أُقرَّ الدستور.. هل يتحقق الاستقرار في مصر؟

أُقرَّ الدستور.. هل يتحقق الاستقرار في مصر؟

 

أنهى المصريون حلقة جديدة من حلقات «صراع الثورة» الذي تحوّل إلى «صراع على السلطة» بين القوى السياسية والتيارات والجماعات التي كانت قد اجتمعت وتناست خلافاتها خلال مرحلةٍ لإطاحة الرئيس المصري السابق حسني مبارك. لقد صوّت المصريون بنعم للدستور الجديد، بعد معركة سياسية وجماهيرية وإعلامية هي الأولى على هذا النحو بين حلفاء الثورة، الذين تحولوا إلى وضعية الخصومة والعداء السياسي والجماهيري فيما بينهم إلى درجة سقوط الضحايا وحرق المقار والاعتداء على الرموز السياسية، بما صار يطرح على المصريين سؤال الاستقرار بأشد درجة من الإلحاح مما جرى خلال وقائع الثورة ومساراتها الممتدة لنحو عامين، إذ تحمّل المصريون ما فات قبل الدستور على أمل أن يصلوا لتلك المحطة بتصور أنها ستحقق ما لم يتحقق من قبل، خلال حكم المجلس، وما جرى خلاله من فوضى غير منقوصة.

احتشد المصريون في طوابير التصويت مرة جديدة، هي الخامسة، إذ سبق أن احتشدوا في الطوابير ذاتها بكثافة ومحبة لهذا النمط من الممارسة السياسية، حين صوتوا في الاستفتاء على الإعلان الدستوري الأول في مارس 2011 الذي احتكموا إليه في إجراءات وترتيبات المرحلة الانتقالية، وحين صوتوا من بعد في انتخابات مجلس الشعب، ثم مجلس الشورى، ومن أجل انتخاب أول رئيس للجمهورية بعد الثورة على مرحلتين.. لكنهم في الاحتشاد الأخير كانوا في وضعية مختلفة؛ المصريون لم يذهبوا لصناديق الانتخاب لتحديد مصير الدستور الذي يقرر مصير ومسار البلاد لسنوات طويلة قادمة، وفق وعي شامل بأهميته، بقدر ما انصبت الدلالات التصويتية المباشرة على تحقيق الاستقرار في اللحظة الراهنة، لا الاستقرار البعيد الأجل المفترض أن يتحقق عبر تحديد توجهات الدولة والمجتمع من خلال الدستور. جاء التصويت متأثراً بالدرجة الأولى بما عاشه المواطنون من وقائع حالة صراع حادة ودموية بين القوى السياسية التي شاركت في صناعة الثورة موحدة، ثم صار بعضها (جبهة الإنقاذ) يحاول إعادة إنتاج الثورة المضادة ضد الإسلاميين في السلطة، وهو ما جعلها تظهر في موضع من يقوم بمؤامرة انقلابية على شرعية الصندوق الانتخابي، وقد جرى هذا التصور بعدما اعترف بعض قادتها بالتحالف مع فلول النظام السابق.

