البراءة من المشركين عند الرافضة

البراءة من المشركين عند الرافضة

يكثر حديث الروافض عن مسألة البراءة من المشركين في عصرنا، حتى أصبحت هذه القضية محور حديث آياتهم، وصار إعلانها في موسم الحج وفي البقاع الطاهرة عبر مسيرات حجاج الرافضة قطب اهتمامهم منذ قيام دولتهم، فلا تخلو سنة في الفترة الأخيرة من دعوة إلى ما يسمى بالبراءة أو القيام بتظاهرات البراءة.

كما كثر تداول هذا المصطلح في وسائل الإعلام المختلفة، وكثير من الناس لا يعلمون حقيقة «البراءة من المشركين وموالاة المؤمنين» في مفهوم الرافضة، وما يتضمنه من مبادئ، وما يترتب على إعلانه والمطالبة به من آثار؛ لأن مصطلح «الولاء والبراء» من المصطلحات الشرعية، فلا يخطر ببال كثير من المسلمين المفاهيم الباطنية لهذا المصطلح.

ولخفاء مقاصد الشيعة الرافضة وأهدافهم من وراء هذه الدعوة قال بعضهم ردًّا عليهم - عند رفعهم شعار البراءة من المشركين في بلد الله الحرام مكة وفي أيام الحج -: «لا حاجة إلى إعلان البراءة؛ لأن مكة اليوم ليس فيها وثن يعبد، ولا مشهد يقصد، ولا يوجد فيها للشرك مظهر ولا مخبر».

قلت: وهذا أمر في غاية الوضوح، فإن البراءة لم تعلن في الحج سوى مرة واحدة في السنة التاسعة، فلم يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم  في حجته في السنة العاشرة، ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي - رضي الله عنهم -، وتبعهم خلفاء المسلمين من بعدهم، وتم إعلانها في الحج في السنة التاسعة لغاية بينة ومعلنة تم تحقيقها، وهي منع المشركين من الحج.

لكن الروافض لا يريدون البراءة من المشركين وفق المعنى الشرعي وبمقتضى النهج النبوي، إنهم يريدون غير ذلك تمامًا، وكثير من الناس في غفلة عما يريدون وفي جهل ممن يتبرءون؟ ولا يعرفون حقيقة الشرك الذي يقصدون وأهدافهم من وراء ذلك.

فكان لا بد من كشف الحقائق المجهولة والأسرار الخفية لمبدأ البراءة من المشركين عند الروافض، وذلك من خلال النقل الأمين من أصولهم المقدسة عندهم، وعرض أقوال آياتهم ومراجعهم المعاصرين المعتمدين لديهم؛ نصيحة لأمة الإسلام وأئمتهم، وكشفًا لمكر الباطنيين وألاعيبهم التي قد تخفى لا على عموم المسلمين فحسب، بل تخفى على بعض المخدوعين بهم من أتباعهم، فإن جملة من أتباعهم في غفلة عما يراد بهم وفي جهل بحقيقة نحلتهم.

ومما يؤكد ضرورة إيضاح حقيقة هذا المصطلح وكشف باطن هذا الاعتقاد ما رأيت من خوض كثير من الكُتاب والمعلقين في هذه المسألة بجهل لحقيقتها وقصور عن معرفة أهدافها، وأعظم من ذلك إصرار الروافض على إعلان البراءة وقيام مسيرات البراءة في أفضل زمن (الأيام العشر الأول من ذي الحجة)، وفي أطهر بقعة (حرم الله وبيته الطاهر) وفي بلد التوحيد، وبين جماهير الموحدين، وبلا نكير عام من عموم المسلمين، وذلك لجهل عموم الأمة بحقيقة هذا المصطلح وخفاياه.

وإلا فلا أعتقد أن مسلمًا يرضى بأن يعلن على صعيد حرم الله الآمن، وفي المشاعر المقدسة، وأيام الحج الفاضلة، وبين الحجاج والمعتمرين.. يعلن الكفر والظلم والفسوق والعصيان، بل يعلن ذلك تحت ستار اسم شرعي عظيم، إن هذا لمنتهى الجرأة من أهل الباطل في إعلان باطلهم، واستغفال المسلمين عن حقيقة أمرهم، والهزء والسخرية بأصول التوحيد ومبادئه {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15].

