مصر..إلى أين؟

مصر..إلى أين؟

 

«الرئيس لديه مصائب بلا حدود».. هذا قول المحلل السياسي محمد حسنين هيكل في حوار له مؤخراً مع إحدى القنوات الفضائية المصرية يدلِّل به على عمق الأزمات التي تحيط بالرئيس المصري المنتخب محمد مرسي.

عندما أعلنت الرئاسة المصرية قبل خمسة شهور إحالة المشير طنطاوي والفريق عنان إلى التقاعد، اعتقد أكثر الناس أن الرئيس المصري محمد مرسي بات ممسكاً بزمام الحكم في مصر لأول مرة منذ توليه الرئاسة قبل هذا التاريخ بنحو شهرين، وأنه لأول مرة في تاريخها باتت مصر تحت حكم مدني منتخب، بل إسلامي.. لكن حقيقة الأمر أن التمكين لمرسي على كرسي الحكم لم يتم بعد ودونه مراحل ومعارك سياسية طاحنة، بل دماء ودموع.

فما الذي يحول بين أن يأخذ رئيس منتخب سلطاته كاملة؟

يمكن حصر التحديات التي تواجه الرئيس المصري وتحول دون تحقيق هدفه، في دوائر عدة:

أجهزة أمنية وعسكرية مناوئة.

أنصار النظام السابق ممن يجري تسميتهم الفلول.

قوى علمانية: ليبرالية ويسارية وأخرى طائفية تريد فرض أجندتها على البلاد.

إعلام شرس يوجه الناس ويحرضهم.

قوى خارجية إقليمية متربصة.

أولاً: أجهزة أمنية وعسكرية:

عندما أصدر الرئيس محمد مرسي في 12 أغسطس الماضي قراراته بإحالة المشير طنطاوي وزير الدفاع والفريق سامي عنان للتقاعد؛ ساد الغموض طبيعة ذلك القرار وتساءل البعض: مَن كان وراء ذلك القرار؟ وأضحت الإجابة عن هذا السؤال ضرورية لاستكشاف طبيعة الدور المستقبلي للجيش في الحياة السياسية المصرية بعد ستين عاماً من التحكم فيها وإدارتها بشكل شبه منفرد.

ورغم أن المعلومات الكاملة لم تُكشف بعد، لكن من المرجح - وفقاً للمنشور - أن الساعات التي سبقت إعلان نتيجة انتخابات الرئاسة، شهدت تفاهمات بين جماعة الإخوان والمجلس العسكري من جهة، وبين الإخوان والإدارة الأمريكية من جهة أخرى، وقادت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون التفاهمات التي تضمنت بعض الوعود للقوات المسلحة حال فوز مرسي، وقالت مصادر إنه تم الاتفاق على إعلان فوز مرسي مقابل ترك اختيار الوزارات السيادية للعسكر.

وطبقاً لهذا الاتفاق فإن طنطاوي سيتنحى ومعه عنان في أول حكومة تشكل بعد مجيء مرسي، وسيتولى عبد الفتاح السيسي مدير المخابرات العسكرية - في ذلك الوقت - أمر وزارة الدفاع، وهذا الاسم بالتحديد (السيسي) ما كان يردده طنطاوي في مجالسه الخاصة قبلها بشهور ليخلفه في قيادة الجيش.

لكن بعد تولي مرسي الرئاسة بدا أكثر استقلالية وحرصاً على أداء دوره الرئاسي كاملاً في نطاق التفاهمات السابقة، لكن طنطاوي بدا أكثر فتوراً وتوجساً من ذلك الدور حتى حدثت مجزرة رفح التي قُتل فيها أكثر من 16 جندياً مصرياً بأيدي مجهولين وهم يفطرون في رمضان، وهنا ساد التذمر ضباط الجيش الذي أدرك مدى الضعف الذي حلّ به على أيدي قياداته (طنطاوي وعنان)، فضلاً عن غرقه في مستنقع السياسة الداخلية بعد الثورة، وهذا ما أدركه السيسي ومعه قيادات الجيش، والتقطت أمريكا هذه الإشارات، واجتمع الجميع على ضرورة عودة الجيش إلى ثكناته العسكرية، وتطبيق التفاهمات بين الإخوان والعسكر برعاية أمريكية؛ فتم إحالة طنطاوي وعنان للتقاعد، وبدأت مرحلة جديدة للجيش المصري بانسحابه الجزئي من السياسة مع احتفاظه بحق التدخل في أعمال الوزارات السيادية، كالأمن الداخلي والسياسة الخارجية، وهو ما ثبت لاحقاً.

