الدولة الوطنية (القومية) في العالم الإسلامي

الدولة الوطنية (القومية) في العالم الإسلامي


تواجه الدولة الوطنية (القومية)، التي تأسست في العالم الإسلامي خلال القرن العشرين، تحديات عميقة وصلت بها حدَّ الأزمة الشاملة؛ فعلى صعيد أوضاعها الداخلية باتت كثيـر مـن تلك الـدول في وضـع المهـدَّد بالانهيار، تحت وطأة التفكيك والاضطراب والحروب والصراعات الأهلية. وعلى صعيد توجهاتها وعلاقاتها البينية فهي لم تتمكن من إنهاء عزلتها بعضها عن بعض، بل كرست تلك العزلة وزادت من أسباب العداء فيما بينها حتى وصل الأمر حدَّ الاقتال والغزو والتهديد بالحرب (في أحيان ليست بالقليلة). وتشهد الآونة الأخيرة انغماس بعضها في صراعات وحروب داخلية بينية.  

وفي شأن طبيعة علاقاتها الدولية فمسار قدرتها على الحفاظ على استقلالها قد خطى خطوات خطرة نحو التبعية التي لم تعد تنحصر في السياسات الخارجية والاقتصاد؛ بل وصـلت حدَّ التبعية الثقافية بما بات يؤثر على الهـوية المستقرة للمجتمعات ويعوق مسار الاستقلال الحقيقي.

وذلك ما بات يدفـع بعض الباحثين للكتـابة حـول ضرورة إعادة النظر في ظروف التشكل التاريخية والتحـديات التي تواجههـا تلك الدول، بل في ضرورات إعــــادة التأسيس.

لقد ظهر نموذج تلك الدولة على خلفية أوضاع وصراعات دولية حادة، وضمن ظروف خاصة بالعالم الإسلامي، وظلت متغيراً تابعاً في العلاقات والصراعات الدولية لفترة تاريخية طويلة بعد نشأتها وحتى نهاية الحرب الباردة؛ إذ وقع انفراد الغرب بقيادة العالم والسيطرة على القرار الدولي، وظهرت العولمة والتدخل العسكري الدولي لأسباب تتعلق بما يجري في داخل الدول، وهو ما أحدث تفكيكاً لها في داخلها، وكل ذلك أصاب الدول بالإنهاك والضعف والفشل بما أوصلها حدَّ الأزمة الشاملة.

ولقد تأسس نموذج الدولة الوطنية (القومية) في العالم الإسلامي - كما في كل الدول المستعمرة - على غرار النموذج الأوروبي للدولة الوطنية (القومية). وجرى الدفع لقيام أشكاله الأولية ضمن سياق الصراعات والحروب التي استعرت بين الدول الأوروبية على المصالح ومناطق النفوذ والاحتلال في مختلف قارات العالم، طوال القرن التاسع عشر امتداداً إلى القرن العشرين. وخلال الحربين العالميتين الأولى والثانية تضافرت مجموعة معقدة ومتداخلة من العوامل للدفع بهذا - بعد تشكله النهائي الحالي - في أتون النظام الدولي والأمم المتحدة.

لقد لعبت الدول الأوروبية دوراً أساسياً في بناء هذا النموذج خلال حروبها البينية؛ خاصة لحاجتها إلى تشكيل جيوشٍ في تلك الدول ونُظُمٍ لإدارة المجتمعات بحكم حاجتها لذلك. وقد ضعفت الدول الأوروبية بعد الحروب - والحرب الثانية خاصة - وتغيرت إستراتيجياتها من الاحتلال المباشر إلى الاحتلال الحضاري والاقتصادي؛ فقد زاد دفعها بهذا الاتجاه لتشكِّل درجة قوة ومنعة لمستعمراتها في مواجهة بروز الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي وقتها باعتبارهما قطبين مسيطرين على النظام الدولي. وكان للقطبين الجديدين - وكلٌّ منهما كان يسعى للسيطرة على العالم - دورهما أيضاً في هذا الدفع، وَفْقَ منطق تقاطع المصالح - لتقليل أو إنهاء النفوذ الأوروبي في مستعمراته السابقة.

وجاء بناء نظام الأمم المتحدة ليوفر الإطار العام والقانوني لنشاة الدول وإعلان استقلالها؛ إذ جرى اعتماد نموذج (الدولة - الأمة) وحدة أساس في بناء النظام الدولي.