والحقيقة الباطنية الخفية هي أنهم يريدون معنى يناقض الشعار الذي أعلنوه، ويسعون لتحقيق هدف غير الذي أظهروه، ويرمون إلى غاية يستنكرها كل مسلم، ومع ذلك يأتي الرد على إعلان البراءة من بعض الجهات الإسلامية بالقول: «إن مكة لا يوجد فيها مشرك، وليس فيها صنم يعبد، فلا حاجة إلى إعلان البراءة من المشركين فيها»!! إن هذه الإجابة ومثيلاتها تجعل الروافض يرقصون طربًا، فتقيتهم أدت دورها، وكأن لسان حال هذا المجيب يقر بأن غرض الروافض هو حقيقة البراءة من المشركين بمعناها الشرعي، وما دامت مكة خالية من الشرك ومظاهره فلا حاجة إذن لإعلان البراءة!!

أوَما علم أن الشرك غير مستنكر في دين الروافض، بل هو من أصول دينهم[1]، بل هم أول من أحدث عبادة المشاهد في أمة محمد صلى الله عليه وسلم [2]، وأول من وضع المصنفات فيما سموه: «مناسك المشاهد»[3]، وأشد ما يقض مضاجعهم في أرض الحرمين اختفاء مظاهر الوثنية في مشاعرها[4].

مفهوم البراءة وأهميتها عند الرافضة:

إن مسألة البراءة من المشركين أحد المبادئ الأساسية في كيان الرافضة العقدي، وأصل من الأصول المهمة في بنية المذهب الإثنى عشري، وتحظى باهتمام كبير في اعتقادهم، وكثرت في تقريرها والدعوة إليها نصوصهم، حتى عدوها من ضرورات المذهب التي لا يستغنى عنها مطلقًا، يقول شيخهم المجلسي[5] المتوفى سنة 1111هـ - الذي يعده بعضهم مؤسس مذهب الشيعة بوضعه الحاضر[6] - وهو يبين أهميتها ويشرح حقيقتها في رسالته «الاعتقادات»[7]: «ومما عدّ من ضروريات دين الإمامية[8]... البراءة من أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية»[9]، فهذا النص من نصوص اعتقادهم يتضمن أصلين:

الأول: أن البراءة من ضرورات دينهم.

والثاني: أن مفهوم البراءة عندهم هو البراءة من خلفاء المسلمين، ابتداء من أفضلهم وهو أبو بكر - رضي الله عنه - صديق هذه الأمة، الذي لو وزن إيمانه بإيمان الأمة لرجح بهم، ثم فاروق هذه الأمة وفخرها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الذي لم يفر في الإسلام فريه أحد، ثم ذو النورين عثمان - رضي الله عنه - صاحب الجود والحياء مجهز جيش العسرة، والذي بايع عنه النبي صلى الله عليه وسلم  في بيعة الرضوان.

وبهذا يظهر أن مرادهم بالبراءة من المشركين البراءة من أفضل الخلق بعد النبيين، وسائر خلفاء المسلمين بعدهم من باب أولى إلى أن تقوم الساعة، ولا يستثنون سوى علي والحسن.

ومسألة البراءة في دينهم تصل إلى مرتبة الضروريات - كما ترى في كلام المجلسي -، وما كان كذلك في اصطلاحهم ومقياسهم فإنكاره كفر، ولذا قرر شيخهم المجلسي حين ذكر هذه المسألة أن منكر الضروري خارج عن دينهم «ملحق فاعله بالمخالفين، ويخرجه عن التدين بدين الإمامية»[10]، ولذا يؤكد شيخهم المعاصر وأحد آياتهم المعدودين محسن الأمين في كتابه كشف الارتياب أن «منكر الضروري عندهم كافر بلا ارتياب»[11].

مفهوم الشرك عند الرافضة:

إن للشرك مفهومًا خاصًّا ينفرد به هؤلاء لا يشاركهم فيه أحد من المسلمين، وللتوحيد معنى خاص كذلك، فالتوحيد عندهم هو إفراد الأئمة بالإمامة، والشرك عندهم هو الشرك مع الأئمة في الإمامة[12].

فمادة «الشرك» في القرآن في جميع مواردها تؤول - بل تحرف - عندهم إلى كل من لم يعتقد إمامة أمير المؤمنين والأئمة من ولده - عليهم السلام - وفضل عليهم غيرهم[13]، فالشرك عندهم هو القول بإمامة أحد غير أئمتهم حتى ولو كانوا من الصحابة الأبرار، والتوحيد عندهم هو إفراد أئمتهم الاثني عشر بالإمامة، ولذا نجد نصوصًا كثيرة عندهم تقول: «من أشرك مع إمام إمامته من عند الله مَن ليست إمامته من الله كان مشركًا»[14]، ولذا قال شيخهم أبو الحسن الشريف: «إن الأخبار (يعني أخبارهم) متضافرة في تأويل الشرك بالله والشرك بعبادته بالشرك في الولاية الإمامية»[15].

