• - الموافق2024/04/19م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الانتصــار في المناطق الساخنة

الانتصــار في المناطق الساخنة


الحياة صراع:

عندما قرر ربنا أنه {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ } [البقرة: 251]، علمنا أولاً: أن الحياة الدنيا في دار الابتلاء تعني وجود الخير والشر. وثانياً: أن أهل الباطل لا يكتفون بفساد خاص بهم، بل يحرصون على إفساد الأرض حولهم. وثالثاً: أن الحياة يحصل فيها من الخير بقدر ما يحصل من مدافعة أهل الحق لأهل الباطل.

أهمية المناطق الآمنة:

وبما أن هذا الصراع ممتد وطويل، فإنه يحتاج إلى مناطق آمنة تجمع فيها فئة الحق قواها، وتعدّ كفاءاتها، وتحشد الإمدادات المطلوبة للاستمرار في المعركة، بل تتخذ فيها القرارات الاستراتيجية لإدارة المعركة بعيداً عن ضغط واقع مؤقت.

دور المناطق الساخنة:

لكن المناطق الساخنة، وهي أماكن الاشتباك والتدافع بين المعسكرين؛ تبقى دائماً أماكن الصراع الفعلي، وفيها تكتب الانتصارات أو الهزائم وتحسم المعارك، ومنها يكون التمدد أو الانكماش من خلال تحريك الحدود الفاصلة بينهما.

قبل الثورة المصرية:

قلَّل النظام المستبد من المناطق الآمنة للعمل الإسلامي، فحاصر الدعوة في المساجد، وفرض السيطرة على النقابات المهنية والاتحادات الطلابية، وضيَّق الخناق على أهل العمل الإسلامي في مختلف الوظائف الرسمية؛ منعاً أو تهميشاً، لا سيما ما كان منها متماساً مع الناس؛ كالتدريس، أو يمثل نوعاً من القوة في الدولة؛ كالجيش والشرطة.

في مقابل ذلك حرص على زيادة حدود دولته العميقة في كل مفاصل الدولة الرسمية والمجتمعية والاقتصادية، وظلت المناطق الحدودية الساخنة يتم تقليلها وتبريدها بالسلطة الجبرية.

وجاءت الثورة:

فتم الاشتباك بالحشد الجماهيري في الشوارع أمام بطش شرطة النظام، وبقدر ما تزايد الدفع بالاستمرار في الاحتشاد، بقدر ما تزايدت حدود الحرية وتراجعت حدود الاستبداد.. كل ذلك كان باقتحام مناطق ساخنة وتحقيق نصر حقيقي فيها، نصر كان له ثمنه من الدماء والجراحات، بل تحمّل المخاوف من التبعات.

أدت المناطق الآمنة دورها، فالمخزون العددي من عموم الناس وخصوصهم استمروا في العطاء والدعم؛ ربما لأن النظام قد نجح في إقناع الجميع بأنه لا أمل في مستقبل ما دام مستقراً، وربما لأن الطليعة التي كسرت هيبة القوة الجبرية فتحت للناس باب أمل أوهمهم الظالمون أنه لن يُفتح أبداً، وربما أدت ثورة تونس التي سبقتنا دورها في التأثير على الفئتين جميعاً، وربما أثر كل ذلك وغيره، لكن النتيجة كانت ثورة رآها العالم كله.

مرحلة المجلس العسكري:

حرص المجلس على تبريد الحدود الملتهبة، وتفريغ المناطق الساخنة، فأوهم القوى الإسلامية التي كانت القائد الشعبي بلا منافس، بأن الدولة كلها قد صارت منطقة آمنة لهم، وسكتت المدافع السياسية والإعلامية إلى حين.

في الحقيقة كان المجلس يحتاج إلى وقت وإلى مناطق آمنة؛ للتخطيط والإعداد والتحريك بما يغير معادلة الواقع لا أكثر.

وظهرت المناطق الساخنة مرة أخرى، لكن باختيار عصابة المخلوع هذه المرة، فتم حلُّ مجلس الشعب ذي الأغلبية الإسلامية، مع الدفع بالرجل العسكري الذي كان آخر رئيس وزراء للمخلوع، والذي صرح بأن مبارك مثله الأعلى؛ ليكون مرشح المجلس لرئاسة الجمهورية، بعد استبعاد المرشحين الإسلاميين الذين كانوا مؤهلين للفوز بشكل كبير.

