التعامل مع كتب ابن تيمية

التعامل مع كتب ابن تيمية

يعد ابن تيمية من أفراد الدهر في كثرة تأليفه، فلا يُعلم في الإسلام من صنّف نحو ما صنف ولا قريباً إلا أفراد قليلون، وكان يكتب جُلَّ مؤلفاته من حفظه، وكان ذا قلم سريع الكتابة، إذا رقم يكاد يسابق البرق إذا لمع[1].

قال تلميذه ابن عبدالهادي: «وللشيخ رحمه الله من المصنفات والفتاوى والقواعد والأجوبة والرسائل وغير ذلك من الفوائد ما لا ينضبط، ولا أعلم أحداً من متقدمي الأئمة ولا متأخريها جمع مثل ما جمع، ولا صنّف نحو ما صنّف ولا قريباً من ذلك»[2].

وجمع الحافظ الذهبي منها اسم ألف مصنف، ثم حصلت له زيادات بعد ذلك[3].

ومع وفرة هذه الكنوز وكثرتها، التي هي أشبه بموسوعات متعددة ومتنوعة، حيث تستوعب علوم الشريعة والآلة وسائر العلوم، فإنها تشتمل على جودة التأصيل وحسن التقعيد، وتحوي قوة الحجاج، وبراعة النقاش، إضافة إلى ما يتحلى به هذا التراث من قوة في التحقيق وعمق في التحرير.

ومن ثم جاءت هذه الكلمات في إيراد تنبيهات لعلها تكون عوناً على التعامل الصحيح مع مؤلفات ابن تيمية - لاسيما مؤلفاته في الاعتقاد - وسبيلاً إلى الفهم الصائب لها:

- من بدهيات التحصيل العلمي: مراعاة سلم العلوم، والانتقال من الوجيز إلى البسيط، وفي كتب ابن تيمية نبدأ بالمختصرات في التقرير كالعقيدة الواسطية والوصية الصغرى مثلاً، ثم كتبه المتوسطة في التقرير والتقعيد كالتدمرية وقاعدة جليلة في التوسل، ويليها مصنفاته المختصرة في الرد كالمراكشية والأكملية، وننتهي إلى مؤلفاته المطولة في الرد والنقاش كالدرء والجواب الصحيح.

كما ينظر في طبيعة المسائل والدلائل، فإن مطالعة مسائل توحيد العبادة ومسائل الصحابة - مثلاً - أرفق وأيسر، فيصلح تقديمها، وأما تفاصيل مسائل الصفات الإلهية ومسائل القدر فيمكن تأجيل مطالعتها أثناء قراءة التراث التيمي.

وكذا في الدلائل، فيطالع ابتداءً ما دونه عن حجية النقل، والاستدلال بالوحي، ولزوم السنة، ثم يعقبه النظر فيما بسطه بشأن حجية العقل، وضوابط، وقضاياه، ومعارضاته.

- يراعي التدرج والأناة في مطالعة تلك المؤلفات، لاسيما في المسائل الشائكة والعميقة، إذ يحصل بذلك إحكام العلوم، وضبط المسائل والدلائل، كما أوصى به المؤلف في قوله:

«ومن فهم ما كُتب انفتح له الكلام في هذا الباب [مسألة الحكمة وتعليل أفعال الله]، وأمكنه أن يحصل تمام الكلام في جنس هذه المسائل، فإن الكلام فيها بالتدريج مقاماً بعد مقام هو الذي يحصل به المقصود، وإلا فإذا هجم على القلب الجزم بمقالات لم يحكم أدلتها وطرقها، والجواب عما يعارضها كان إلى دفعها والتكذيب بها أقرب منه إلى التصديق بها...»[4].

إن التريث والتدريج «وطول الزمان» يحقق فهماً راسخاً، وتصوراً عميقاً، ونضجاً وافراً لمسائل ودلائل تلك المؤلفات.