وقال المجلسي: «إن آيات الشرك ظاهرها في الأصنام، وباطنها في خلفاء الجور الذين أشركوا مع أئمة الحق ونصبوا مكانهم، يقول سبحانه: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى 19وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم: 19، 20] أريد في باطنها باللات الأول، وبالعزى الثاني، وبمناة الثالث، حيث سموهم بأمير المؤمنين وبخليفة رسول الله وبالصديق والفاروق وذي النورين، وأمثال ذلك»[16].

وقال: «اعلم أن إطلاق لفظ الشرك والكفر على من لم يعتقد إمامة أمير المؤمنين والأئمة من ولده وفضل عليهم غيرهم يدل على أنهم كفار مخلدون في النار»[17].

وقال مفيدهم: «اتفقت الإمامية على أن من أنكر إمامة أحد من الأئمة، وجحد ما أوجبه الله تعالى له من فرض الطاعة فهو كافر ضال مستحق للخلود في النار»[18].

وقد فسروا كل نصوص القرآن المتعلقة بالنهي عن الشرك والأمر بالتوحيد وفق اعتقادهم هذا[19].

ممن يتبرأون؟

وبراءتهم تبدأ بخلفاء المسلمين، ثم تتوجه إلى قضاة المسلمين وعلمائهم، وتصل إلى الفرق الإسلامية كلها معتدلها وغاليها، وتتجاوز ذلك إلى أمصار المسلمين، ثم تشمل في النهاية الأمة الإسلامية كلها، ولا يستثنون سوى أقزام التاريخ الزنادقة من شيوخهم وملاليهم[20].

يقول شيخهم الملقب عندهم بالصدوق في كتابه «الاعتقادات»[21]: «واعتقادنا في البراءة أنها واجبة من الأوثان الأربعة: يغوث ويعوق ونسر وهبل»[22].

ولعلك تلاحظ الفرق بين تعبير المجلسي السابق وتعبير صدوقهم، فالمجلسي يصرح بأسماء خلفاء المسلمين، وصدوقهم يستعمل لغة الرمز ، ذلك أن الأول يعيش في ظل دولة شيعية (رافضية) ذات سلطة قوية تشاركه وتؤيده في مذهبه، وهي الدولة الصفوية فهو شيخها وإمامها، أما الآخر فإنه يكتب كتابه في ظل قوة دولة الإسلام وهيبتها، فيشير إلى مراده بالرمز الذي يعرفه أصحابه؛ لأنه يخشى من دولة الخلافة، ويتقي غضبة أهل الإسلام.

وهذا له أمثلة كثيرة، حيث تجد كثيرًا من نصوص الروافض الأوائل تتبرقع بالتقية، وتختفي خلف اللغة الباطنية التي هي لغة الخطاب عندهم وأساس دينهم ونحلتهم.

كما اختفوا اليوم في ظل دولة التوحيد بمصطلح «البراءة من المشركين»، ومرادهم البراءة من الموحدين حكامًا ومحكومين، والبراءة من عقيدة التوحيد، فالأوثان الواردة في كلام الصدوق التي رمز لها بأسماء أصنام مشهورة هي بعينها أسماء الخلفاء الراشدين التي ذكرها المجلسي صريحة.

ولعلك أخي القارئ تتأمل نص صدوقهم فترى من خلاله ملامح التقية، وأمارات الخداع، أو قل: لحن القول المتعارف عليه بينهم، فتراه حصر الأوثان بأربعة ليشير من طرف خفي إلى مرامه، وإلا فإن عقيدة المسلم وجوب البراءة من جميع الأوثان بلا حصر، فالأوثان كثيرة، والطواغيت لا حصر لها، لكن مرادهم الأساسي البراءة من أفضل الخلق بعد النبيين، ومَن دونهم من جموع المسلمين الموحدين من باب أولى، ورمزوا لهم بمصطلح «المشركين».

رموزهم في التعبير عن البراءة:

وقد تختلف الرموز عندهم في التعبير عن براءتهم من هؤلاء الأئمة، ففي نص آخر لهم: «قلت (الرواي يقول لإمامهم): ومن أعداء الله أصلحك الله؟ قال: الأوثان الأربعة. قال: قلت: من هم؟ قال: أبو الفصيل، ورمع، ونعثل، ومعاوية، ومن دان دينهم، فمن عادى هؤلاء فقد عادى أعداء الله»[23].