هل يستطيع مثلاً مراقب أن يجد تفسيراً لإيواء النظام المصري فلول القذافي؟ هل يجد أحد سبباً منطقياً لعدم غلق سفارة بشار الأسد حتى الآن في القاهرة؟

هذا في ملف السياسة الخارجية.. أما في ملف الأمن الداخلي فحدّث ولا حرج...

كيف نبرّر عدم التوصل للجناة في حرق 28 مقراً للإخوان المسلمين (الذي ينتمي إليهم الرئيس)؟ ولماذا يصل المتظاهرون إلى بوابة المقر الرئاسي في الاتحادية ولا يمنعهم حرس جمهوري (جيش) ولا أمن مركزي (داخلية) بينما لا يجرؤ متظاهر واحد على أن يقترب من الشارع الذي يقع فيه مقر وزارة الدفاع أو الداخلية؟

إن الإجابة المنطقية عن هذه الأسئلة تقول: إن الرئيس الإسلامي مرسي ليست بيده تلك الملفات، بل ما زالت بيد المخابرات العامة والمخابرات العسكرية والجيش ثم الشرطة.

وأكبر دليل على أن الأمر في هذه الأجهزة ليس بيد مرسي؛ حين لجأ وزير الداخلية إلى وزير الدفاع كي يحميه من إقالة مرسي له، وهذا ما شاهدناه في الحفلة التي التقى فيها قيادات الداخلية والدفاع، وشاهدنا فيها الرجلين وهما يرفعان أيديهما معاً والتي رأيناها قبل لحظات من إعلان السيسي دعوته القوى الحزبية للحوار، وهي التي أفشلتها الرئاسة.. فقبل هذه الحفلة بيوم نشرت بعض الصحف خبر أن الرئيس دعا وزير الدفاع ورئيس المخابرات ورئيس الوزراء للتباحث في شأن تأمين الاستفتاء ولم يذكر الخبر وزير الداخلية، وكانت هذه ليلة الانتقادات العنيفة التي وجهها الدكتور محمد بديع - مرشد جماعة الإخوان - للداخلية بتواطئها في الاعتداء على مقرها الرئيس في ضاحية المقطم.

ثانياً: أنصار النظام السابق:

يتغلغل هؤلاء في أجهزة النظام فيما يعرف بالدولة العميقة، ويأتي على رأس هؤلاء القضاة ورجال النيابة، ويكفي معرفة أن أحد الإحصائيات يشير إلى أن نحو 30 % ممن ينتمون إلى السلك القضائي كانوا ضباطاً في الشرطة، وفي الثلاثين سنة الأخيرة التحق بالأجهزة القضائية من ينتسب للأسر المؤيدة للحزب الوطني وعلى صلة مصلحية بالنظام السابق وممن تلوّثت أيديهم بالفساد، وهؤلاء هم قضاة اليوم الذين استاؤوا من وصول الإسلاميين للحكم، ويطمعون أن يُرجعوا أمجاد نظام مبارك، ويخافون من محاسبة النظام الجديد على فسادهم.

ثالثاً: المعارضة العَلمانية والطائفية:

بنت المعارضة العلمانية استراتيجيتها على تمديد فترة الاحتجاجات والتمرد وممارسة أقصى الضغوط الشعبية والأمنية على الرئيس وحكومته بحيث لا يستطيع إجراء أي إصلاحات اجتماعية واقتصادية يشعر بها الناس، بحيث إن لم يسقط قبل مدته فإنه سيجيء في النهاية وقد عجز عن إنهاء أزمات الشعب فلا يعاد انتخابه، بل سيسقط ويسقط من وراءه ويسقط مشروعه.

كذلك؛ فإن الكنيسة القبطية التي تحولت منذ تسلّم شنودة الثالث لرأسها منذ ما يقرب الأربعين عاماً، إلى تنظيم هرمي يوجه الحالة القبطية في مصر إلى ما تريده الكنيسة؛ متخوفة من إحكام الإسلاميين قبضتهم على السلطة، ورغم التطمينات التي أبداها الإسلاميون، لكن مشاركة الأقباط في المظاهرات الأخيرة لجبهة الإنقاذ أعطت لتلك المظاهرات زخماً قوياً ونجحت زاوية التصوير التلفزيوني في إعطائها مزيداً من التمدد والانتشار، وتتوارد معلومات أن مسلحين أقباطاً هم الذين أطلقوا الرصاص الحي على الإخوان عند قصر الاتحادية، ما أسقط ما يقرب من 10 شهداء.