- الحرص على فهم تقريرات ابن تيمية وفق مراده ومقصوده، وحسب سياق كلامه، واستصحاب موارد تحريراته في سائر مؤلفاته، فلا يتشبث بعبارة مجملة مشتبهة، ويهجر تقريراته المحكمة البينة، ولا يبتر الكلام عن سياقه وسباقه.

وقد نبه ابن تيمية على هذا الأمر الجليل فقال:

«يجب أن يفسر كلام المتكلم بعضه ببعض، ويؤخذ كلامه ههنا وههنا، وتعرف ما عادته يعنيه ويريده بذلك اللفظ إذا تكلم به، وتعرف المعاني التي عرف أنه أرادها في موضع آخر، فإذا عُرف عُرْفُه وعادته في معانيه وألفاظه كان هذا مما يستعان به على معرفة مراده.

وأما إذا استعمل لفظه في معنى لم تجر عادته باستعماله فيه، وترك استعماله في المعنى الذي جرت عادته باستعماله فيه، وحمل كلامه على خلاف المعنى الذي قد عرف أنه يريده بذلك اللفظ، يجعل كلامه متناقضاً، ويترك كلامه على ما يناسب سائر كلامه، كان ذلك تحريفاً لكلامه عن موضعه، وتبديلاً لمقاصده وكذباً عليه»[5].

فطالما حُمِّل كلام أبي العباس ابن تيمية ما لا يحتمل، إذ يعمد بعضهم إلى الاحتجاج بالأغرب من كلامه، ويهمل الأغلب والأعم من تحريراته، ويتعلل بكلام محتمل موهم، ويعرض عما كان قطعياً جلياً.

- من محاسن مؤلفات أبي العباس: التكرار والتثنية لكثير من المسائل والدلائل، والمباحث والوجوه، فقلما تجد مسألة في كتاب إلا وقد ورد تقريرها وتأكيدها في عدة مواطن.

وكما قالوا في المفاضلة بين صحيح البخاري وصحيح مسلم:

قالوا المكرر فيه

قلت المكرر أحلى

لكن تلك المسألة وإن تكرر أصلها في غير موضع، إلا أن لكل موضع ما يخصه من بيان أو اختصار، أو تمثيل وتوضيح، فيتنوع ذلك حسب السياق والمقام، ومورد الكلام.

فإن في هذا التكرار تأكيداً وتثبيتاً للمسألة، وبياناً لمجمل، وتوضيحاً لمشتبه، وبسطاً لمختزل، وترتيباً لمتناثر.

وقد أشار ابن تيمية إلى أهمية تنوع العبارات وتكرارها في الرد على المخالفين فقال في الرد على الفلاسفة:

«وهذا الموضع إذا تدبّر من يفهمه ويفهم مذهبهم علم أنه يبيّن فساد قولهم بالضرورة، وكلما غُيّرت العبارات الدالة عليه زاد بياناً وقوة»[6].

وما كان من الأصول المهمة - لدى ابن تيمية - فيزداد تكراره، ويتعدد إيراده، ومن ذلك: أن الاتفاق في القدر المشترك والاسم العام بين الخالق والمخلوق، لا يستلزم تمثيلاً، وأن الاسم بعد الإضافة والتقييد يخصّ كل واحد منهما.

فقال - رحمه الله - عن أهمية ذلك الأصل: «ينفع في عامة العلوم، فلهذا يتعدد ذكره في كلامنا بحسب الحاجة إليه، فيحتاج أن يفهم في كل موضع يحتاج إليه، وبسبب الغلط فيه ضل طوائف من الناس»[7].

- ألمح ابن تيمية إلى معنى لطيف فقال: «إذا اتسعت العقول وتصوراتها اتسعت عباراتها، وإذا ضاقت العقول والتصورات بقي صاحبها كأنه محبوس العقل واللسان»[8].