ويأتي المجلسي ليكشف المراد بهذه الرموز؛ لأنه يعيش في جو ترتفع فيه التقية التي يلوذ بها هؤلاء كلما لاح لهم مطمع أو دنا منهم خوف أو راموا خداعًا لأحد، يقول المجلسي: «أبو الفصيل: أبو بكر؛ لأن الفصيل والبكر متقاربان في المعنى، ورمع مقلوب: عمر، ونعثل: عثمان»[24].

وحينًا يرمزون إلى عظماء الإسلام بالإشارة إلى قبائلهم كقولهم: «والبراءة من الأحزاب: تيم (يعنون أبا بكر)، وعدي (يعنون عمر)، وأمية (يعنون عثمان)، وأشياعهم وأتباعهم»[25].

ورموزهم وإشاراتهم للوصول إلى أغراضهم وإشاعة مفاهيمهم متنوعة، فلو رجعت إلى مصادرهم رأيت الطوام، وسترى أن ما كتبه شيوخ الشيعة في ظل الدولة الصفوية كان فيه التكفير لأفضل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم  صريحًا ومكشوفًا، وما كتبه أوائل الشيعة في عصر الكليني وما بعده كان التكفير فيه مستورًا بلغة الرمز، وقد كشف أقنعة هذه الرموز شيوخ الشيعة المتأخرون حينما ارتفعت التقية إلى حد ما، وظهرت الإثنى عشرية على حقيقتها.

تقول مصادرهم عند قوله سبحانه: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} [الحجر: ٤٤] عن أبي بصير جعفر بن محمد - عليه السلام - قال: «يؤتى بجهنم لها سبعة أبواب، بابها الأول للظالم وهو زريق، وبابها الثاني لحبتر، والباب الثالث للثالث، والرابع لمعاوية، والباب الخامس لعبدالملك، والباب السادس لعسكر بن هوسر، والباب السابع ابن سلامة فهم أبواب لمن تبعهم»[26].

قال المجلسي في تفسير هذا النص: «زريق: كناية عن الأول؛ لأن العرب تتشاءم بزرقة العين، والحبتر هو الثعلب، ولعله إنما كنى عنه لحيلته ومكره، وفي غيره من الأخبار وقع بالعكس وهو أظهر، إذ الحبتر بالأول أنسب، ويمكن أن يكون هنا أيضًا المراد ذلك، وإنما قدم الثاني؛ لأنه أشقى وأفظ وأغلظ، وعسكر بن هوسر كناية عن بعض خلفاء بني أمية أو بني العباس، وكذا ابن سلامة كناية عن أبي جعفر الدوانيقي، ويحتمل أن يكون عسكر كناية عن عائشة وسائر أهل الجمل، إذ كان اسم جمل عائشة عسكرًا، وروي أنه كان شيطانًا»[27].

كما يرد في كثير من نصوصهم الإشارة إلى العظيمين أبي بكر وعمر بقولهم: «فلان وفلان» كما في روايتهم التي تقول: عن أبي عبدالله في قوله: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة: ١٦٨] قال: «وخطوات الشيطان والله ولاية فلان وفلان»[28].

وفي قوله سبحانه: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ} قالوا: فلان وفلان، {فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ} يعني: نعثل، {مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ} طلحة والزبير، {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} [النور: ٤٠] معاوية[29]. قال المجلسي: «المراد بفلان وفلان أبو بكر وعمر، ونعثل هو عثمان»[30].

ومن رموزهم أيضًا في حق الشيخين أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - ما جاء في تأويلهم سورة الشمس وفيها: «{وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا} [الشمس: ٣] هو قيام القائم {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} [الشمس: ٤] حبتر ودلام غشَّيا عليه الحق»[31].

قال شيخ الدولة الصفوية - في زمنه - (المجلسي): «حبتر ودلام: أبو بكر وعمر»[32].

وهكذا تجد أن لغة الرموز في نصوص أوائلهم كشف حقيقتها وفضح الشيعةَ من خلالها متأخروهم من شيوخ الدولة الصفوية[33].

ويضيف صدوقهم أيضًا - في تقرير مسألة البراءة وبيان مفهومها عندهم - رمزًا آخر غير رمز المشركين هو رمز الظالمين فيقول في «باب الاعتقاد في الظالمين»: «اعتقادنا فيهم أنهم ملعونون والبراءة منهم واجبة»[34].

