس في جنوب العراق على الانتقال إلى العاصمة بغداد، وأسكنهم مدينة الثورة (مدينة الصدر الآن) شرقي بغداد، ومدينة الشعلة في الشمال الغربي لمدينة بغداد، ثم بناء الحسينية زمن البعثيين شمال شرق بغداد، لكسر الطوق السني لبغداد.

خامساً: التنسيق بين أي دولة شيعية وأتباعها في بغداد لنشر التشيع وترسيخ التبعية لإيران:

منذ قيام الدولة الصفوية وإلى يومنا هذا كان جل المشاكل التي تحدث في بغداد سببها الأجندة الصفوية، وكانت ذات طابع طائفي ديني، حتى إن المؤرخين الأوربيين يرون أن تاريخ العراق قد اندثر على يد الغزو المغولي ومن تبعه، حتى جاء الصراع الصفوي العثماني الذي جعله يرتفع عالياً مرة أخرى، لكن هذه المرة على حساب القضية العربية السنية، ويعزو المؤرخ المحامي عباس العزاوي سبب عدم استقرار بغداد لمجاورتها لبلاد فارس، وأن فترات الهدوء التي تمتعت المدينة بها كانت إبان الاحتلال الأفغاني للدولة الصفوية وإيقاف المساعدات الفارسية للشيعة، في الوقت الذي يرى د. علي الوردي أن فترات حكم الفرس للعراق تتسم بالقتل والمجازر والذبح، بينما فترات حكم السلطة العثمانية كانت تتسم بالفوضى، ابتداءً من مجازر الشاه إسماعيل الصفوي التي شبهها الشيخ صبغة الله الحيدري بمجازر هولاكو من قتل للناس ونبش لقبور الأولياء وحرق لعظامهم، ثم أطلق على الوالي الذي ولاه على بغداد لقب «خليفة الخلفاء» احتقاراً لأهل السنة بعد أن كان اسمه «خادم بيك»، ثم مجازر عباس الصفوي التي كان ينوي فيها القضاء على كل السنة في بغداد وتحويلها إلى مدينة فارسية شيعية، فضلاً عن استباحة وغدر نادر شاه، وهدم أضرحة أهل السنة وقتل السكان لأنهم عرب سنة، وعمد إلى تهجيرهم قسراً من سهول بغداد وغيرها واستبدلهم بالقزلباشية والفرس البهائية وتجار وعمال وغيرهم، عرفوا فيما بعد بألقاب شتى منها الكاكائية والكرد الفيليين والتي عرفت تاريخياً بقبائل اللر وغيرهم، وكثير ما كان يهرع سكان بغداد من العرب السنة إلى الهروب نحو الفلوجة والحلة على إثر سماعهم فقط بوصول الجيوش الفارسية إلى المدينة.

سادساً: استهداف العشائر العراقية إما بتصفيتها إن قاومتهم أو تقويتها إن تشيعت وتعاونت:

وهذا يأتي عادة بمساعدة رجال العتبات المقدسة وقادة الجيش الإيراني، ومن أمثلة التعاون المشترك بين الفرس والقبائل والمجتهدين أنه كلما أرادت بلاد فارس احتلال العراق أيام الصفويين كان اعتمادها ينصب على السادة الشيعة لتسويغ الأمر لهم بحجة الدفاع عن المراقد المقدسة ووصف الاحتلال بأنه عشق الفرس وحبهم للعراق لا كرههم للعرب.

وفي الوقت الذي تمكنت فيه قبائل الشاوية والجبور والقيسية وشمر (التحالف السني) من طرد الاحتلال الفارسي من بغداد والعراق مراراً، كانت قبائل زبيد الشيعية تمهد الطريق للفرس لاحتلال بغداد، وتقديم المساعدة لهم خصوصاً في أوقات اجتياح الطواعين لبغداد على مر العصور الحديثة وما تسببه من ضعف للمدينة، وفوق هذا وذاك كان الفرس يتوسطون لدى العثمانيين للعفو عن تلك القبائل الثائرة من الشيعة، وكانوا يهددون العثمانيين بقبول الوساطة أو أن يهاجموا العراق بمعية تلك القبائل وإحداث الفوضى، ومن الجدير بالذكر أن القبائل العربية السنية كانت إذا أرادت الهروب من سطوة الحكم التركي تهرب إلى المناطق العربية المجاورة كهروب آل الشاوي إلى سوريا والحجاز ولا سبيل لعودتهم إلا بالرضوخ للعثمانيين أو بالتحالف مع الشيعة وفي كلا الحالتين تكون فيها القضية العربية السنية هي الخاسرة.

وعمل الشيعة على كسر تمركز عشيرة العبيد في منطقة الأعظمية ذات العقيدة السلفية، حيث تعرضوا لحملات الإبادة المنظمة من الولاة العثمانيين بوشاية الشيعة لثنيهم عن عقيدتهم ومواقفهم، وتسليط الانكشارية البكتاشية الصوفية عليهم، وهنا نذكر دور عشيرة الجبور جنوب بغداد في القضاء على فتنة الانكشارية ونصرة أهالي الأعظمية والشاوية، ويشير ابن سند البصري أن تكية الانكشارية في محلة الجعيفر في بغداد كانت مكاناً للعن الصحابة وبسبب كثرة الفتن التي قاموا بها وموالاتهم للفرس في أواخر الحكم العثماني نكبوا عام 1826م على يد السلطان عبد المجيد، ومن دسائس الانكشارية أيضاً طرد أسرة الحيدري البغدادية الحنبلية من بغداد إلى البصرة بسبب قوة تأثيرهم في الأوساط الاجتماعية البغدادية.

