سِفْرُ الرؤيا قراءة نقدية

سِفْرُ الرؤيا قراءة نقدية

 

سفر الرؤيا هو آخر سفر فيما يسميه النصارى «العهد الجديد»، وقصته كما تحكي مقدمته: أن كاتبه الذي يقدم نفسه على أنه يوحنا كان في الجزيرة التي تدعى «بطمس»، فبينما هو يمشي سمع من ورائه صوتاً عظيماً كصوت بوق، والتفت فإذا هو المسيح، فألقى إليه السفر وأمره بكتابته وإرساله إلى السبع الكنائس التي في آسيا.

وجاء في إصحاحه الأول: «إِعْلَانُ يَسُوع الْمَسِيحِ الذِي أَعْطاهُ إِياهُ اللهُ لِيُري عَبيدَهُ مَا لَا بُدَّ أَن يَكُونَ عَنْ قَرِيبٍ، وبَيَّنَهُ مُرْسَلاً بيدِ مَلاكِه لِعَبْدِه يُوحَنَّا»، وهو بمنزلة العنوان الرئيسي للسفر؛ يعلن طابعه النبوئي، ويختزل موضوعه في الإخبار بما سيكون في نهاية الأيام.

وهو لذلك يعد المرجع الأساسي الذي يشكل الرؤية العقدية للنصارى حول مجيء السيد المسيح في آخر الأيام، وما يصحبه من أحداث، و«سيناريو» نهاية العالم. ومما يظهر أهميته في هذا الشأن أنه «يحظى.. في أيامنا هذه، بجمهور واسع من القراء في الأوساط المسيحية الأصولية»[1]، المعروفة بعنايتها بأحداث النهاية، ومركزية مجيء المسيح في آخر الزمان ضمن عقائدها؛ وقد بنى أصحابها عليه ترسانة من التصورات والعقائد الأخروية ذات التأثير الفعال والانعكاس المباشر على مواقف كثير منهم من المشروع الصهيوني، وتبنّيهم له نشأة وتنفيذاً ومساراً، وأخطر تلك العقائد الأخروية ما استخلصوه - بضروب من التأويل - من نصوصه من الربط الشرطي بين تجمع اليهود في فلسطين ونزول السيد المسيح في آخر الزمان ليخلص المسيحيين من نكد الدنيا إلى سعادة الحياة الأبدية.

وقد استخلصوا ذلك مما جاء في السفر حول خلاص آلاف من بني إسرائيل بقبولهم رسالة المسيح عند نزوله حسب تأويلهم: «وَرَأَيْتُ مَلاَكاً آخَرَ طَالِعاً مِنْ مَشْرِقِ الشَّمْسِ، مَعَهُ خَتْمُ اللهِ الْحَيِّ، فَنَادَى بِصَوْتٍ عَظِيمٍ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ الأَرْبَعَةِ الَّذِينَ أُعْطُوا أَنْ يَضُرُّوا الأَرْضَ وَالْبَحْرَ قَائِلاً: لاَ تَضُرُّوا الأَرْضَ وَلاَ الْبَحْرَ وَلاَ الأَشْجَارَ، حَتَّى نَخْتِمَ عَبِيدَ إِلَهِنَا عَلَى جِبَاهِهِمْ، وَسَمِعْتُ عَدَدَ الْمَخْتُومِينَ مِئَةً وَأَرْبَعَةً وَأَرْبَعِينَ أَلْفاً، مَخْتُومِينَ مِنْ كُلِّ سِبْطٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ»[2].

ووجه استنباطهم الفكرة المذكورة من هذا النص أن عودة المسيح «ستكون في (أورشليم الجديدة)، وسوف تكون في زمان لليهود فيه وجود في الأرض التي سيعود إليها المسيح.. فلا بد أولاً من عودة اليهود.. لكي يعود المسيح»[3]، لهذا فـإن كثيراً من الكنائس البروتستانتية تعتقد «أن تجمع اليهود في فلسطين هو مجرد تمهيد لتنصيرهم قبل المجيء الثاني للمسيح»[4].