ثم فسر مرادهم بالظلم والظالمين بقوله: «الظلم: وضع الشيء في غير موضعه، فمن ادعى الإمامة وهو غير إمام فهو الظالم الملعون، ومن وضع الإمامة في غير أهلها فهو ظالم ملعون»[35].
فقوله: «فمن ادعى الإمامة» حكم على جميع خلفاء المسلمين وحكامهم من أبي بكر إلى نهاية الدنيا بأنهم ظالمون ملعونون، والبراءة منهم واجبة، ولا يستثنون من هذا الحكم سوى علي والحسن، والولي الفقيه النائب عن مهديهم المزعوم الموهوم المعدوم الذي ينتظرونه منذ مئات السنين.

وقوله: «من وضع الإمامة في غير أهلها» حكم آخر على من بايع هؤلاء الخلفاء ورضي بحكمهم واعتقد وجوب طاعتهم بالمعروف من شعوب المسلمين من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم  وتابعيهم إلى أن تقوم الساعة بأنهم ظالمون ملعونون، والبراءة منهم واجبة.

نماذج من نصوصهم في البراءة:

والناظر في مصادرهم المعتمدة يجد هذا المفهوم الباطني للبراءة يتردد عبر العشرات من نصوصهم، مما يدل على أهميته ومكانته في دينهم.

جاء أحدهم فقال لإمامه: «أسألك عن الرجلين [يعني صديق هذه الأمة وفاروقها] فقال: ما أهريق في الإسلام محجمة من دم، ولا اكتسب مال من غير حله، ولا نكح فرج حرام إلا وذلك في أعناقهما إلى يوم القيامة حتى يقوم قائمنا، ونحن معاشر بني هاشم نأمر كبارنا وصغارنا بسبهما والبراءة منهما»[36].

فمفهوم البراءة هنا جلي واضح فهو يعني البراءة من خلفاء وحكام المسلمين وفي مقدمتهم أبو بكر، وعمر - رضي الله عنهما -.

وهي عقيدة يربى عليها الصغير ويهرم عليها الكبير، ولذا يؤكدون على هذا التبرؤ في نصوص تدعو إلى «التدين بلعنهم والبراءة منهم إلى آخر الزمان»[37]، وتقرر أن عمدة الإيمان ولاية الأئمة والبراءة من أعدائهم، إذ بهما يتم الإيمان، وبدونهما لا ينفع شيء من العقائد والأعمال[38].

ويعقدون في كتبهم أبوابًا تتضمن البراءة من المسلمين، ولاسيما أهل السنة، ففي الوسائل: «باب وجوب البراءة من أهل البدع وسبهم وتحذير الناس منهم»[39].

وفيه: «إذا رأيتم أهل البدع والريب من بعدي فأظهروا البراءة منهم، وأكثروا من سبهم»[40].

ودرجة البراءة منهم تبلغ درجة البراءة من الشيطان أكبر عدو للإنسان حيث قالوا: «والبراءة والعداوة لمن عاداهم وشاقهم كعداوة الشيطان الرجيم والبراءة ممن شايعهم وتابعهم»[41].

وإذا كان الأصل المقرر في دين الإسلام أنه {لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم: ٣٨] فإن براءتهم تتجاوز هذا القانون العادل لتأمر ببراءة شاملة فتقول: لا بد من «البراءة منهم كائنًا من كانوا: آبائهم وأمهاتهم وذوي قراباتهم»[42].

ويقولون: إن من لم يتبرأ من أبي بكر وعمر وعثمان وأتباعهم فهو عدو وإن أحب عليًّا، وبالتالي فليس له غير اللعن والتبري والتكفير، جاء في الوسائل وغيره من كتبهم: «عن إسماعيل الجعفي قال: قلت لأبي جعفر - عليه السلام -: رجل يحب أمير المؤمنين ولا يتبرأ من عدوه، ويقول: هو أحب إليَّ ممن خالفه؟ فقال: هذا مخلِّط وهو عدو، فلا تصل خلفه ولا كرامة إلا أن تتقيه»[43].

ولا يخطر ببالك أنهم يريدون بالعدو في قولهم: «ولا يتبرأ من عدوه» عدو المسلمين، بل هم يريدون خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم  الراشدين المهديين ومن تبعهم إلى يوم الدين فهم الأعداء في اصطلاحهم، ولذا قال المجلسي عن أبي بكر وعمر وعثمان: «إنهم لم يكونوا إلا غاصبين جائرين مرتدين، لعنة الله عليهم وعلى من تبعهم من الأولين والآخرين»[44].

وعقد بابًا في هذا الشأن بعنوان: «باب كفر الثلاثة ونفاقهم وفضائح أعمالهم»[45].