وأدت المناطق الآمنة التي حماها المجلس دورها، فأمدَّ زعماءُ العصابة ممن لهم مال ورجال الفريقَ أحمد شفيق بحملة منتشرة في طول البلاد وعرضها، وقام أصحاب النفوذ في وظائف الدولة الرسمية بدورهم، وألهبت حماسة الشرطة المجروحة بأن سلطة العسكر عائدة ولهم فيها أوفى نصيب؛ كل ذلك في ظل غطاء كثيف من قصف الإعلاميين الذين لم تحسن توبتهم يوماً، مع غطاء قانوني معدّ سلفاً من قضاة لهم تاريخ في التعاون مع النظام البائد.

عبور المرحلة العسكرية:

لقد كانت المكاسب الآمنة التي أرضى وأوهم المجلس بها الإسلاميين، مكاسب هشة يعلم أنه قادر على انتزاعها منهم في جولة تالية، وليست مما يمكّنهم من الزحف إلى مناطقه الآمنة، بل كانت حيلة لسلبهم عناصر القوة الشعبية الثورية التي كان بإمكانهم، من خلالها، أن يحيّدوا على الأقل أجهزة كالقضاء والإعلام، ويقلموا أظافر الأمن السياسي الذي لم يغير فيه إلا الاسم، ويزيدوا من حدودهم الآمنة بشكل حقيقي باقتحام تلكم المناطق الساخنة.

إن الزخم الإسلامي الثوري الذي لم يقنع بما يلقيه إليه المجلس العسكري من المكاسب الآمنة؛ له دور لا ينكَر في تغيير معادلة الواقع؛ فتصعيد الفعاليات ضد العسكر منعهم مما أرادوه من تطويل لفترة حكمهم، والتي لم تكن في صالح الثورة ولا الإسلاميين بحال. وإن الاستبسال في دعم المرشح الإسلامي ذي الفرصة النسبية في الفوز، أمام مرشح المجلس الذي هدد خصومه الإسلاميين بـ "بروفة العباسية"؛ أخَّر ما طمعوا فيه من إعادة دولتهم بمستويات سيطرتها المختلفة. بل إن الرئيس الإسلامي المنتخب لم يُعترف له بالشرعية الحقيقية إلا بعد إقالة قادة المجلس العسكري، والذين أقنعوا الناس من قبل بأنهم الرئاسة الباطنة والأقوى للبلاد.

فلم يتحقق لنا مكسب حقيقي، سواء أكان مادياً أم معنوياً، إلا بالدفع في المناطق الساخنة، وتحمّل المخاطرة فيها، لا باللعب في المناطق الآمنة، وبهذا عبرنا المرحلة العسكرية.

الطريق إلى الاستقرار:

إن عصابة المخلوع تمارس بمهارة اقتحام الحدود الساخنة على الإسلاميين؛ لتحرمهم من حسن استثمار ما حازوه من مناطق آمنة، ولتزيد باستمرار من حدودها الآمنة، ولتقنع عموم الشعب بأنه لا دولة على الحقيقة إلا دولتهم البائدة، مع ترك رصيد سلبي عن فترة ظهور الإسلاميين على قمة المشهد السياسي. والمكاسب التي تنالها الزمرة العلمانية هنا لا تقنعها بالمصالحة التبريدية إلا إلى حين؛ لأنها تدعم خبرتها في طريقة الوصول إلى المصالح، ولأنها تقربها من الهدف الذي تسعى إليه وهو الإطاحة بالإسلاميين واستعادة السيطرة على البلاد.

مع الوقت والاستمرار في المعركة، يفرض ميزان القوة نفسه، بينما يبهت ميزان الحق أمام عيون الأكثرين حتى يكاد يتلاشى. فربما يشفق كثيرون على الضعيف، وربما يلومونه أيضاً، لكنهم إنما يصطفون في النهاية خلف القوي؛ ليعيشوا ويكسبوا. إن من يريد أن يقنع بمكسب هش بارد، فسيدفع ثمناً غالياً ساخناً، وسيخسر معركة يفرضها عليه خصومه. وعليه؛ فلا طريق إلى الاستقرار إلا بحُسن استثمار المناطق الآمنة لدعم اشتباك في المناطق الساخنة، اشتباك يحسن الإعداد له، وترتب له مختلف الخيارات المحتملة، مع استعداد لتضحيات تتطلبها طبيعة المدافعة، وصبر حتى ينال النصر.. وفي التاريخ عبرة.

:: مجلة البيان العدد 311 رجب 1434هـ، مايو - يونيو 2013م.

أعلى