ومع المكانة التي يتبوؤها هذا السفر لدى النصارى، خاصة الأصوليين منهم ممن يعرفون بـ«المسيحيين الصهيونيين»؛ فهو سفر مطعون فيه من نواحٍ عديدة؛ ما يجعل التصديق بكونه من الوحي الإلهي، والاعتماد عليه في بناء القناعات، وتوجيه المواقف والسلوك؛ من غير المقبول عند ذوي العقول وأرباب الإنصاف، وقد اخترت أن أتبع في نقده أسس ما يسمى «النقد الداخلي للنص»، أو «التحليل النصي للنص»؛ لأنه في تقديري المنهج الذي يقطع الشك باليقين في مجادلة من يدين بإلهية مصدره، ولأنه لا سبيل إلى نقده في ضوء القواعد الأخرى لنقد الروايات غير نقد المتون؛ لافتقاره إلى السند كما هو معلوم.

ويرتكز هذا المنهج في مجال نقد النصوص الكتابية على إبراز التناقض الداخلي للنص، وتناقضه مع نصوص أخرى في السفر نفسه أو في سفر آخر في الكتاب «المقدس»، أو مصادمته البدهيات العقلية، أو حقائق العلم والتاريخ، أو مخالفته الواقع بتخلف ما تنبأ النص بوقوعه، أو مقابلته بنصوص الأسفار السابقة عليه للتحقق من كونه مقتبساً أو غير مقتبس منها.

ومن المطاعن التي يمكن توجيهها لهذا السفر:

1 - أنه مطعون في «قانونيته»، مشكوك في نسبته لمن نسب إليه.. قال الناقد الأمريكي جوناثان كيرش: «إن سفر الرؤيا ينظر إليه دائماً بعين الشك، باعتباره شيئاً غريباً ينتمي بالصدفة وبصورة محرجة للإنجيل، حتى في أوساط المسيحيين الأتقياء (كذا)، وحتى في العهود السابقة»[5]، فـ«ما إن نسخ سفر الرؤيا على الرق أو أوراق البردي في أواخر القرن الأول، حتى بدأت بعض السلطات الكنسية الحذرة تنظر إليه بحذر وارتياب؛ إذ هالهم ما به من مشاهد عنف دام... وأثارت غضبهم فكرة حكم الملك يسوع لمدة ألف سنة على مملكة أرضية، فصدمتهم باعتبارها فكرة يهودية صرفة لما ستكون عليه مملكة المسيح، كما ساءهم ما لم يرد له ذكر فيه؛ فلا تطالعنا في سفر الرؤيا مشاهد مألوفة من حياة يسوع الناصري ومماته، ولا شيء من تعاليمه الأخلاقية السامية»[6].

«وقال يوسي بيس في الباب 25 من الكتاب 7 من تاريخه: (قال ديونيسيش: أخرج بعض القدماء كتاب المشاهدات [مشاهدات يوحنا، وهو سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي] من الكتب المقدسة، واجتهد في رده، وقال: هذا كله لا معنى له.. ونسبته إلى يوحنا الحواري غلط، ومصنِّفه ليس بحواري ولا رجل صالح ولا مسيحي، بل نسبه (سرن تهس) الملحد إلى يوحنا، لكني لا أقدر على إخراجه من الكتب المقدسة؛ لأن كثيراً من الإخوة يعظمونه)»[7]، وإذا كان «مصنِّفه ليس بحواري ولا رجل صالح ولا مسيحي»؛ ألا يكون من الوارد في تقدير المسيحيين أن يعمد هذا المصنف إلى نسج هذه الرؤى من خياله معتمداً على ثقافته الدينية، ثم يدّعي أن المسيح هو الذي ألقاها إليه؟ ما الذي سيزعه عن الكذب وهو «ليس برجل صالح»؟ وهل من النصح للدين الإبقاء على سفر مقطوع بكذبه ضمن الكتب المقدسة بلا مسوغ إلا «لأن كثيراً من الإخوة يعظمونه»؟

هذا وقد «أقدم مارتن لوثر على حذفه من ترجمته الألمانية للكتاب المقدس؛ لأنه لا ذكر فيه لتعاليم المسيح أو للمسيح نفسه، وفيما بعد رفض جورج برنارد شو سفر الرؤيا باعتباره سجلاً غريباً لرؤى مدمن مخدرات، واعتبر سي. جي. يونج رؤى سفر الرؤيا غير جديرة بالدرس الجاد... حتى علماء الدين الأتقياء (كذا) يرتابون دائماً عما يمكن أن يجنيه أي باحث جاد من مطالعة نصه»[8]، وذلك ما لاحظه أيضاً الباحث في الأديان أحمد شلبي، إذ قال: «ما كان أجدر بالمسيحيين أن يحذفوا هذه الرؤيا من الكتاب المقدس، فهي للخرافات أقرب»[9].