وتوجه مصادرهم عبر أدعية خاصة إلى براءة شاملة تتناول البراءة من أفضل الأمة بعد النبيين ثم من شايعهما من الأولين والآخرين، أي البراءة من جميع المسلمين، فمن أدعيتهم: «اللهم العن اللذين بدلا دينك وغيَّرا نعمتك... اللهم العنهما لعنًا يتلو بعضه بعضًا، واحشرهما وأتباعهما إلى جهنم زرقًا، اللهم إنا نتقرب إليك باللعنة عليهما والبراءة منهما في الدنيا والآخرة» إلى أن يقول: «اللهم العنهما لعنًا يلعنهما به كل ملك مقرب، وكل نبي مرسل، وكل مؤمن امتحنت قلبه للإيمان، اللهم العنهما لعنًا يتعوذ منه أهل النار ومن عذابهما، اللهم العنهما لعنًا لا يخطر لأحد ببال، اللهم العنهما لعنًا في مستسر سرك وظاهر علانيتك، وعذبهما عذابًا في التقدير وفوق التقدير، وشارك معهما ابنتيهما وأشياعهما ومحبيهما ومن شايعهما...»[46].

فدين هؤلاء الروافض دين اللعن والتكفير لأهل الاسلام الذين فتحوا بلاد هؤلاء المجوس وأطفأوا نار المجوسية ونشروا الإسلام بينهم.

وقد أوجبوا هذه البراءة على جميع أتباعهم ولا يعفى من القيام بها أحد منهم، بل إن من والى الأئمة وأحبهم ولم يقم بطقوس البراءة فهو كاذب عندهم، «قيل للصادق: إن فلانًا يواليكم إلا أنه يضعف عن البراءة من عدوكم، فقال: هيهات!! كذب من ادعى محبتنا ولم يتبرأ من عدونا»[47].

لكن من قام بواجب البراءة فقد أدى الذي عليه «قال رجل للصادق: إني عاجز ببدني عن نصرتكم، ولست أملك إلا البراءة من أعدائكم واللعن فكيف حالي؟ فقال الصادق - كما يفترون -: حدثني أبي عن أبيه عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  أنه قال: «من ضعف عن نصرتنا أهل البيت فلعن في خلواته أعداءنا بلغ الله صوته جميع الأملاك من الثرى إلى العرش»[48].

بل إن من الملائكة - بزعمهم - من لا شغل لهم إلا البراءة واللعن يقولون: «إن حول العرش تسعين ألف ملك ليس لهم تسبيح ولا عبادة إلا الطاعة لعلي والبراءة من أعدائه»[49].

بل هناك عوالم أخرى مهمتهم البراءة واللعن «خلف مغربكم هذا تسعة وثلاثون مغربًا أرضًا بيضاء مملوءة خلقًا.. يتبرؤون من فلان وفلان»[50].

وقد فطر الله البشر - بزعمهم - على هذه البراءة «إن الله لم يخلق أحدًا إلا وأخذ عليه الإقرار بالوحدانية والولاية للذرية الزكية والبراءة من أعدائهم»[51]. وهي رسالة الأنبياء جميعًا «ما بعث الله نبيًّا قط إلا بولايتنا والبراءة من عدونا»[52]. وهي مقتضى الهداية ومفارقتها عنوان الضلالة ففي قوله سبحانه: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: ٠١] قالوا: إلى ولايتهم جميعًا، وإلى البراءة من أعدائهم جميعًا[53].

والبراءة من المسلمين، بل من خُلَّص المسلمين وهم صحابة رسول الله ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين تصاغ بعبارات تكشف اعتقادهم في أهل الإسلام ونظرتهم إلى عموم المسلمين من جهة، ومن جهة أخرى قد تضلل من لا يعرف حقيقة أمرهم، ولا يدرك خفايا معتقدهم حيث يصفون المسلمين بأعداء أهل البيت والظالمين لهم، يقولون مثلًا: «والبراءة من أعدائهم واجبة، ومن الذين ظلموا آل محمد، وهتكوا حجابه، وأخذوا من فاطمة فدك، ومنعوها ميراثها، وغصبوها وزوجها حقوقهما، وهموا بإحراق بيتها، وأسسوا الظلم، وغيروا سنة رسول الله - صلى الله عليه وآله -، والبراءة من الناكثين والقاسطين والمارقين واجبة، والبراءة من الأنصاب والأزلام أئمة الضلال وقادة الجور كلهم أولهم وآخرهم واجبة...»[54].