لقد أصبح الاستقرار في مصر متعدد الأبعاد؛ فهناك أن آمال الثورة كانت أمواجاً هادرة في بدايتها، لكن وقائع الثورة لم تأتِ متوافقة مع تلك الآمال، بل جاءت محبطة لها بفعل نشاطات الثورة المضادة وأخطاء القيادات الثورية ذاتها... إلخ. الآمال قد استبدّت بالمصريين في تحقيق الرخاء، حتى إن هناك من كان تصور أن ثروة مبارك ورموز حكمه سيجري توزيعها على الأسر المصرية «كاش»، وبأن الثورة ستنهي على الفور حالة البطالة وزيادة الأسعار وستقضي على الفساد بمجرد خلع مبارك، وستوقف فوراً ممارسات وأعمال العنف والقهر من أجهزة الدولة العنفية ضد المواطنين... إلخ. هذا الإحباط في المرحلة الأولى انتقل وتضاعف وانسحب على كل تطورات الثورة خلال حكم المجلس العسكري. وحين وصلت محطة الثورة إلى الانتخابات الرئاسية؛ تجددت الآمال لكن بحذر، وربما بقلق - انعكس على نسب التصويت لممثل للنظام السابق، الفريق أحمد شفيقبسبب استمرار حالة عدم الاستقرار التي انقلبت في الشعور المصري العام إلى حالة قلق وتوتر بسبب عدم إنجاز أهداف ومطالب الثورة مع استمرار حالة الفوضى. وهناك أن البلاد لم تشهد حالة من الاستقرار الأمني بعد انتخابات الرئاسة بعد أن دخلت فئات متزايدة على خط السلوك العنيف وأخذ الحقوق باليد. لقد كان للأحداث أمام قصر الاتحادية وحرق نحو 27 مقرا للإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة وحصار مسجد القائد إبراهيم في الإسكندرية ووقوع مصادمات حادة بسبب هذا الحصار؛ أثر خطير على المواطنين في نظرتهم لمسألة الاستقراروفي التصويت على الدستور -، كما كان لدخول القضاة على خط التظاهر والضغط المباشر على النائب العام وإجباره على الاستقالةالتي عاد عنها من بعد - أثر مباشر هو الآخر على الشعور بالقلق. لقد تحول الشعور بعدم الأمن إلى وضعية سياسية خطرة تتعلق بالدولة والحكم بعد أن تحول العنف إلى «فعل سياسي». لقد كانت تلك الوقائع إعلاناً بتحول مواجهة الانفلات الأمني من حالة يجري خلالها مواجهة الخارجين على القانون - أعمال البلطجةإلى حالة تدهور وانقسام وتخندق داخل النخبة السياسية وبين أجهزة ومؤسسات الدولة وبعضها البعض، بما رفع حالة الخطر من عدم الاستقرار إلى مستوى وأفق يتعلق باستمرار الدولة وممارسات النخب السياسية بعد أن أضيف بند العنف السياسي إلى بنود العنف والإجرام الجنائي، خاصة بعد ما أثير عن مؤامرات استهدفت اقتحام القصر الجمهوري من قبل بلطجية النظام السابق بغطاء سياسي وإعلامي من جبهة الإنقاذ، وهو ما رفع القلق من تدهور الأوضاع الأمنية السياسية إلى مستوى غير مسبوق.

الدورة المستهدفة:

وفق نتائج إقرار الدستور، فقد بدأ مجلس الشورى المصري ممارسة مهام التشريع كحل وسط بين تغييب الدور التشريعي لمجلس الشعب بسبب حكم المحكمة الدستورية وبين استمرار قيام الرئيس بهذا الدور عبر إصدار إعلانات دستورية أثارت زوابع سياسية وأحداث عنف. وفي الوضع الحالي تجري المراهنة على إنجاز هذا المجلس قوانين عديدة، منها: قانون الانتخابات الجديد الذي سيصدر بديلاً للقانون الذي اعتبرته المحكمة الدستورية باطلاً، وهو ما سيفتح الطريق لانتخابات مجلس النواب بما ينهي ارتباك مؤسسات الدولة - إذ تعيش الدولة المصرية دون سلطتها الثالثة - ويحقق كفاءة تشريعية عالية ومشروعة لا يمكن الاعتراض على حقها في إصدار التشريعات. كما سيصدر المجلس قانون الصكوك الإسلامية الذي يمثل بداية تغيير في توجهات الاقتصاد المصريومصر تأخرت كثيراً في الأخذ بهذه الأداة المالية، إذ سبقتها ماليزيا وإندونيسيا ودول الخليج ودول غربية أيضاً -، كما يتصور أنه سيشكل آلية سريعة لضخ الأموال في شرايين الاقتصاد الإنتاجي بما يحقق تطوراً فعلياً في حجم وقوة الاقتصاد المصري، فضلاً عن أنه يمثل بديلاً للاقتراض من الخارج بديونه المرهقة وبحالة التبعية للاقتصاد الغربي، وبديلاً للعودة إلى تنفيذ روشتات صندوق النقد الدولي. ويتوقع أن يصدر المجلس قوانين أخرى تتعلق باسترداد الأموال المنهوبة خلال سنوات فساد مبارك ونظامه ويحقق حرباً فعلية على الفساد... إلخ.

