نظرة متأنية في معادلــــة التغيير الاجتماعي والسياسي

نظرة متأنية في معادلــــة التغيير الاجتماعي والسياسي

 لقد فتح “الربيع العربي”، الذي ما زلنا نعيش في تطوراته ومخاضاته، البابَ واسعًا في عالمنا العربي أمام تغييراتٍ جذريةٍ لطالما علقنا الأمل على حدوثها، على الرغم من أن الأجواء قبل عام واحد فقط كانت ملبدة بغيوم الديكتاتورية، وأساليب البطش والإرهاب الذي يفوق الوصف والخيال!

ولكن شاءت إرادة الله عز وجل أن يمنّ برحمته على تلك الشعوب التي قُهرت لعقود متعاقبة من الزمن، ونُهبت ثرواتها وخيراتها، وارتُهنت خياراتُها لمصلحة قوى خارجية معادية للأمة.. وأن يتداركها بلطفه ومعونته، قبل أن تتردى في مهاوي التهلكة، ويبلغ منها اليأس مبلغه، وتتجه إلى ما يشبه “انتحارًا جماعيًّا” يُقتل فيه الأملُ، بعد أن خبت فيها جذوة الفاعلية والحيوية والحراك الحضاري.

سقطت أنظمة، وذهب رؤساء ظنوا أن حصونهم مانعتهم من “ساعة الحساب” مع الشعوب التي لم يقيموا لها وزنًا يومًا ما، بعد أن تحولت تلك الشعوب إلى جزء من الجغرافيا أو التاريخ، لا الحاضر الحيّ المتّقد الموّار، فضلاً عن المستقبل المشرق الواعد.. وصار الآن المشهد السياسي متاحًا أمام الجميع من أبناء الوطن بلا استثناء.. على الرغم من بعض العراقيل، التي مهما بدت مزعجة إلا أنها في “الحجم الطبيعي” عند مثل تلك التحولات الجذرية.

“الزمن” جزء من المعادلة[1]:

المهم أن هذا السقوط المتوالي “الدراماتيكي” لأربعة أنظمة عربية - كانت تبدو أكثر رسوخًا وسيطرةً!- في تونس ومصر وليبيا واليمن (وسوريا في الطريق بإذن الله) في أقل من عام، جعل البعض ممن يتعجّل استكمال مسيرة الإصلاح، يغفل عن “عامل الزمن” وموقعه من معادلة التغيير الحضاري المنشود.

بمعنى أنه إذا حدثت بعض المشكلات عقب الإطاحة بالنظام القديم؛ مثل الانفلات الأمني، أو حدوث أعمال عنف من بعض الفئات، أو تزايد معدلات السرقة والسطو؛ فإننا نرى البعض يتأفف ويضجر، ويلقي باللائمة على الثورة، بل يشتط البعض ويزعم أنه لم يرَ خيرًا يستأهل التضحية بدماء الشهداء والجرحى!! وكأن الثورة ستصلح في يوم وليلة، أو في بضعة شهور، ما أفسده النظام السابق على مدى عقود!!

ولهؤلاء المتعجلين أقول: يجب ألا تخلطوا بين التغيير السياسي والتغيير الاجتماعي.

التغيير السياسي يكفي فيه الإطاحة بنظام فاسد ظالم، وإتاحة الحرية أمام نظام وليد يأتي بإرادة الناس ويسعى لتحقيق مصالحهم وطموحاتهم؛ وهذا أمر قد لا يستغرق وقتًا طويلاً، خاصة إذا تعاونت الأطراف الرئيسية الفاعلة في المجتمع على الإطاحة بهذا النظام، ثم على إتمام المرحلة الانتقالية بأسرع وقت وبأفضل صورة.

أما التغيير الاجتماعي الحضاري فإنه لا يكتفي بتغيير “اللافتات” والأسماء، بل يرمي إلى النفاذ إلى الأعماق والمسمَّيات.. ولا يتم بمجرد الإطاحة بنظام سياسي وإحلال نظام آخر مكانه، وإنما يتطلب وقتًا أكبر، ونَفَسًا أطول، وجهدًا أكثر، وبذلاً وتضحية وصبرًا؛ لأن التغيير الاجتماعي بمعناه العام هو: تغيير العادات والتقاليد والأفكار والمعتقدات في اتجاه غير الاتجاه السائد في لحظة مّا.

هو تغيير يستهدف الجوهر قبل المظهر، والمضمون قبل العنوان، والنفس قبل الجوارح؛ وكم كان القرآن الكريم دقيقًا غاية الدقة وهو يرسي تلك المعادلة التي تمثل “قانونًا حضاريًّا ثابتًا” فيما يتصل بالتغيير الفعّال، فقال: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11]. فما بالنفس - من معتقدات وقيم وتصوُّرات - هو المستهدَف الأول من التغيير المنشود، وهو الأساس الذي تنبني عليه كل أوجه التغيير الأخرى.