واليوم تسعى الحكومات الطائفية في بغداد إلى كسر الطوق العربي السني حول بغداد (حزام بغداد) والذي كان دائماً ما يفشل مخططات العقيدة الفارسية في اجتياح المدينة وتشير إحدى الإحصائيات الأمريكية الصادرة عن البنتاجون أن أراضي بغداد المملوكة للعرب السنة كانت تمثل قبل الاجتياح الأمريكي ما يقارب 85% من مساحة العاصمة بغداد، ولكن الأمر اختلف اليوم وبشكل مهول فقد تحولت مناطق شاسعة من حزام بغداد إلى الغالبية الشيعة بسبب القتل والتهجير الجماعي برعاية أمريكية دولية، مثل مدينة الحرية شمال غربي بغداد، وقضاء المدائن جنوبي بغداد، وهما من الأقضية السنية ذات الأغلبية المطلقة إذ أضحى اليوم أهل السنة فيهما يمثلون أقلية، وهم مستضعفون لدرجة لا تكاد تسمع لهم همساً حتى في أحيائهم خوفاً من مليشيات الإمام الحجة!! أو بسبب بناء المجمعات السكنية الواسعة التي تضم مئات الآلاف مثل مجمع بسماية في جنوب بغداد الذي يشرف عليه نوري المالكي بنفسه، ومجمع آخر في بلد شمالي بغداد ويشرف عليه عبد العزيز الحكيم ونجله عمار، ومجمع سكاني في العامرية غربي بغداد، ومجمع حي الزهور شمال شرقي بغداد.

سابعاً: توظيف الخطاب الديني لاستمالة المشاعر وتهيئة البيئة لتقبل التشيع:

استخدام الشيعة وإيران للخطابات الدينية الرنانة متخذين من العتبات والمراقد ذريعة لدخول بغداد وسامراء، وكسب التأييد المطلق من القبائل الشيعية العراقية، منها خطاب نادر شاه الذي صرح فيه عن المرتكزات الحقيقية للسياسة الخارجية الفارسية تجاه العراق بقوله: «إننا نطالب بحق لا نزاع فيه في زيارة قبور الأئمة علي والحسين والمهدي وموسى... نحن سائرون حالاً على رأس جيشنا المظفر لنتنسم هواء سهول بغداد العليل، ولنستريح في ظل أسوارها»، جاء هذا الخطاب في عام 1732م في الوقت الذي لم تكن الدولة العثمانية تمنع الزوار الفرس للعراق، ومن جهة أخرى وضح الخطاب الربط المتعمد في السياسة الفارسية بين العتبات والمراقد وحقهم في احتلال العراق، وهذا أحد أسباب تأثير السياسة الفارسية في الشارع الشيعي في العراق، واليوم يستخدمون المظلومية لبسط نفوذهم في المشهد العراقي وأنهم الأغلبية المضطهدة التي ارتكبت بحقها المقابر الجماعية، مع استخدامهم التصنيف الطائفي بزعم أنهم أتباع الحسين وأن السنة أتباع يزيد على لسان قادتهم ومنهم رئيس الوزراء نوري المالكي، ثم جاءت فتوى الجهاد الكفائي من المرجع الأعلى السيستاني لحماية المراقد المقدسة من خطر الإرهابيين السنة، واليوم يتم توظيف وسائل الإعلام والقنوات الفضائية للترويج للمشروع الطائفي.

ثامناً: توتير العلاقة مع الدول العربية ولاسيما السعودية لقطع صلة سنة بغداد بالعمق العربي:

وهذا يمتد منذ زمن الدولة العثمانية، فقد اتصفت العلاقات العثمانية السعودية غالباً بالتوتر وخشونة الألفاظ مداراة للرأي العام الشيعي في العراق وبلاد فارس، ولم تتغير هذه اللهجة التركية حتى تم عزل الواقع العربي السني في بغداد عن محيطه العقائدي وفرض عليهم تبعية فارسية عثمانية كانت من نتائجها خيانة العشائر الشيعية للسياسة العثمانية، وإعلان الثورات عليها إبان الحرب العالمية الأولى، وأخذت الدولة العثمانية تستجدي العون من آل سعود للخلاص من هذا المأزق الصعب، بينما أخذت بلاد فارس تعلن تأييدها للاجتياح البريطاني لبلاد العراق ثم مطالبة الشاه الفارسي للبريطانيين بجعل العراق ولاية فارسية وهي إحدى الخيارات البريطانية المطروحة قبيل قيام الملكية العراقية واكتفى الفرس بسلخ الأحواز العربية.

واليوم يعلن الساسة في العراق أن الجزء العربي في العراق هو جزء من الأمة العربية، ولا تزال وسائل الإعلام الشيعية والرسمية تكيل التهم للدول العربية التي نأت بعد الاحتلال الأمريكي بنفسها عن المشهد السياسي لتترك العراق فريسة لإيران وشيعتهم.

إن وقف التمدد الشيعي الإيراني لا بد له من جهود مشتركة لمعالجة الأساليب آنفة الذكر، ودعم البدائل لها بقوة.

:: مجلة البيان العدد  345 جمادى الأولى  1437هـ، فـبـرايـر  2016م.

ملف العراق

أعلى