وفي هذه الدورة التشريعية المستهدفة يجري السعي إلى تحقيق نمط محدد مستقر من العلاقة بين سلطات الدولة الثلاث (التنفيذية والقضائية والتشريعية) وتوزيع للصلاحيات بينها وإعادة تأسيس للعلاقات داخل تلك السلطات، سواء بين الرئيس ورئيس الوزراء أو بين غرفتي التشريع (بين الشورى ومجلس النواب) أو داخل مؤسسات القضاء نفسها، سواء بتقليص عدد القضاة في المحكمة الدستورية العليا، أو بتحديد نطاق عملها بالأخذ بالرقابة القبلية لها على القوانين إذ ستنظر في القوانين قبل إصدارها، أو بتحديد علاقات جديدة بين مختلف أنواع تخصصات القضاء (الإداري، ومجلس الدولة، والنقض)... إلخ.

وهناك جوانب أخرى في هذه الدورة المستهدفة خلال مدة الشهرين القادمينما قبل انتخابات مجلس النواب -، إذ يجري التركيز على حل مشكلات الصراع بين النخب السياسية وبعضها البعض عبر الحوار الوطني وتهدئة حالة التخندق والصراع في الشارع، كما سيجري التركيز على أحداث تغييرات اقتصادية وتشريعية لتحقيق الأمن في المجتمع وتحقيق درجة أعلى من العدل الاجتماعي عبر إقرار قانون الحد الأدنى والحد الأقصى للأجور، وجعل معاشات التقاعد لا تقل عن الحد الأدنى للأجور، وإنفاذ إجراءات الضمان الاجتماعي والعلاج للفئات غير القادرة في المجتمع، وكلها إجراءات تستهدف تغيير اتجاه الحركة من استنزاف الثورة لنفسها ورصيدها إلى نمط متسارع من تحقيق أهدافها لتغيير الاتجاه من تآكل رصيدها إلى الإضافة لرصيدها.. فهل يتحقق تغيير الاتجاه، ويتحقق الاستقرار؟

الدورة الجهنمية:

واقع الحال أن الأمور ليست بهذه البساطة، أو أن من السذاجة تصور سير الأمور بلا معوقات وتعرجات خطرة، وربما يعود مثل هذا التصور لسير الأمور إلى ذات الحالة المتفائلة المليئة بالآمال عند مطلع الثورة. ففي رؤية الوقائع يمكن القول إن البلاد تعيش في دورة جهنمية مليئة بالمخاطر لا المصاعب فقط؛ ذلك أن أخطر ما كشفت عنه وقائع الصراع الذي جرى بين القوى والتيارات السياسية منذ إصدار الرئيس المصري الدكتور محمد مرسي الإعلان الدستوري حتى إقرار الدستور؛ هو أن الأزمة عميقة وذات أبعاد خارجية.. صحيح أن «نعم» التي صوّت بها المصريون في الاستفتاء حملت في طياتها رفضاً لاستمرار حالة الفوضى، وكان معناها الحقيقي «لا للفوضى» وأن الثورة المصرية لا يمكن أن تعود للخلف، بل يجب أن تتحرك للأمام على صعيد بناء المؤسسات والدخول في جدول أعمال تنفيذ مطالب الثورة وتجسيد نتائجها في حياة المصريين عملياً؛ لكن هناك معنى آخر بـ «نعم»، وهو أن الإدراك بوجود دور خارجي في الأزمة، وأن خطورة أعمال الفوضى والحرق والتخريب والقتل التي جرت خلال مأساة الإعلان الدستوري؛ لم تتوقف عند حدود تهديد أمن البلاد واستقراره وقطع الطريق على تمتع الدولة المصرية بمشروعية كاملة، لكن تأثيراتها امتدت إلى مواقف الخارج، إذ اعتبرت بعض الدول والمؤسسات أن البلاد ذاهبة إلى طريق مسدود، فصدرت قرارات بوقف إلغاء ديون ألمانية على مصر، وتأخير النظر في إسقاط ديون أمريكية، كما امتد تأثير الفوضى الداخلية ليلقي بظلاله على ملف استعادة أموال مبارك من سويسرا واستعادة رجل الأعمال المصري الهارب إلى إسبانيا حسين سالم، وهو ما دفع الكثيرين للقول بأن ما يجري في الداخل لم يأتِ عفوياً، بل هو مترابط مع مواقف ورؤى خارجية تستفيدفي الحد الأدنى للتقدير - من الدور الداخلي المعوق لحركة تقدم الثورة. وقد وصل كثيرون إلى حد القول بأن البلاد مقبلة على «حصار» خارجي متناغم مع الاضطراب والتآمر الداخلي.