2 - أن مطالع السفر سيجده - دون بقية كتب العهد الجديد - سفراً تسري فيه الروح الثقافية للعهد العتيق، ما يوحي بالخلفية اليهودية لكاتبه؛ فـ«كاتب سفر الرؤيا كان يهودي المولد والنشأة، وربما كان لاجئ حرب فر من يهوذا... فأخذ يعبر عن شعور الازدراء والاشمئزاز تجاه غزاة أرض اليهود. ومن المؤكد أن مؤلفه كان واحداً من اليهود ممن كانوا يعتبرون يسوع الناصري المسيح الموعود الذي طال انتظاره؛ ومع ذلك يظل سفر الرؤيا متأصلاً في التاريخ اليهودي والسياسة اليهودية واللاهوت اليهودي، حتى وصف بأنه وثيقة يهودية ذات لمسة مسيحية طفيفة... ويوصف مؤلفه بأنه حاخام مسيحي»[10]؛ ومما يدل على أن كاتبه كان يستوحي أفكاره من التراث اليهودي:

أ - أن «الشخصية السماوية التي تكشف المخطط الإلهي لنهاية العالم تسمى (شبيه ابن إنسان)، و(ابن الله)، و(الروح)، و(الحمل)؛ وكلها مصطلحات مستعارة من التراث المسيحاني اليهودي»[11]، وهي مصطلحات كثيرة التردد في السفر. أضف إلى ذلك تأكيد السفر فكرة الملك الألفي للمسيح، وهي كما مر «فكرة يهودية صرفة»[12]. وكذا عناية الرائي ببني قومه (بنو إسرائيل) في أبرز لحظات رؤياه، حتى جعل أبواب «أورشليم السماوية» = «الجنة» 12 باباً بعدد أسباط بني إسرائيل، ورأى مكتوباً على كل باب منها اسم سبط من أسباطهم؛ يقول الرائي: «وَأَرَانِي (الروح) الْمَدِينَةَ الْعَظِيمَةَ أُورشَلِيمَ الْمُقَدَّسَةَ نَازِلَةً مِنَ السَّمَاءِ مِنْ عِنْدِ اللهِ، لَهَا مَجْدُ اللهِ، وَلَمَعَانُهَا شِبْهُ أَكْرَمِ حَجَرٍ كَحَجَرِ يَشْبٍ[13] بَلُّورِيٍّ، وَكَانَ لَهَا سُورٌ عَظِيمٌ وَعَالٍ، وَكَانَ لَهَا اثْنَا عَشَرَ بَاباً، وَعَلَى الأَبْوَابِ اثْنَا عَشَرَ مَلاَكاً، وَأَسْمَاءٌ مَكْتُوبَةٌ هِيَ أَسْمَاءُ أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الاِثْنَيْ عَشَرَ»[14].

ب - أن مقارنة بسيطة بين سفر الرؤيا وبعض أسفار العهد العتيق، خاصة سفر دانيال؛ تجعلك تدرك أن فقرات منه بأكملها منقولة حرفياً أحياناً عن أسفار الكتاب العبري، وفي هذا الجدول نماذج من أوجه التشابه بين سفر الرؤيا وبعض أسفار العهد القديم:

 

في العهد القديم

في سفر الرؤيا

رؤية شبه ابن إنسان قادماً من السماء على السحاب

«كنت أرى في رؤى الليل، وإذا مع سحب السماء مثل ابن إنسان أتى وجاء إلى القديم الأيام فقربوه قدامه، فأعطي سلطاناً ومجداً وملكوتاً لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول وملكوته ما لا ينقرض». (سفر دانيال: 7/13-14)

«ثم نظرت وإذا سحابة بيضاء وعلى السحابة جالس شبه ابن إنسان له على رأسه إكليل من ذهب وفي يده منجل حاد». (سفر الرؤيا: 14/14)

وصف شخص تجلى للرائي على هيئة شيخ

«كنت أرى أنه وضعت عروش وجلس القديم الأيام لباسه أبيض كالثلج وشعر رأسه كالصوف النقي وعرشه لهيب نار». (سفر دانيال: 7/9)

«وأما رأسه وشعره فأبيضان كالصوف الأبيض كالثلج وعيناه كلهيب نار، ورجلاه شبه النحاس النقي». (سفر الرؤيا: 1/13-15)