البراءة عند الشيعة المعاصرين وولاية الفقيه:

هذه المصادر التي نقلنا منها تلك النصوص هي المصدر الأساس للتلقي عند المعاصرين، ويسمونها «صحاح الإمامية»[55] أو «سنة المعصومين»[56]، ولذا اتفقت كتبهم القديمة والمعاصرة على هذا المفهوم الباطني للبراءة، ففي كتاب «عقيدة الشيعة في الإمامية» المطبوع في سنة 1397هـ لشيخهم المعاصر محمد باقر الأصفهاني، جاءت مجموعة من نصوصهم المسندة إلى معصوميهم - على حد اعتقادهم- لتقرر أن الدين عندهم هو الولاء لأئمتهم وشيعتهم والبراءة من مخالفيهم، وحين ساق الأصفهاني نصوص البراءة والولاء عندهم عقب عليها بقوله: «وقد ثبت بما مر من الأخبار الكثيرة الصريحة الأصلان: التولي، والتبري، وهما أصلان من أصول المذهب عند الإمامية، ومحل اتفاقهم»[57].

فلا يختلف المعاصرون من الشيعة عن الغابرين في الاهتمام بأمر البراءة - كما قلنا -، ولكن الجديد في مذهب الشيعة المعاصرين هو إعلان البراءة من المشركين في زمن الحج على أرض الحرم في المشاعر المقدسة، فإن الدعوة لذلك لم تظهر إلا على لسان آيات قم بعد ابتداع شيخهم الخميني مبدأ عموم ولاية الفقيه، ولذلك لا تجد في كتب الروافض المعتمدة لديهم ذكرًا لمسألة البراءة في شعيرة الحج، وإنما بدأ رفع شعار البراءة في الحج مع التطبيق العملي لمبدأ عموم ولاية الفقيه الذي يتم تطبيقه لأول مرة في حكومة الملالي الإيرانية، والذي تم بموجبه إخراج مهديهم الموهوم في صورة عشرات المعممين الذين باتوا يتولون سلطات الإمام المهدي الغائب بالكامل[58].

وفي نص طويل لهم يحظى بالقداسة - لأنه صدر عن المعصوم بزعمهم - خبر في غاية الأهمية، حيث يكشف لماذا اهتم شيعة عصرنا بدعوى البراءة، يقول خبرهم المزعوم: إن دولة المهدي التي يترقبون ظهورها في آخر الزمان تقوم على دعوة الناس إلى البراءة منهما[59]، أي من الخليفتين الراشدين، ويبدو أن نظرية عموم ولاية الفقيه التي ينادون بها في عصرنا تفرض عليهم القيام بهذه المهمة، وهي دعوة الناس إلى البراءة في فترة غيبة المهدي نيابة عنه، ولذا نادوا بإعلانها في أكبر تجمع إسلامي.

ولعلك تدرك حينئذ أن اشتراطهم واهتمامهم بإعلان البراءة في الحج لاعتقادهم أن من لم يتبرأ فلا دين له، وبالتالي فلا حج له!

:: مجلة البيان العدد  340 ذو الحجة  1436هـ، سبتمبر  - أكتوبر  2015م.

ملف خاص الخطر الايراني يتمدد


[1] انظر: أصول مذهب الشيعة 2/1 وما بعدها.

[2] انظر: الرد على الأخنائي ص47.

[3] بلغت مصنفاتهم في المزار ومناسكه ستين مؤلفًا، كما ذكر ذلك شيخهم أغا بزرك الطهراني في الذريعة. انظر: الذريعة إلى تصانيف الشيعة 20/316-326.

[4] انظر ما يقوله آيتهم الخراساني في تمني كل شيعي فتح مكة والمدينة لنشر الشرك وإعلان الوثنية، وذلك في كتابه: الإسلام على ضوء التشيع ص132-133.

[5] محمد باقر بن محمد المجلسي هو عندهم شيخ الإسلام والمسلمين، خاتم المجتهدين.. ولهم في تعظيمه وتقديسه غلو كثير. انظر من كتبهم: جامع الرواة للأردبيلي 2/78، أمل الآمل للحر العاملي 60، لؤلؤة البحرين للبحراني 44 لتدرك من خلال ذلك أن الرجل عمدة في دينهم، فإذا أخبر عنه فهو الخبير به.

[6] وهو الإمام الدهلوي، صاحب التحفة الإثنى عشرية.

[7] انظر في التعريف بها وقدرها عندهم: الذريعة إلى تصانيف الشيعة لشيخهم أغابزرك الطهراني 2/224-225.