ولذلك فإن استعجال إنجاز التغيير في المجتمع - مهما حسنت نيات أصحابه المتعجلين- دون إرسائه بشكل عميق، مرتبطًا وقائمًا على تغيير المفاهيم والأفكار ومن داخل الذات؛ لن يُحدث الأثرَ المرجوَّ من الثورات، التي تعطي فقط - بتغييرها للمعادلة السياسية - (إشارةَ البدء) لعملية التحول الاجتماعي، وتمثل أولى مراحل الطريق الطويل الممتد، وليست آخر المطاف كما يظن البعض.

 

علاقة طردية:

وإذا أخذنا في الاعتبار أن شعوبنا العربية والإسلامية تعرضت لما يشبه غسيل المخعلى مدى سنين طويلة، وبُذلت محاولات كثير لإبعادها قسرًا عن نظام الإسلام، عقيدةً وشريعةً وقيمًا وأخلاقًا وسلوكًا وآدابًا، وأن تلك المحاولات - للأسف- قد قطعت شوطًا كبيرًا، خاصة أنها تمت بأيدي ورعاية بعض المسلمين، ممن كانوا في موضع القيادة والتوجيه التربوي والإعلامي.. إذا أخذنا في الاعتبار كل ذلك، لأدركنا كم هو حجم الجهد المطلوب منا أن نبذله؛ حتى يمكن أن نزيل آثار تلك المحاولات الهدامة أولاً، ثم نثبِّت بدلاً منها القيمَ والمفاهيم والآداب الإسلامية.

ويمكننا أن نصوغ تلك العلاقة في معادلة أكثر وضوحًا، فنقول: إن الجهد المتعيَّن والزمن المطلوب لإنجاز التغيير الاجتماعي المنشود، يتناسبان طرديًّا مع حجم الفساد والإفساد الذي ضرب أطنابَه في جنبات المجتمع ومجالات الحياة كافة.

فعملية تغيير المجتمع، ونزع أرديته القديمة البالية، وإلباسه لباسَ التقوى والانسجامِ والتوازنِ بين معتقد النفس من الداخل وسلوك الجوارح من الخارج.. ليست بالأمر الهين، الممكن إنجازه بنفس سرعة الإنجاز في المستوى السياسي الذي قد لا يُعنى كثيرًا بأخلاقيات الناس وضمائرهم ومعتقداتهم؛ طبعًا إلا من حيث مطابقة تلك المعتقدات والأفكار مع مصلحته هو، ومادامت لا تتزعزع قبضته وسلطته!!

ولإدراك صعوبة عملية تغيير المجتمعات ونقلها من حال إلى حال، خاصة مع وجود مثبطات ومغريات وعوائق لا حدود لها - داخليًّا وخارجياً - أمام مشاريع الإصلاح الجادة.. نشير - بإيجاز- إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم ظل يدعو قومه في مكة ثلاث عشرة سنة قبل الهجرة، مستخدمًا ما توافر له من وسائل متعددة؛ من الترغيب والترهيب، والحوار والمجادلة؛ مع ملاحظة أنه صلى الله عليه وسلم توافرت له من الصفات والمهارات ما لم ولن يتوافر لأحد مثله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أكرم الخلق على الله.. ومع ذلك لم يؤمن معه إلا القليل.. وهذا يدلنا إلى أي مدى يكون تغيير النفوس والأفكار والمعتقدات صعبًا وشاقًّا.

بل إن يوم القيامة يأتي النبي ومعه الرجل، أو الرجلان، أو الرهط، بل يأتي من ليس معه أحد، كما صح في الأحاديث النبوية الشريفة[2].

ولذلك ليس من الصواب أن يتصور أحد أنه يستطيع أن يقطع شوط التغيير الاجتماعي في يوم وليلة أو شهور قليلة، كما هو الحال في مسألة تغيير النظام السياسي.. بل يجب أن ندرك بوضوح - بالإضافة إلى عامل الزمن”- أننا لن نستطيع أن نحدث هذا التغيير المنشود ما لم تتكاتف أعمال وجهود وأهداف أجهزة الإعلام والتثقيف والتعليم والتقنين في هذا الاتجاه.

وقديما قال الشاعر:

متى يَبلُغ البُنيانُ يومًا تَمامَه

إذا كُنت تَبنيهِ وغَيرك يَهدِم

إننا نحتاج - ضمن أولوياتنا العاجلة- إلى النهوض بخطابنا الديني والتربوي والإعلامي، وإلى إعادة صياغة وتأهيل كل من يتصدرون منافذ الفكر والتوجيه والإدارة؛ بحيث نوجد خطابًا عامًّا في المجتمع، عبر كل الأطر والوسائل، يهدف إلى ترسيخ قيم النهوض والفاعلية والحيوية الحضارية، ويعرف في الوقت ذاته كيف يجمع في تمازح وتكامل بين القيم والثوابت الإسلامية وبين المنجزات الحضارية، التي هي - في الحقيقة- إرث إنساني مشترك أسهمت فيه كل الأمم والحضارات بصورة أو بأخرى.

