المسلمون في الدونباس بعد الأزمة الأوكرانية

المسلمون في الدونباس بعد الأزمة الأوكرانية


من معاني كلمة أوكرانيا الحافة، وذلك لوقوعها على حافة القارة الأوربية، وهو الموقع الذي جعلها تخضع لتجاذبات صراع النفوذ بين الكبار النافذين، وقد تفجرت الأزمة الحالية بسبب هذا الملمح الجغرافي، إضافة إلى أسباب عقدية؛ فشرقها أرثوذوكسي يتبع الكنيسة الروسية واقعًا، وغربها كاثوليكي يتبع الكنيسة الرومية. وأخرى إثنية؛ فهي دولة حديثة يعيش الأوكران في وسطها وغربها، بينما يعيش الأوكرانيون من أصل روسي وتتري وأقليات أخرى من الألمان والأرمن وغيرهم في شرقها.

ولأن شرقها صناعي منذ القرن الثامن عشر، فقد استوطنها الروس بشكل كبير حتى صاروا العنصر الغالب، خاصة زمن الاتحاد السوفياتي الذي اهتم ببناء الأقطاب الصناعية ، واستقطاب العمال الروس وعوائلهم، حتى يضعها تحت نفوذه، ويستغل مواطنيه في ضرب أي مشروع أوكراني يستهدف الاستقلال عن الهيمنة الروسية، بعد أن حدث ذلك في بدايات القرن العشرين عندما حاول القوميون الاستقلال عن هيمنة الثورة البلشفية، وهو ما حدث  أيضًا سنة 2013م عندما أصرت هذه الجمهورية على السير في مضمار الانضمام للاتحاد الأوربي، فقام الروس بتحريك سلاح الانتماء القومي، وأشعلوا حربًا طاحنة، خلفت آلاف القتلى، ودمارًا هائلًا في البنية التحتية.

موقع المسلمين من الأزمة الأوكرانية:

أوكرانيا ثالث دولة أوربية بعد بلغاريا ومقدونيا، تحوي أقلية مسلمة أصلية، يبلغ عددها مليوني مسلم، يستوطن أغلبهم وسط وشرق وجنوب أوكرانيا، غير أننا سنخصص الحديث عن مسلمي حوض الدونباس الصناعي، الذين يبلغ عددهم أكثر من 100 ألف مسلم، أغلبهم من تتر كازان، الذين كانوا يشكلون قبل مجيء الحقبة الشيوعية أكثر من 400 ألف مسلم، ارتد منهم الآلاف عن الإسلام بسبب الحملات الشيوعية الشعواء ضدهم، حيث هدمت جميع مساجدهم ومدارسهم، وقتل أئمتهم، وهرب الكثير منهم نحو تركيا، كما يوجد بعض المسلمين القوقاز الذين نجوا من التشريد الستاليني للمسلمين في بلاد القفقاس قبل منتصف القرن التاسع عشر.