[8] انظر: كيف يستخدم كلمة «دين» ليشير إلى أن ما عليه الإمامية دين مستقل بذاته فهو دين الإمامية كما يسميه، وليتهم يقتصرون على هذا الاسم اليوم إذن لأراحوا واستراحوا ولم يفتنوا المسلمين ويلبسوا عليهم دينهم.

[9] الاعتقادات 90-91.

[10] المصدر السابق 90.

[11] كشف الارتياب المقدمة الثانية، وانظر الموسوي السيزواري. (تهذيب الأحكام 1/388-393).

[12] انظر (فصل عقيدتهم في توحيد الألوهية) في: أصول مذهب الشيعة 2/425 وما بعدها.

[13] بحار الأنوار 23/ 390.

[14] الغيبة للنعماني 82، بحار الأنوار 23/78.

[15] مرآة الأنوار 202، وانظر جملة من هذه النصوص في أصول الكافي 1/437.

[16] بحار الأنوار 48/ 96.

[17] بحار الأنوار 23/ 390.

[18] بحار الأنوار 23/ 390.

[19] انظر: أصول الكافي 1/437.

[20] انظر تفصيل ذلك في: أصول مذهب الشيعة 2/335-400.

[21] وهو المسمى عندهم «دين الإمامية» والذي هو عمدة في بيان أصول دينهم ومن المراجع المعتبرة عند محققيهم، وقد عده عالمهم المعاصر محمد جواد مغنية رئيس المحكمة الجعفرية ببيروت من المراجع الأساسية لمعرفة المذهب الشيعي (انظر: الشيعة في الميزان ص14).

[22] الاعتقادات 114.

[23] تفسير العياشي 2/116، بحار الأنوار 27/58.

[24] بحار الأنوار 27/58.

[25] بحار الأنوار 18/232.

[26] تفسير العياشي 2/243، البرهان 2/345.

[27] البحار 4/378، 8/220.

[28] تفسير العياشي 1/102، البرهان 1/208، تفسير الصافي 1/242.

[29] تفسير القمي 2/106، بحار الأنوار 23/ 304-305.

[30] بحار الأنوار 23/306.

[31] كنز الفوائد 289-390، بحار الأنوار 24/72-73.

[32] بحار الأنوار 24/73.

[33] انظر أيضًا: تفسير القمي الذي هو أصل التفاسير عندهم يرمز للشيخين بفلان وفلان [تفسير القمي 10/301]، ولكن حينما ينقل شيخهم الكاشاني هذا النص يصرح بالاسمين [تفسير الصافي 2/359].

[34] الاعتقادات ص112.

[35] المصدر السابق 112-113.

[36] انظر: بحار الأنوار 47/ 323.

[37] انظر: بحار الأنوار 53/132.

[38] بحار الأنوار 69/241.

[39] وسائل الشيعة 16/266.

[40] وسائل الشيعة 16/267، الكافي 2/375.

[41] بحار الأنوار 22/315.

[42] بحار الأنوار 24/382.

[43] وسائل الشيعة 5/389، وانظر: تهذيب الأحكام 1/253، من لا يحضره الفقيه 1/126.

[44] بحار الأنوار 4/385.

[45] بحار الأنوار، الجزء الثامن من الطبعة الأولى. وهذا الباب يقع في الجزء الثامن من البحار، ولقد صار هذا الباب وأمثاله في هذا الجزء إحدى الفضائح الكبرى لهذه الطائفة، ولذا سارع شيوخهم فمنعوا طبعه حتى لا يطلع المسلمون على سوءاتهم وفضائح أعمالهم.

[46] بحار الأنوار 5/139.

[47] بحار الأنوار 27/58.

[48] بحار الأنوار 27/222، 50/315.

[49] بحار الأنوار 40/95.

[50] بحار الأنوار 27/45.

[51] بحار الأنوار 24/33.

[52] بحار الأنوار 26/229.

[53] بحار الأنوار 24/ 280

[54] بحار الأنوار 10/226-227، الخصال لابن بابويه ص153-154.

[55] انظر: منهاج عملي للتقريب (مقال للرافضي محمد الحائري - معاصر - ضمن كتاب «الوحدة الإسلامية»): ص 233.

[56] انظر: دستور جمهورية إيران: ص20.

[57] عقيدة الشيعة 145-146.

[58] راجع مقالنا: «ولاية الفقيه .. الخطر الأكبر المجهول» عدد: 333، مجلة البيان.

[59] انظر: بحار الأنوار 53/6.

أعلى