قراءة في مذكرات الجنرال همداني... والوصاية الإيرانية على سورية!

قراءة في مذكرات الجنرال همداني... والوصاية الإيرانية على سورية!

 

إذا نظرنا فيما يقوله خامنئي المرشد الأعلى للثورة الإيرانية: «وسائل الإعلام في هذا العصر لها قوة تدميرية تعادل القنبلة الذرّيّة»[1]، وما قاله من قبله الخميني: «لا نهاية لتأثير وسائل الإعلام، وإنَّ إصابتها كالقذيفة تماماً؛ فاستخدِمْها لتحقق أهدافك»[2]؛ ندرك بدقة أهمية الحرب الدعائية في السياسة الإيرانية، فالماكينات الإعلامية التابعة للمنظومة الإيرانية هي الأقوى في الشرق الأوسط، ليس من أجل تحقيق ما يقدِّسونه من «تصدير الثورة» فحسب؛ بل الأهم هو رسم وجه ناعم لإيران يغطي بعض ملامحها الخشنة ويُلبس أعمالها العدائية في دول المنطقة عمامة الإنسانية ونصرة المستضعفين!

ولعل الصفحة الأسوأ حالياً لإيران من التدخُّل والعدوان هو ما تقترفه منذ سنوات بحق السوريين، في حرب جمعت لها ميليشيات من عدة بلدان استخفَّتهم بشعارات طائفية بغيضة، ودفعت بمرتزقة من مختلف الألوان والأعراق إلى حرب بوعودٍ بالمال والجنسية السورية والإيرانية وأراضٍ في ممالك «الإمبراطورية الفارسية الجديدة» على شواطئ المتوسط.

ولا تكفُّ الماكينة الدعائية الإيرانية عن تلميع صورة التدخُّل الإيراني في سورية؛ تضحك به على شعبها الجائع، وعلى رعاياهم الذين ربطتهم إليها بولاية الفقيه.

فلا ننسى فيلم «بتوقيت دمشق»[3] الذي يرصد قصة طيار إيراني يتوجه إلى سورية برفقة نجله على طائرة تحمل «مساعدات إنسانية»، وبعد هبوطها لتحمل مجموعة من الأطفال والنساء لإنقاذهم يختطف تنظيم «داعش» الطائرة ويحاول تفجيرها، فينقذها الطيَّار الإيراني! فقائد الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني بكَى متأثراً بهذا الفيلم الإنساني الذي أنتجته مؤسسة تابعة للحرس!

ولعل من أهمِّ النماذج البطولية التي صدَّرتها ماكينة إيران الدعائية لحربها في سورية «رسائل الأسماك»[4]؛ فهي مذكرات للجنرال حسين همداني قائد الحرس الثوري الإيراني الذي قُتل في حلب، وإن كان اختيار اسم من التراث الأدبي الفارسي يوهم أنها مذكرات أديب في المنفى أو أكاديمي مبتعث؛ وليست لقاءات وحوارات مع قائد ميليشيا عسكرية عبَرت الحدود لتقتل الناس في أرضهم!

وفي مذكرات همداني «رسائل الأسماك» ما يذكِّر الناظر فيها بما كتبته غولدا مائير[5]، لتشرح فيه للعالم نضالها من أجل إقامة دولة إسرائيل؛ فيخرج منها مَن لا يعرف أنها المرأة الحديدية التي عُدت من أكثر النساء في التاريخ إجراماً بوصفها المرأة النمـوذج لمن تضحِّي بنفسها وأسرتها من أجل وطنها.

ومن الجوامع الطريفة بين مذكرات همداني ومذكرات غولدا مائير ما في تضاعيفها من سرد وقائع تكذِّب كثيراً من الأدعياء الذين تعامل الطرفان معهما؛ فغولدا مائير كشفت عن لقاءات وعلاقات وتقييمات لأنظمة وزعماء كانوا يتصدرون الساحة العربية باسم الوطنية والقومية مثلاً.