رابعاً: الإعلام على خط النار:

القنوات الفضائية الخاصة والمملوكة لرجال أعمال بعضهم كان ينتمي مباشرة للحزب الوطني وآخرون كانوا يرتبطون بمصالح مع النظام السابق ويخافون اكتشاف فضائح مالية تتعلق بأنشطتهم التجارية؛ انتقلت بالرسالة الإعلامية من مجرد الوصف والتحليل إلى الحشد والترصد وتعبئة الشعب ضد توجهات النظام الجديد.

ونشر الكاتب المصري فهمي هويدي دراسة في رئاسة الجمهورية المصرية أعدّها أحد الخبراء حول تحليل مضمون الخطاب لـ 15 قناة تلفزيونية خاصة، بيّنت أنه من بين مائة ساعة حوارية تجرى يومياً فإن ما بين 6 و8 ٪ منها فقط يؤيد موقف الرئيس مرسي، في حين أن الحوارات الأخرى كلها تنحاز ضده. وأثار الانتباه في تلك الدراسة، التي أعدت في شهر أكتوبر الماضي، أن نسبة التأييد للرئيس في قنوات التلفزيون الحكومي تراوح ما بين 22 و32 ٪ فقط، الأمر الذي يعني أن نحو 70 ٪ من خطاب التلفزيون الرسمي تنتقده وتعارضه.

بينما يظل إعلام الإسلاميين في مصر يقتصر على الجانب الانفعالي في مصر وغائباً عن المهنية.

خامساً: القوى الإقليمية في الواجهة الخلفية:

تستاء كثير من القوى والدول الإقليمية من الثورات العربية، ويخشى بعضها أن تمتد رياح التغيير إلى شعوبها، بينما تخشى «إسرائيل» - مثلاً - قيام دول ذات توجه سياسي مستقل وتخرج عن نطاق الهيمنة المرسوم لها عالمياً لقضّ مضاجعها في فلسطين وتنهي أسطورة الدولة العبرية، وكذلك فإن الدور الإيراني في التمويل محتمل أيضاً بعد أن وضعت الثورات العربية حداً لتنامي النفوذ الشيعي في الدول العربية، وليس سراً أن حكومات هذه الدول تنفق المال وتستقطب شخصيات من المعارضة ومن أنصار النظام السابق لتجعلهم خنجراً مسموماً في ظهر النظام الجديد في مصر، ويعترف وكيل المخابرات المصرية الأسبق حسام خير الله بأن إحدى الدول العربية موّلت حملة عمرو موسى الرئاسية بأكثر من 150 مليون دولار. ويقول القيادي في جماعة الإخوان المسلمين الدكتور محمد البلتاجي إن إحدى الدول العربية أنفقت ما يقرب من 40 مليار جنيه مصري منذ بدء الثورة المصرية على الفلول وقوى المعارضة للحيلولة دون وصول الثورة المصرية لأهدافها.

فمصر في حالة تماس استراتيجي مع أهداف القوى الكبرى والإقليمية في المنطقة، لذلك تكرر ترديد اسم مصر 11 مرة في آخر مناظرة بين أوباما ورومني التي عقدت منذ شهرين قبيل الانتخابات الأخيرة الأمريكية.

لكن ما استراتيجية الرئيس مرسي ومِن ورائه جماعة الإخوان لمواجهة هذه العراقيل؟

قامت هذه الاستراتيجية على أسس عدة:

محاولة إنجاز الدستور واستكمال مؤسسات الدولة بشكل تدريجي لتحقيق قفزة نوعية في الاستقرار السياسي.

البدء بجذب الاستثمارات الأجنبية إلى السوق المصرية التي تعاني الخمود والخمول، ما يتيح تحقيق إنجاز اقتصادي يثبت شرعية مرسي.

التطهير التدريجي للقضاء الفاسد، والذي بدأ بخطوة إقصاء النائب العام وتعيين قاضٍ شريف مكانه، وكذلك إزاحة عدد من قضاة المحكمة الدستورية الذين أسهموا بشكل كبير في تدخلها السياسي.

استقطاب عديد من القوى السياسية المعارضة أو تحييدها.

محاولة لمّ شمل الفصائل الإسلامية المبعثرة قبل الانتخابات البرلمانية لتكوين تحالف واسع أو على الأقل تنسيق يمكّن الإسلاميين مجتمعين من الحصول على غالبية مريحة.

قد تكون خطوات مرسي الاستراتيجية بطيئة وقد يخسر بعض المواقف السياسية التكتيكية، لكن على المدى البعيد فإن النصر - بإذن الله - سيكون حليف القوى المؤمنة، وستَرفع الأيدي المتوضئة الراية من جديد.

:: مجلة البيان العدد 307 ربيع الأول 1434هـ، فبراير 2013م.

 

أعلى