وعقب نهاية الحرب الباردة تعرض هذا النموذج لتحـديات عاصفة، بدءاً من تحـديات العـولمة التي انتقصت من معالم سيادة تلك الدول - وإن استمر بقاؤها في عضوية الأمم المتحدة - ومروراً بعودة نمط الاحتلال العسكري الأمريكي المباشر والفظِّ، ممثَّلاً في احتلال أفغانستان والعراق وَفْقَ قاعدة جديدة في النظام الدولي، منحت الفرصة للدول الغربية للتدخل العسكري لأسباب تتعلق بالأوضع الداخلية في الدول، فيما سمي بـ (التدخل لأسباب إنسانية). وانتهاءً إلى الاضطراب والتفكك الداخلي والحروب الأهلية التي استعرت في العشر سنوات الأخيرة ونالت عدداً كبيراً من تلك الدول. وبات ضرورياً - ويمكن القول حتمياً - إعادة تأسيس هذا النموذج؛ خاصة بعد فشله في تحقيق كل الشعارات التي أعلن عنها من تحقيق الوحدة (العربية أو الإسلامية) وتحقيق التنمية وتعميق الاستقلال وبناء نظمٍ سياسيةٍ قادرةٍ على التعبير عن آمال وطموحات الشعوب. وكذا بحكم عدم قدرته على مواجهة التغييرات في التوازنات الدولية.

لقد حملت الدولة الوطنية (القومية) في العالم الإسلامي عوامل ضعفها وفشلها في داخلها، وكان طبيعياً أن تتحول إلى التشدد في صراعاتها بعضها مع بعض، وأن لا تشكل من ثَمَّ طرفاً قيادياً في إدارة الصراعات الدولية - حتى مع تشكيلها منظمات جماعية - بالنظر لنشاتها باعتبارها نموذجاً تفكيكياً لكيان إسلامي جامع كان قد تعرض لهزيمة قاسية في الحرب العالمية الأولى، انتهت إلى إعلان تخليه عن قيادة وإدارة الكيان الإسلامي الجامع. وبسبب قيامها على خلفية مشروعية خارجية مستمَدة من النظام الدولي أكثر من المشروعية الداخلية في تلك المرحلة بالغة التعقيد، وبحكم تأسيسها وَفْقَ مضامين أوروبية في تشكُّلها الكلي والجزئي التفصيلي، إلى درجة يمكن القول معها: إنها تشكلت في بدايتها وَفْقَ المعايير والأهداف والمحددات التي وضعتها الدول الأوروبية. وفي ذلك يبدو الأكثر لفتاً للنظر أنها أخذت من النموذج الأوروبي شكل الدولة وملامح وأبعاد الفكرة الوطنية (القومية) نفسها (التي أدت لاندلاع حروب طاحنة داخل القارة الأوروبية) دون أن تأخذ بنموذجها في بناء النظم السياسية ومشروعيتها الشعبية. وأنها سارت عكساً مع النموذج الأوروبي، الذي سعى في السنوات الماضية إلى التخلي عن بعض ملامح السيادة (الحدود والعملة) والذهاب نحو بناء نظام أوروبي مشترك، بينما ظلت تلك الدول تمارس تفككها وعزلتها وصراعاتها بعضها مع بعض إلى درجة خوض الحروب والصراعات لأجل الحدود أو حول مناطق الحدود المتنازع عليها.

أولاً: إشكاليات النشأة المشوَّهة:

جاء تشكيل الدولة الوطنية (القومية) في الدول المحتلة تحت ضغط حركة الاستعمار التي طمحت لنقل النموذج الأوروبي (وَفْقَ تمايزاته) إلى ما وراء البحار، وفرض مفهومها الخاص عن الدولة، بعد أن أحكمت سيطرتها السياسية والاقتصادية والعسكرية على الدول المحتلة. أراد المحتل تحقيق صيغ تضمن إدارة المجتمعات وَفْقَ هياكل حكم تحقق بقاء الاحتلال وديمومته. لقد جرى تصدير مفهوم ونموذج الدولة الوطنية (القومية) التي تتحدد معالمها بالحدود الجغرافية دون الهويه؛ إذ استهدف الغرب جعل هذا النموذج في حالة حرب مع الهوية الثقافية والحضارية للمجتمعات.

وإذا كان قد جرى الأمر في العالم الإسلامي وَفْقَ الصيغ نفسها؛ فقـد جاء ذلك متصادماً مع مفهوم الدولة الإسلامية الموحدة (القائمة)، وهو ما أوجد حالة صراعية بين المفهوم (الجديد) القائم على الجغرافيا والمصالح وتغيير الهوية الحضارية (الذي كان يحظى بدعم الدول الاستعمارية) ضمن خطة التقسيم المسماة بـ (تركة الرجل المريض).