ونجد همداني يكشف أكثر عن وصاية الإيرانيين على نظام الأسد؛ فالوصيُّ الشرعي للمرشد وليِّ الفقيه على سورية هو أمين حزب الله حسن نصر الله، ويقول الهمداني في المذكرات وهو يراجع معه خطة التدخل في سورية: «بشار الآن وحزب البعث الحاكم في سورية غارقون في المستنقع حتى أعناقهم، ولم يبقَ شيء حتى يغرقوا بالكامل؛ أولاً يجب إخراج بشار والحكومة السورية من المستنقع، وبعد ذلك ننظفهم ونلبسهم ونطعمهم ليقرؤوا درسهم ويؤدوا عباداتهم»، ويذكر همداني طلب نظام بشار أن يقدِّم الإيرانيون المعدات للجيش السوري ليتولى العمليات؛ لكنَّ همداني يرفض باسم المرشد الأعلى، فيوافـق بشار الأسد على إشراف الإيرانيين على تدريب قوات الجيـش العربي السوري الباسل وقيادة عمليات استعادة المناطق الخارجة عن سيطرته[6]!

وفي متابعة لتهزئة نظام الأسد وفضح ضعفه يروي همداني عن حال النظام في أوج تقدُّم الثوَّار: «في آذار 2013م أحكم الإرهابيون الطوق على بشار الأسد وصاروا قريبين من القصر الجمهوري... قمنا بنقل العائلات إلى مكان آمن، وصار بشار الأسد يبحث عن بلد يلجأ إليه»[7]! وسيادته مع السيدة الأولى والقيادة العظيمة حفروا رؤوس مواليهم بالصمود والتصدِّي!

ومن أشد المواضع المؤلمة في مذكرات همداني ما جاء على لسان «خامنئي» وهو يأمر سليماني بالعودة إلى سورية: «سورية بلد مريض، ولكنه لا يعرف أنه مريض، وهذا المرض يجب شرحه وتفهيمه للساسة ورجال الدولة في سورية، وإذا رفض هذا المريض الذهاب إلى الطبيب فيجب أن تأخذوه، وهو لن يخبر الطبيب بمرضه، وإذا رفض أخذ الذي وصفه الطبيب عليكم أن تجرِّعوه الدواء بأنفسكم، وتراقبوه لتتأكدوا أنه يأخذ الدواء حتى يشفى»[8]!

وهذا الوصفُ من خامنئي لسورية بالرجل المريض الذي لا يعرف مصلحته، ولا بد له ممن يأخذ بيده إلى الطبيب ويلزمه بتناول الدواء؛ فيه تسفيهٌ شديدٌ لنظام الأسد في كتابٍ منشورٍ احتفل الإيرانيون بإعلانه بشكل كبير، وهو يبرِّر لإيران وصايتها على الصغير السفيه (نظام الأسد) الذي غرق مع حكومته كما وصفَه نصر الله حليفه!

لكنَّه وصفٌ يستدعي كثيراً من التأمُّل بعد، لا سيما أنه صدر عن خامنئي الداهية نفسه؛ فهذا الوصف (الرجل المريض) كان قد دأب على استعماله الغرب النصراني في وصف الدولة العثمانية، بعد أن أنهكوها بالمؤامرات والحروب والفتن، ومع كل ذلك صمدت عقوداً طويلةً قبل أن يهنؤوا بتقاسم أملاك «الرجل المريض»؛ فهم لشدة خوفهم من عودة العثمانيين لطرق أبواب عواصمهم في أوروبا تآلبوا عليها رغم كل الخلافات بينهم، حتى أنهكوا قواها وجاؤوها بمن فتح لهم أبوابها وسار في ركابهم آنذاك، ونفَّذ لهم ما وقف السلطان عبد الحميد سدّاً منيعاً دون تحقيقه. وعلى مثل هذا فالأطماع الإيرانية في سورية ليست في مقامات دينية لا يُعرف لها أثر في كتب التاريخ القديمة ولا الحديثة، وإن كانوا يطبِّلون بهذه الأسطوانة المشروخة ليضحكوا بها على مَن يسوقونهم لحربهم «المقدَّسة» باسم «أهل البيت»، على نحوٍ لا يختلف كثيراً عما كان يفعله باباوات أوروبا مع عناصر الحملات الصليبية.

فالمطامع بـ «الرجل المريض» أكبر، ولا بأس في موت كثيرين على أرضه، كمئات الآلاف الذي قضوا من رجال أوروبا في معارك إنهاء الدولة العثمانية، ولذلك جاءت هذه الكلمة من خامنئي وَفْقَ مذكرات همداني في سياق تعنيف سليماني لفتوره عن الحرب في سورية ويأسه من مساندة نظام الأسد؛ فكان الأمر من الولي الفقيه البصير بالأمور: ارجع؛ فهذا رجل مريض وله أملاك كثيرة، نحن أحقُّ بها فلنكن أحرص عليها، وليكن ثمن ذلك ما يكون من مليارات دولارات ندفعها شهرياً لرأس النظام ريثما ينهض، فنُلبسه ما نشاء ونطعمه وندرِّسه ما يحلو لنا من تعليمات ودين؛ كما قال نصر الله في «رسائل الأسماك»!