وفي ضوء قراءة التطورات الجارية الآن، فالدلائل تشير إلى أن الحوار الوطني لن ينجح في استعادة نمط العلاقة بين القوى التي شاركت في الثورة، ولو بمجرد إعادته إلى حالة الخلاف بدلاً من حالة «التعادي والتخندق» والصراع بين المؤيدين والمعارضين، وإن أقصى ما يتوقع أن يصل إليه الحوار هو حشد بعض القوى إلى جانب النظام وحصر حالة الصراع عند مساحة قوى جبهة الإنقاذ؛ عبر توسيع مشاركة القوى المساهمة في الحوار في القرار السياسي والتنفيذي. كما تشير دلائل ما يجري إلى أن جبهة الإنقاذ اختارت السير في خط الصراع السابق، وفق ذات الأهداف وإن بآليات أخرى، إذ هي صارت تبحث عن طريقة لاستمرار الحصول على تأييد نحو ثلث أصوات المصوتين بـ «لا» على الدستور؛ للدخول عبرهم إلى مجلس النواب القادم، ولذا هي الآن ترفع شعارات إسقاط الدستور من خلال مجلس النواب، فضلاً عن أن الأوضاع الاقتصادية تحتاج إلى درجة تمويل تفوق بكثير ما هو متاح حالياً؛ لأجل تحقيق أهداف تحسين الأوضاع الاجتماعية التي تهدد بما يطلق عليه في مصر «ثورة الجياع».

مرحلة جديدة من الصراع:

وفق أفضل التقديرات تفاؤلاً، يمكن القول إن مصر دخلت مرحلة صراعية جديدة في محاولتها بناء دولة ما بعد الثورة، وتحقيق وضعية أكثر فاعلية في تحقيق أهدافها، وأن قوى جديدة صارت تضاف إلى مساحة التفاعل والمشاركة في إنجاز تلك الأهداف.. غير أن توازنات القوى داخل البلاد وخارجها لا تزال قادرة على إعادة إنتاج حالة عدم الاستقرار وتعطيل مسارات الإنجاز، وإن الوضع الراهن للدولة والنظام السياسي لا يسمح بتحقيق تطوير وقفزة كبيرة على صعيدي الاقتصاد والأمن بشكل خاص، وإن جهداً ضخماً ما زال في انتظار القوى الإسلامية. وبالإمكان القول أيضاً إن القوى الإسلامية أظهرت تطويراً في قدراتها وفي نمط تحركاتها على الأرض خلال أزمة الصراع مع قوى جبهة الإنقاذ بأبعاد قوتها الداخلية والخارجية، بما يبشر بكفاءة أعلى في محاولة تجاوز العقبات والمخاطر على نحو معقول.. لقد احتشدت القوى الإسلامية خلال الأزمة بوقائعها على الأرض عند المواجهة، كما احتشدت خلال التصويت على الدستور، رغم تباين فعلي في الموقف منه، وهي أثبتت قدرة على التواصل مع الجمهور العام وفق نمط الاتصال المباشر في مواجهة ضخ إعلامي عدائي من نحو 40 قناة فضائية، والأهم أنها صارت أكثر إدراكاً لجسامة مهام قيادة الدولة ومتطلباتها والمطلوب إنجازه خلال المرحلة الراهنة، فضلاً عن أنها نجحت فعلياً في اجتذاب نخب سياسية لم تكن في صفها خلال الحوار الوطني الذي يبدو أنه يتطور في آفاقه ونتائجه.

:: مجلة البيان العدد 307 ربيع الأول 1434هـ، فبراير 2013م.

 

 

أعلى