وقد جرى إنفاذ تلك الخطة وَفْقَ مفاهيم جديدة مختلفة عن المفاهيم السائدة في تلك المنطقة. وجرى الانتقال من فكرة ومفهوم تشكل خصائص لكل تكوينة بشرية في المناطق الجغرافية المتعددة والواسعة ضمن إطار الأمة والدولة الإسلامية الموحدة والواسعة الأرجاء، إلى فكرة ومفهوم أن كل تكوينة بشرية محددة في كل منطقة جغرافية هي أمة قائمة بذاتها (وفي ذلك نُظِر إلى دولة الخلافة على أنها دولة احتلال). كما جرى التقسيم ورسم الحدود وَفْقَ مصالح المستعمر وباتفاقيات كرست التقسيم مع زرع المشكلات الحدودية التي كان من الطبيعي أن تكون وافرة بحكم التواصل الذي كان متحققاً بين كل التكـوينات البشرية داخل الأمة، حتى لو لم تقصد الدول الاستعمارية. لقد تم الترويج لمفاهيم الوطنية (العدائية تجاه الآخر أيّاً كان) بديلاً لمفهـوم الأمـة أو في مواجهة مفهوم الأمة الإسلامية، وهكذا أتت فكرة القومية العربية إحدى نواتج تلك المرحلـة. وخلال الدعوة إلى كليهما تم الاتكاء إلى مظالم وقعت على الشعوب خلال مراحل التدهور الأخيرة من عمر الدولة الإسلامية لتأجيج تلك الحالة التفكيكية تجاه جميع الدول التي كانت منضوية ضمن تاريخ هذا الإطار. لقد كان التقسيم حاجة للدول الاستعمارية بالأساس، لإحكام السيطرة على كل دولة على حدة ولتعيين الحدود بين المحتلين المتنافسين والمتصارعين أنفسهم.

كانت بريطانيا قد احتلـت مصر والسودان، وكان إلى جوارها الاحتلال الإيطالي لليبيا، وكذا الحال بين الاستعمار البريطاني للعراق والفرنسي للبنان وسوريا... وهكذا في مختلف المناطق جرى التقسيم لأجل تحقيق المصلحة المباشرة للمستعمر، التي تطلبت تحديد نمط من بناء جهاز لإدارة الدولة المحتلة وتعيين حدود لها؛ إذ كان المستعمر قد شرع في إعادة تشكيل النظم الداخلية وتحديد معالم (السيادة) الخارجية لكل دولة في صورة الدولة المحتلة عن طريق قرارات من عصبة الأمم ثم من الأمم المتحدة.

وكان المثال الأبرز على أهمية تحديد الحدود لكل (دولة) وتحديد ملامح للسيادة الخارجية لها - وفق شروط الدولة المحتلة - أن بريطانيا ظلت تستخدم معالم (سيادة) الدولة المصرية لوقت طويل في احتلال السودان وإدارته. وما جرى في فلسطين كان نموذجاً حادّاً في وضوحه؛ إذ فصلتها دون منحها شكل الدولة (كغيرها) ووضعتها تحت الانتداب حتى سلَّمتها للصهاينة ليعلنوا دولتهم.

وهكذا خلال الحرب العالمية الأولى، التي كانت صراعاً بين الدول الأوروبية على اقتسام الدولة الإسلامية، ونتيجة لها، ظهرت إلى الوجود صورة (وحدات دولية) جديدة، تتويجاً للاحتلال الاستعماري لمختلف أرجاء الدولة الإسلامية، وهو ما تطور وتحدد على نحو قانوني بعد الحرب العالمية الثانية، وتشكُّل منظمة الأمم المتحدة.

وفي كل ذلك، كانت القضيـة الجوهـرية، هي أن هذا النمط الأوروبي القائم مفاهيميّاً على أن كل دولة هي أمة قائمة بذاتها (كما هو الحال في أوروبا) وعلى أن المصالح والجغرافيا هي أساس تقسيم الدول وتحديد الحدود، وكانت تجري عملية تراجعية في العالم الإسلامي وعملية تفتيتية لدولة أمة من نمط فريد امتدت على مساحة أوسع من أوروبا ذاتها، ووقتَها انقسمت الآراء والمواقف إلى ثلاثة اتجاهات رئيسية:

أولها: الاتجاه المدافع عن فكرة (الدولة/ الأمة) وَفْقَ الصيغة الجديدة الراهنة التي تعتبر كل (شعب) هو أمة.

وثانيها: اتجاه يعتبر هذه الصيغة الجديدة حالة قُطريَّة داخل تشكيلة (الأمة العربية) أو الوطن العربي، وأن بالإمكان الانتقال منها إلى فكرة (الدولة - الأمة العربية) عبر توحيد تلك الكيانات، وعلى هذا الأساس جرت محاولات الوحدة التي فشلت جميعها، وكان الأساس الفكري لها قد ظهر في مطلع القرن العشرين من خلال مفهوم (الجامعة العربية).