ومنذ مدة أوفدت إيران وزير خارجيتها جواد ظريف لزيارة الرئيس المريض بلباس الأطباء؛ ولعله جاء يتأكد من متابعته في تناول الدواء، حتى لا يضطر لإرسال رجل عسكري يأتيه دون ميعاد ويقف من ورائه!

فالمطامع الإيرانية ليست بشخص رئيس تكرر في مذكرات منشورة تسفيهه والسخرية منه؛ بل في سورية ذاتها لأنها «الرجل المريض» المطموع بأملاكه وثرواته، فإن كانت «أسماك» عند الهمداني فهي أسماك قرش لابتلاع وطننا، وهذا ليس افتراءً عليهم؛ بل قالها كبار مسؤولين من ملاليهم (آية الله مهدي طيب مدير مركز عمار للدراسات): «سورية أهم إلينا من الأحواز، وإن خسرنا سورية فلن نستطيع الدفاع عن طهران»[9]، تدليساً على شعبهم والمرتزقة المقاتلين معهم.

ولكن!

فاتَ إيرانَ تتمةُ حكاية أوروبا مع التي وصفوها يوماً بـ «الرجل المريض»؛ ففي الحكاية ذاتها: وبعد سنوات صحا ذلك الرجل المريض، ونفض عنه آثار المرض والتجهيل وعاد يناطح أوروبا العجوز، وصار جيشه عمود الدفاع في حلف «النيتو»، وبعد سنوات مرضت أوروبا العجوز بوباء اسمه «كورونا»، وتصارعت دولها على الدواء والكمامات وأجهزة التنفس؛ فلم تجد مَن يقف معها يسندها في وبائها إلا «الرجل المريض» بالأمس، فعادوا يشكرونه ويحسدونه على سلامة نظامه الصحي وتماسكه ووقوفه معهم، وقد مرضوا بعد أن فرحوا يوماً أن جارهم «المريض» مات!

ألا فلتفهم إيران هذه الحكاية جيداً؛ فالأَولى بها أن تنظر في الوباء ينخر ولايتها ويأكل مواطنيها، وهي عاجزة على سدِّ احتياجات الناس من الدواء؛ فلتصرف بعض المليارات التي تنثرها وراء أحلامها في «تصدير الثورة» واللحاق بـ «المرضى» لتأكل أملاكهم على نظامها الصحي المنهار واقتصادها المتهالك!

ولتعلم أن سورية قد تمرض، ولا ضير؛ فهذه مِن تداوُل الأيام في الدول، ولكنها وإن مرضت فإنها لا تموت، ولا بد يوماً أن تبرأ وتنهض من جديد، وقد استشعرت المرض فنهضت في ثورةٍ قدَّمت فيها ملايين الشهداء والمعتقلين والمشرّدين، ولن تهدأ الثورة في أبنائها حتى تقتلع إيران وتخرِّب مشروعها، وترمي بها خارج حدودها، وتنفث من صدرها ما نثرته فيها من سموم الإرهاب والطائفية.

 


 


[1] يُنظر: الحرب الشيعية الناعمة.. الإعلام نموذجاً، أسامة شحادة، مركز أمية للبحوث والدراسات الإستراتيجية، 23/11/2015م https://cutt.us/4MjKn   

[2] حزب الله تحت المجهر: ص36.

[3] حرب إيرانية ناعمة في سوريا بدايتها فيلم بتوقيت الشام، عنب بلدي، 9/2/2018م

 https://www.enabbaladi.net/archives/249654

[4] رسائل الأسماك، ما تقوله مذكرات الجنرال همداني: الوصاية الإيرانية على سورية، فاطمة الصمادي، مجلة سياسات عربية، العدد 22، أيلول 2016م.

[5] طُبعت مذكرات غولدمائير بعنوان: اعترافات جولدامائير، ترجمة: عزيز عزمي، وصدرت عن مؤسسة التعاون للطباعة والنشر، القاهرة.

[6] رسائل الأسماك: ص140.

[7] رسائل الأسماك: ص141.

[8] رسائل الأسماك: ص140.

[9] النخبة السياسية الإيرانية وسوريا... مسارات متوازية نحو الهدف ذاته، إسكندر صادقي بروجردي، ترجمة: ماريا المنجد، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، العدد الأول، شباط 2014م: ص8.

 

 


أعلى