بعد سقوط الاتحاد السوفيتي واستقلال أوكرانيا وتصميمها على التوجه نحو القيم الأوربية، تمكن المسلمون من إقامة شعائرهم، بعد أن أعادوا بناء بعض مساجدهم ومدارسهم، وتمتع الكثير منهم بحرية ممارسة شعائر الإسلام من صلاة وصوم وحج وغير ذلك، ما عدا التضييق الذي تمارسه القطاعات الرسمية ضد المحجبات، وإن كانت الدولة لا تتبنى أي قانون لمنعه، إنما هو تقليد لما يحدث في أوربا أكثر منه سياسة معتمدة، ومع ظهور الجمعيات الإسلامية هناك، بدأ الإسلام يعود بشكل واضح وعلني عندهم، خاصة مع عودة حملة بناء المساجد في مدينتي دونيتسك ولوغانسك، لكن هذا لم يكن كافيًا، فآثار الحقبة الشيوعية التي عملت بلا هوادة لسلخ المسلمين عن دينهم لا تزال قائمة ومشاهدة بوضوح، ومن خلال زيارتي للمنطقة التقيت بالكثير من التترين الذين نجوا من حملة التهجير القسري الدموية التي قادها ستالين بعد الحرب العالمية الثانية، كان يبدو عليهم الأسى مما فقدوه من مساجد ومدارس خلال العقود الماضية، بل إن ما يعتصر قلوبهم هو ذوبان أولادهم في المجتمع النصراني، حيث ارتد الكثير منهم عن الإسلام، وقد وقفت على حالات كثيرة لزواج المسلمات التتريات من النصارى، ولم تفلح جهودنا يومها في رد من التقيناهم إلى الإسلام، وأذكر أننا توجهنا نحو مسلمة كانت تسمى عادلينا، رجعت إلى الإسلام بعد أن دعوناها لكنها رفضت أن توقف إجراءات زواجها من نصراني أرثوذكسي، ولقد كانت مشاهد المسلمات وهن في «عصمة» أبناء الصليب أمرًا لا تحتمله نفوسنا، خاصة أنه تكرر مئات المرات، كما أن سيطرة العادات السلافية على حياة المسلمين كانت أمرًا شائعًا، حيث ترك الكثير منهم الصلاة، فالمصليات والمساجد، في مدن وقرى الشرق لا تمتلئ إلا في صلاة العيد، وفي المساجد المركزية، مثل مسجد لوغانسك، ومسجد كونستانتينوفا في دونيتسك، أما الحجاب فإنه غير ظاهر إطلاقًا، بل إن الكثير من المسلمات يرتدينه في المصلى أو المسجد، ثم ينزعنه بعد خروجهن، في مشهد يقتل القلب حسرة، ومع دخول العرب إلى أوكرانيا وتشكل جاليات عربية كبيرة، بدأ النشاط يدب أكثر بين المسلمين، خاصة بعد أن انتظموا في جمعيات اجتماعية وخيرية، هدفها الأول والأخير إعادة المسلمين إلى دينهم، برغم الصعوبات التي واجهوها في مسيرتهم هذه، بسبب القوانين التي تصعب بناء المساجد والبيروقراطية الشديدة التي يعاني منها البلد، حيث يفتح المال كل الأبواب، بينما المسلمون التتر لا يملكون ما يؤهلهم ماليًّا لاختراقها، بل إن من أسباب فراغ المساجد والمصليات في رمضان عدم امتلاك المسلمين هناك لثمن سيارة أجرة، خاصة أن وسائل النقل تتوقف ليلًا، وإن كان بعضهم قد صار من أغنى الأغنياء في البلد، إلا إن ولاءهم كان لجهات أخرى من اليهود والنصارى، كما لاقت هذه الجمعيات مشاكل جمة  كانت تحدثها فرقة الأحباش، من خلال الوشايات المستمرة ضد أهل السنة لدى المخابرات الأوكرانية، بغرض كسر العمل الدعوي الدؤوب، ومن المصاعب التي أدت إلى انحسار أعداد المعتنقين للإسلام أو معاداة المجتمع للمسلمين، ظاهرة تلاعب العرب بالمسلمات الحديثات عهد بالإسلام، وهو ما أشار إليه مفتي الإدارة الدينية لمسلمي أوكرانيا سعيد إسماعيلوف، وهو من أبناء المسلمين التتر، العارفين بخبايا أوضاع المسلمين في أوكرانيا، حيث يتزوج الطلبة المسلمون القادمون من الوطن العربي بالأوكرانيات المسلمات أو المعتنقات للإسلام، ويقيمون معهن في فترة الدراسة، ثم يرحلون عنهن، وهن محجبات وبلا عمل ومعهن أولاد، مما تسبب في خلع الكثيرات لحجابهن بغية العمل، وارتداد المئات منهن عن الإسلام بسبب الصدمة، والتناقض الصارخ في أخلاق المسلمين عمومًا. وإن كان هذا لا ينفي وجود نماذج مشرفة ولكنها قليلة جدًّا.

لقد كان هذا المشهد المسيطر على الدونباس الذي يحوي 16 مسجدًا وعشرات المصليات الصغيرة، التي كان أصلها بيوتًا خاصة وضعًا بئيسًا، برغم هامش الحرية الكبير الذي كان يعيشه المسلمون قبل سنة 2014م.