الوحش

الصاعد من البحر

«وصعد من البحر أربعة حيوانات عظيمة، هذا مخالف ذاك... بعد هذا كنت أرى في رؤى الليل وإذا بحيوان رابع هائل وقوي وشديد جداً... وكان مخالفاً لكل الحيوانات الذين قبله، وله عشرة قرون». (سفر دانيال: 7/3-7)

«ثم وقفت على رمل البحر، فرأيت وحشاً طالعاً من البحر له سبعة رؤوس وعشرة قرون، وعلى قرونه عشرة تيجان، وعلى رؤوسه اسم تجديف». (سفر الرؤيا: 13/1)

جوج وماجوج ومعركة النهاية

«هكذا قال السيد الرب: هأنذا عليك يا جوج رئيس روش ماشك وتوبال، وأردك وأقودك وأصعدك من أقاصي الشمال، وآتي بك على جبال إسرائيل، وأضرب قوسك من يدك اليسرى، وأسقط سهامك من يدك اليمنى، فتسقط على جبال إسرائيل أنت وكل جيشك والشعوب الذين معك، أَبْذُلُك مأكلاً للطيور الكاسرة من كل نوع، ولوحوش الحقل... وأرسل ناراً على ماجوج... وأنت يا ابن آدم، فهكذا قال السيد الرب: قل لطائر كل جناح ولكل وحوش البر: اجتمعوا وتعالوا، احتشدوا من كل جهة إلى ذبيحتي التي أنا ذابحها لكم ذبيحة عظيمة على جبال إسرائيل لتأكلوا لحماً وتشربوا دماً، تأكلون لحم الجبابرة وتشربون دم رؤساء الأرض كباش وحملان وأعتدة (صغار المعز) وثيران... فتشبعون على مائدتي من الخيل والمركبات والجبابرة وكل رجال الحرب يقول السيد الرب». (سفر حزقيال: 39/1-20)

«لا بد أن يحل (الشيطان)... من سجنه، ويخرج ليضل الأمم الذين في أربع زوايا الأرض: جوج وماجوج؛ ليجمعهم للحرب، الذين عددهم مثل رمل البحر، فصعدوا على عرض الأرض وأحاطوا بمعسكر القديسين وبالمدينة المحبوبة (القدس) فنزلت نار من عند الله من السماء وأكلتهم». (سفر الرؤيا: 20/3-10)

«ثم رأيت السماء مفتوحة وإذا فرس أبيض، والجالس عليه يدعى أميناً وصادقاً، وبالعدل يحكم ويحارب... ورأيت ملاكاً واحداً واقفاً في الشمس فصرخ بصوت عظيم قائلاً لجميع الطيور الطائرة في وسط السماء: هلم اجتمعي إلى عشاء الإله العظيم، لكي تأكلي لحوم ملوك ولحوم قواد ولحوم أقوياء ولحوم خيل والجالسين عليها، ولحوم الكل حراً وعبداً صغيراً وكبيراً... وجميع الطيور شبعت من لحومهم». (سفر الرؤيا: 19/11-21)

وصف مرئي في المنام

«ومن حقويه إلى فوق كمنظر لمعان كشبه النحاس اللامع». (سفر حزقيال: 8/2)

«ورجلاه شبه النحاس النقي». (سفر الرؤيا: 1/15)

 وهكذا بالمقارنة نجد المطابقة الكاملة أو شبه التامة بين كثير من فقرات سفر الرؤيا ونظائرها من أسفار العهد العتيق، ما يدلل على الخلفية اليهودية لكاتبه، ويؤكد صواب ما قرره جوناثان كيرش من «أن بعضاً من أكثر شخصيات سفر الرؤيا ومشاهده ألفة، يمكن ردها إلى فقرات بعينها من الكتاب المقدس العبري»[15].

3 - ما فيه من التناقض، ومن ذلك: تناقضه في وصف «الرب» الذي تجلى له في الحلم، فرب كاتب السفر، وهو يسوع المسيح كما يقول، يأتيه تـارة «شِبْهَ ابْنِ إِنْسَانٍ، مُتَسَرْبِلاً بِثَوْبٍ إِلَى الرِّجْلَيْنِ، وَمُتَمَنْطِقاً عِنْدَ ثَدْيَيْهِ بِمِنْطَقَةٍ مِنْ ذَهَبٍ، وَأَمَّا رَأْسُهُ وَشَعْرُهُ فَأَبْيَضَانِ كَالصُّوفِ الأَبْيَضِ كَالثَّلْجِ، وَعَيْنَاهُ كَلَهِيبِ نَار»[16]، وتارة يراه «حَمَلاً قَائِماً كَأَنَّهُ مَذْبُوحٌ، لَهُ سَبْعَةُ قُرُونٍ وَسَبْعُ أَعْيُن»[17].