إن وفرة العقل التيّمي، وسعة فكره، ورحابة اعتباره ونظره أورثته تنوعاً في العبارات، وثراء في المصطلحات، فلا يحجر واسعاً في ألفاظه، ولا تأسره كلمات رتيبة في تدوينه، فأعقب هذه السعة - لدى أبي العباس - التجوز في العبارات، والتسامح في المصطلحات، مع تحري البيان والتفصيل عند الإجمال والاشتراك.

فليست تقريرات ابن تيمية كتقريرات المتون المغلقة، كما أنه لا يعوّل على مجرد المصطلحات اللفظية، فالعبرة بالحقائق وليست بمجرد ألفاظ وتعبيرات.

يقول - رحمه الله -: «والاصطلاحات اللفظية ليست دليلاً على نفي الحقائق العقلية»[9].

ويقول أيضاً: «والمعاني العقلية لا يعتبر فيها مجرد الاصطلاحات»[10].

ومن العجيب أن مرونته في الألفاظ والمصطلحات لا تتعارض مع حرصه الشديد على لزوم الألفاظ الشرعية، وتحري الكلمات القرآنية والنبوية، فهذا التسامح مع تلك الألفاظ حال الاحتياج إليها، وعقب التفصيل والبيان لمدلولاتها.

- وإذا كان في تراث أبي العباس مواطن يتعسر فهمها على قوم، ويتعذر فقهها على آخرين، لاسيما في مواضع النقاش التفصيلي، والجواب المبسوط عن شبهات المخالفين كالفلاسفة والمتكلمين مثلاً، فيمكن أن يُتجاوز ذلك بأن يُحرص على فهم أصل المسألة ونستوعب المراد بها جملةً، وإن تعذّر فهم عباراتها تفصيلاً.

وأما مطالعة ما لا يُفهم مطلقاً فإن ذلك شاقّ على النفوس كما هو معلوم.

وقد قال ابن تيمية: «إن بعض الناس لو قرأ مصنفات الناس في الطب والنحو والفقه والأصول، لكان من أحرص الناس على فهم معنى ذلك، ولكان من أثقل الأمور عليه قراءة كلام لا يفهمه»[11].

ولا نهمل الاستغفار، وقد جرّبه أبو العباس في حل المسائل المشكلات، فقال:

«إنه ليقف خاطري في المسألة فأستغفر الله تعالى ألف مرة أو أكثر أو أقل، حتى ينشرح الصدر وينحل إشكال ما أشكل»[12].

وأخيراً فليست مصنفات ابن تيمية مجرد ثراء معرفي، أو تحصيل علوم محضة بل هي كنوز ودرر تجمع كمالاً في القوة العلمية والقوة العملية، ففيها الفقه والعلم والنظر المشروع، كما أن فيها العمل والإرادة والعبادة والنسك، فهي تثري العقل وتنميه، وتحرّك القلب وتغذيه في سيره إلى الله والدار الآخرة.

قال - رحمه الله -: «قد أوعبت الأمة في كل فن من فنون العلم إيعاباً، فمن نوّر الله قلبه هداه بما يبلغه من ذلك، ومن أعماه لم تزده كثرة الكتب إلا حيرة وضلالاً»[13].

:: مجلة البيان العدد  332 ربيع الآخر 1436هـ، يناير - فبراير 2015م.


[1] المداخل إلى آثار ابن تيمية لبكر أبو زيد ص24.

[2] العقود الدرّية في بعض مناقب ابن تيمية (ت: العمران) ص37.

[3] ينظر: الرد الوافر لابن ناصر الدين ص72، والمداخل لبكر أبي زيد ص42.

[4] الفتاوى 8/158 (أقوم ما قيل في القدر والتعليل).

[5] الجواب الصحيح 2/288.

[6] الصفدية 1/20.

[7] الدرء 1/216.

[8] الرد على المنطقيين ص166.

[9] التدمرية ص130.

[10] الدرء 2/222.

[11] جواب الاعتراضات المصرية ص14.

[12] العقود الدرية ص10.

[13] الفتاوى 10/665.

أعلى