المسلمون بعد نشوب الأزمة الأوكرانية:

بسبب تواجد الإثنية الروسية بقوة في شرق أوكرانيا قام الروس بإشعال حرب انفصالية مدعومة بقوة المال والسلاح والإعلام في حوض الدونباس، بمدينتي دونيتسك ولوغانسك، وقد كان لهذا الأمر أثر بالغ على المسلمين، حيث شاع الخوف والرعب لدى عامتهم، فهاجرت الجالية العربية المنطقة، حفاظًا على أرواحها، وهاجر بعض المسلمين مناطقهم التي دمرت تمامًا، وفقد الكثير منهم منازلهم ومزارعهم، وقد زرت المنطقة في شتاء 2015م، والتقيت ببعضهم، كان الأمر صعبًا وأنت تسمع منهم تفاصيل ما فقدوه من أموال ومأوى وأثاث، وصاروا لاجئين في دولتهم، بعد أن شردتهم روسيا، وجعلتهم ضحية لمشروعها التوسعي الذي كان دومًا يحصد آلاف القتلى من المسلمين، ولقد حاولنا الحصول على أرقام معينة لعدد المسلمين المتضررين، لكننا لم نصل إلى ذلك لغياب المؤسسات الإسلامية في الوقت الحالي عن المشهد، باعتبارها مؤيدة لوحدة أوكرانيا من جهة، ولتخوفها من البطش الروسي، الذي ظهر في الجنوب في جزيرة القرم.

تعرضت بعض مساجد المسلمين للقصف في دونيتسك، وفرغت الأخرى من روادها، وهجروها نحو روسيا أو إلى وسط وغرب أوكرانيا. مما شكل ضربة قاصمة للعمل الإسلامي في المنطقة، وعجل بعودة المأساة للمسلمين التتر، الذين لم ينعموا بنعمة الأمن وفرحة التخلص من الهيمنة الشيوعية أكثر من عقدين، لتعود إليهم كوابيس القمع والظلم، خاصة أنهم يعرفون عداوة الروس للإسلام السني المحرك والدافع نحو الخير والإصلاح والتغيير.

ماذا نقدم لهم؟

إن استيلاء الروس على أرض الدونباس كان كارثة حقيقية بالنسبة للمسلمين الأوكران، فالمسلمون كانوا يعيشون في حرية شبه تامة في ظل الدولة الأوكرانية، أما اليوم فإن تقارير المنظمات غير الحكومية وحتى منظمة الأمم المتحدة تشير إلى الترهيب والاضطهاد، الذي ما فتئ يتصاعد من جانب القوات الروسية والمليشيات التابعة لها، التي تستصحب الأسلوب المعتمد نفسه في القرم والقفقاس، من قمع وتخويف واضطهاد للمسلمين ومصادرة ممتلكاتهم.

ويمكن القول بعد هذا الموجز المختصر لأوضاع المسلمين في دونيتسك ولوغانسك التي تحتلهما روسيا عن طريق مليشياتها المكونة غالبًا من المجرمين والمنحرفين وتجار المخدرات، أن وضع المسلمين في الأراضي التي احتلتها روسيا في أوكرانيا كارثي بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، وأنهم يواجهون مصيرًا مجهولًا وأسودَ في كل الأحوال، لذلك وجب الاهتمام بأوضاعهم ومد يد العون لهم نصرة لهم وحفاظًا على وجودهم الذي أصبح مهددًا، ويجب التعاون مع السلطات الرسمية لأوكرانيا، خاصة أنها تدعم المسلمين بشكل واضح، بعد وقوفهم بوفاء مع الدولة التي يحملون جنسيتها وولدوا على أرضها، وكانت لهم مساندة قوية للثورة الأوكرانية، مما حدا بالبرلمان الأوكراني إلى اعتماد قانون يعتبرهم من الشعوب الأصلية للبلد.

صحيح أن المحن والمصائب قد تعددت في أمتنا، إلا إن دعم المنظمات الإسلامية السنية في أوكرانيا لن يتطلب سوى الدعم  المالي والإعلامي، مع وجود هياكل قاعدية للعمل الدعوي في هذا البلد، الذي يعاني فيه الجميع وخاصة المسلمون من أزمة اقتصادية تكاد تعصف بالحياة الاجتماعية بشكل مأساوي، قد يدفع فيه المسلمون الضريبة الكبرى بسبب فقرهم وعوزهم وتهميش قضيتهم.

 

:: مجلة البيان العدد  344 ربـيـع الثاني  1437هـ، يـنـايــر  2016م.

أعلى