ويتمثل له حيناً آخر محارباً قوياً يمتطي صهوة فرس أبيض «وَعَيْنَاهُ كَلَهِيبِ نَارٍ، وَعَلَى رَأْسِهِ تِيجَانٌ كَثِيرَةٌ، وَلَهُ اسْمٌ مَكْتُوبٌ لَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُهُ إِلَّا هُوَ، وَهُوَ مُتَسَرْبِلٌ بِثَوْبٍ مَغْمُوسٍ بِدَمٍ»[18].

وهنا يذكر أن «له اسماً مكتوباً ليس أحد يعرفه إلا هو»، لكن سرعان ما يتكشف له أن «لَهُ عَلَى ثَوْبِهِ وَعَلَى فَخْذِهِ اسْماً مَكْتُوباً (مَلِكُ الْمُلُوكِ وَرَبُّ الأَرْبَابِ)»[19].

4 - أن قارئ السفر سيلحظ هوساً لدى كاتبه بالعدد «سبعة»، وإفراطاً كبيراً في استعماله؛ فقد ذكر مما رآه «15 معدوداً» كلها يبلغ عددها سبعة؛ حيث رأى «سبعة كواكب»، و«سبع أرواح»، و«سبعة مصابيح»، و«سبعة قرون»، و«سبعة جبال»، و«سبعة تيجان»، و«سبع أعين»، و«سبعة أبواق»، و«سبعة ملائكة»، و«سبع ضربات»، و«سبعة جامات من ذهب»، و«سبع مناير من ذهب»، و«سبع كنائس»، و«سبعة أختام»، و«سبعة رعود»[20].

وهذا الإفراط في استعمال عدد «سبعة» مما قد يجعل القارئ يتساءل: أليس كثيراً على المصادفة أن يكون جُل ما يراه هذا الرائي أو يسمعه في حلمه يصل في عدده إلى سبعة أفراد، لا يزيد عليها ولا ينقص؟ لم لا يكون بعض المعدودات المذكورات أقل أو أكثر من سبعة؟ ألا يكون هذا أمارة على تأثر خاص وهوس بهذا العدد المعروف بتوظيفه في أعمال الشعوذة والسحر، الشيء الذي ينزه عنه منزل الوحي؟

5 - منافاته الفلسفة العامة للعهد الجديد، فالأناجيل تقدم عيسى - عليه السلام - في صورة الرجل المسالم، الرؤوف الرحيم بأتباعه وأعدائه، ذي الشخصية الهادئة المتواضعة الوديعة الذي يوصي أتباعه بمسالمة الناس، بل بملاطفة الأعداء ومباركة اللاعنين، وحب المبغضين، ومقابلة الإساءة بالدعاء والإحسان؛ كما في إنجيل متى: «سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ (في التوراة): تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ، وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ، أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ»[21]؛ بينما يصوره سفر الرؤيا محارباً قاسياً لا يعرف الرحمة، سيقدم إذا نزل من السماء آخر الزمان على قتل ملايين من أبناء الأمم بسيفه، حتى يهيئ الأرض ليحيا عليها هو وأتباعه فقط حياة سعيدة هنيئة، يقول السفر: «ثُمَّ رَأَيْتُ السَّمَاءَ مَفْتُوحَةً، وَإِذَا فَرَسٌ أَبْيَضُ وَالْجَالِسُ عَلَيْهِ يُدْعَى أَمِيناً وَصَادِقاً، وَبِالْعَدْلِ يَحْكُمُ وَيُحَارِبُ، وَعَيْنَاهُ كَلَهِيبِ نَارٍ، وَعَلَى رَأْسِهِ تِيجَانٌ كَثِيرَةٌ... وَالأَجْنَادُ الَّذِينَ فِي السَّمَاءِ كَانُوا يَتْبَعُونَهُ عَلَى خَيْلٍ بِيضٍ، لاَبِسِينَ بَزّاً أَبْيَضَ وَنَقِيّاً، وَمِنْ فَمِهِ يَخْرُجُ سَيْفٌ مَاضٍ لِكَيْ يَضْرِبَ بِهِ الأُمَمَ»[22]. فـ«الراكب على الفرس الأبيض» في هذا الحلم عند مفسريهم هو السيد المسيح، قال ابن كاتب قيصر: «والرمز بالراكب إلى سيد الكل»[23]، وهو المسيح، والفرس الأبيض محمول عند الحرفيين من النصارى على حقيقته، وهو عند الكنيسة التقليدية «رمز على العدل والخير والظفر»[24].