 شعوبنا بخير:

وإن مما يبشر بالأمل، ويُهدئ من رَوْع المتعجلين؛ أن شعوبنا بحمد الله مازالت على خير كثير، وأنها - على الرغم من المحاولات المضنية الحثيثة التي بُذلت - في شوق إلى إسلامها، وتحكيمه في واقع الحياة؛ يكفي أن نراجع نتائج الانتخابات في البلاد العربية بعد الربيع العربي، والتي فاز الإسلاميون بأغلبيتها، على الرغم من حملات التشويه والقصف الإعلاميالمتواصل.

إن شعوبنا تحتاج فقط إلى حسن التوجيه والدعوة، وإلى الصبر والأناة والرفق، وأن نغادر مرحلة الشعارات والأفكار العامة والتأصيل النظري إلى مرحلة التطبيق والبرامج والخطط التفصيلية؛ ونثبت لهم عمليًّا أن الإسلام فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة، ومصلحتهم العاجلة والآجلة، لأنه شرع الله سبحانه الخبير بعباده: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْـخَبِيرُ} [الملك: 14].

شعوبنا فيها خير كثير وطاقات كامنة، تحتاج إلى من يستخرجها ويوظفها بما يجعل بلادنا - بحق- بلادًا عربية إسلامية ذات سيادة، مصونة الحقوق على المستوى الدولي، لا يقدر أحد على طعنها في قيمها وثوابتها ولا على إهانة مقدساتها واغتصاب أرضها.

والمسؤولية الآن تقع على عاتقنا نحن الذين طالما اشتقنا لساعة التغيير، فها هي ذي ساحات العمل والبذل أمامنا متاحة، والأبواب مشرَعة تنتظر العاملين.. فأروا الله سبحانه من أنفسكم خيرًا، وأحسنوا الأخذ بيد شعوبكم نحو طريق الإسلام.. طريق الهدى والنور في الدنيا والآخرة.

 


[1] للمفكر الجزائري مالك بن نبي معادلة شهيرة في أن الحضارة هي ناتج: الإنسان + التراب + الوقت؛ وأن تلك المعادلة تحتاج لِمَزْج عناصرها وإحداث التفاعل بينها إلى ما يسميه “مركِّب الحضارة” وهو الذي يتمثل في “الدين”؛ فالدين يصنع من أطراف هذه المعادلة المفردة كيانًا واحدًا ذا فاعلية وحيوية، كما يجتمع الهيدروجين والأكسجين في معادلةٍ، فيتكون منهما “الماء” بفعل القانوني الكيميائي (المركِّب الحضاري)، راجع كتابه: شروط النهضة، ص: 45/ 46، ترجمة عمر كامل مسقاوي وعبد الصبور شاهين، طبعة 1986م، دار الفكر، دمشق.

وأحب أن أضيف أن “الوقت” هنا يشمل معنيين: المعنى الأول (وهو الشائع) إدراك أهمية الوقت في حياة الأفراد والمجتمعات، فلا يُصرف في اللهو واللعب وتوافه الأمور؛ أما المعنى الثاني (وهو المقصود هنا) فهو إدراك أن إنجاز معادلة التغيير يحتاج لوقت وصبر وتؤدة، وأن العجلة في إنجاز المراحل تؤدي إلى إفقادها الفاعليةَ المطلوبة، بل قد تؤدي إلى عكس المراد!

[2] وردت روايات كثيرة في هذا المعنى، منها رواه الإمام أحمد وابن ماجه عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “يَجِيءُ النَّبِيُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَعَهُ الرَّجُلُ, وَالنَّبِيُّ وَمَعَهُ الرَّجُلانِ وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ؛ فَيُدْعَى قَوْمُهُ فَيُقَالُ لَهُمْ: هَلْ بَلَّغَكُمْ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: لا؛ فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلَّغْتَ قَوْمَكَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ, فَيُقَالُ لَهُ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ؛ فَيُدْعَى مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ، فَيُقَالُ لَهُمْ: هَلْ بَلَّغَ هَذَا قَوْمَهُ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ؛ فَيُقَالُ: وَمَا عِلْمُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: جَاءَنَا نَبِيُّنَا فَأَخْبَرَنَا أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغُوا, فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} قَالَ: يَقُولُ: عَدْلاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا” (صحَّحه الألباني).

أعلى