وإذا كان العهد الجديد بكل أسفاره وحياً من الله، فكيف يصدر عن الله نمطان من الوحي؛ أحدهما يجعل المسيح شخصاً وديعاً رحيماً مسالماً داعية للمحبة والسلام، والآخر يجعله محارباً قاسياً سفاكاً للدماء فظاً لا يعرف الرأفة واللين؟

إن من النقاد من يرجع هذا التنافر بين نصوص العهد الجديد بشأن شخصية المسيح إلى الرؤية اليهودية لشخصية المسيح المنتظر، التي يكتب بها كاتب سفر الرؤيا، الذي أقحم في العهد الجديد مع منافاته لروحه؛ وقد مر بك شيء من دلائل يهودية مؤلف السفر.

وبعد؛ فإن هذه الملاحظ الخمسة جزء يسير مما يمكن أن يخرج به الدارس المنصف من أوجه الخلل الكثيرة التي تبرهن على بشرية السفر، وأنه من تأليف يهودي تنصّر، ثم كُتب له أن يكون جزءاً من الكتاب «المقدس» الذي يعتقد الملايين من النصارى أنه وحي من الله.

 :: مجلة البيان العدد  333 جمادى الأولى 1436هـ، فبراير - مارس 2015م.


[1] جوناثان كيرش، «تاريخ نهاية العالم»: كيف غير أكثر أسفار الكتاب المقدس إثارة للجدل حضارة الغرب، ترجمة د. عبدالوهاب علوب، ط. مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، الطبعة 2، (1432هـ/2011م)، ص 16.

[2] سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي: 7/2-4.

[3] عبد العزيز مصطفى كامل، «حمى سنة 2000: نظرات في مسيرة الصراع الديني ضد المسلمين»، من إصدارات مجلة البيان، ط 3 (دون تاريخ)، ص 143.

[4] لي أوبرين، «المنظمات اليهودية الأمريكية ونشاطاتها في دعم إسرائيل»، ترجمة جماعة من الأساتذة بإشراف ومراجعة الدكتور محمود زايد، ط. مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، الطبعة 1، (1986م)، ص 286.

[5] جوناثان كيرش، «تاريخ نهاية العالم»، ص 17.

[6] نفسه، ص 20.

[7] رحمة الله الهندي، «إظهار الحق»، دراسة وتحقيق وتعليق: د. محمد خليل ملكاوي، ط. الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء، السعودية، (1410هـ/1989م): 1/160.

[8] جوناثان كيرش، المرجع السابق، ص 21.

[9] مقارنة الأديان، كتاب المسيحية، ط. مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، الطبعة 10، (1998م)، ص 206.

[10] جوناثان كيرش، «تاريخ نهاية العالم»، ص 20.

[11] نفسه، ص 23.

[12] نفسه، ص 20.

[13] «اليشب»: «نوع غير نقي من السليكات ذات التبلور الكاذب، لونها في العادة أحمر أو بني أو أصفر، ويندر أن يكون أخضر، وبعض أنواع اليشب ذو خطوط جميلة مختلفة الألوان وصالح للزينة». المعجم الوسيط، مادة «يشب».

[14] سفر الرؤيا: 21/10-12.

[15] تاريخ نهاية العالم، ص: 42.

[16] سفر الرؤيا: 1/13-15.

[17] سفر الرؤيا: 5/6.

[18] سفر الرؤيا: 19/12-13.

[19] سفر الرؤيا: 19/16.

[20] انظر هذه المعدودات بالترتيب في سفر الرؤيا: 1/13-15، و5/6، و19/12-13، و19/16، و1/16، و3/1، و4/5، و5/6، و17/9، و12/3، و5/6، و8/2، و8/2، و15/1، و15/7، و1/12، و1/4، و6/1، و10/3.

[21] إنجيل متى: 5/43-44.

[22] سفر الرؤيا: 19/11-21.

[23] تفسير رؤيا القديس يوحنا اللاهوتي، عني بمراجعته ووضع حواشيه القمص أرمانيوس البرماوي، ط. مكتبة المحبة، مصر، الطبعة 3، (1994م)، ص: 372.

[24] نفسه.

أعلى