وثالثها: يرى أن فكرة (الدولة/ الأمة) هي دولة الأمة الإسلامية وَفْقَ مفهوم (الجامعة الإسلامية).   

والمهم هنا هو أن مفهوم (الدولة/ الأمة) وَفْقَ النمط التجزيئي، هو ما ساد وأصبح نافذاً، وهو ما جرى على أساسه الانضواء داخل النظام الدولي أو الأمم المتحدة.

والأهم، الذي لعب دوراً حاسماً، هو أن التقسيم وَفْقَ نمط الدولة الوطنية (القومية) التجزيئية في العالم الإسلامي، لم يأت نتيجة أفعال وألاعيب ودهاليز السياسة الاستعمارية وإستراتيجياتها العسكرية فقط؛ بل جاء عبر غرس مفاهيم الحداثة والتحديث ووَفْقَ مفاهيم انعزالية عن الآخر.

لقد جرى تعميم مجموعة متنوعة من المفاهيم، الوطنية المشوهة قصداً. فإذا كان مفهوم الوطنية الغربية قد بني على تحقيق الوحدة الداخلية، وبناء دولة تلملم شتات الإقطاعيات والتفكيك الداخلي وتحافظ على اللغة والدين المشترك، وعلى العداء لما هو خارج تلك الحـدود من أفكـار وعقائد ولغة (بالنظر للصراعات الضارية مع الآخـر الأوروبي)؛ فقد جرى تعميم هذا المفهوم بين (دول وشعوب) المنطقة بتجاهل واستبعاد اللغة والدين والتاريخ المشترك. كان مفهوم الوطنية المقدم لتشكيل الدول في العالم الإسلامي انعزالياً ليفرق الشعوب عن بعضها وليقيم الحدود لتفصل وتقطع ما كان موصولاً؛ فكانت الدولةُ الوطنية تجزيئيةً. كان ذلك ابتداعاً للصراع وصناعة للعداء بين تكوينات بشرية لا عداء بينها، ولا حدود.

وفي فترة لاحقة شملت المنظومة الفكرية تقديماً للعروبة وَفْقَ مضمون عنصري مناقض للفهم الإسلامي، وهو ما كان أساساً للتفكيك داخل الدول ذاتها على أساس العرق واللغة، وأساس تسعير العداء مع المجموعات العرقية غير العربية. واللافت هنا أنه جرى تقديم نقيض لمفهوم الأممية الإسلامية من قِبَل بعض التيارات كما هو الحال في الأممية البروليتارية لدى الشيوعيين، كما جرى إعلاء نمط من السياسة الخارجية البراغماتية؛ فكان الانحياز للهند مثلاً في صراعها ضد الباكستان.

لقد تشكلت أنماط من الدول (المستقلة) داخل جسد الأمة، وفرضت حدودها في مواجهة الدول الأخرى لا في مواجهة المستعمر فعلياً، كما أصبح لها نظمها السياسية والاقتصادية المختلفة والمتعددة، وصار ما يوحدها هو ارتباطها بالمستعمر وانفصال بعضها عن بعض، بحكم انضوائها تحت سطوة القواعد الدولية (نظام التأشيرات والحدود)، كما أصبح التمثيل الدولي مرتبطاً بكل دولة على حدة... إلخ.

ولذا، كان طبيعياً أن تُجري تلك الدول علاقاتها بعضها مع بعض بمنطق التعادي، وأن تمر علاقات بعضها مع بعض عبر الهيئات الدولية المتحكمة في قرارها المستعمر، وأن يسود التفكير وقواعد إدارة الصراعات بالقواعد نفسها التي تدار بها في الدول الأخرى، وأن تنطبق تلك القواعد بعضها على بعض، وعلى رأسها مفهوم التوازن بين الجيـران؛ فإن ضعف الجار تحفز جاره للحرب، وإن قوي الجار فالأضعف يلجأ للدول القادرة دولياً على حمايته... إلخ.

ثانياً: التحديات بين الخارجي والداخلي (الأزمة الشاملة):

ظلت الدولة الوطنية (القومية) في موقعها الأول دون تطوير داخلي قادر على مجابهة التغيير في وعي الشعوب وتطور مطالبها، وفي الأوضاع الدولية، بحكم الأطر العامة لتشكل الدول والضوابط والقواعد الحاكمة والمتحكمة في حركتها. هي ظلت في وضع المدافع عن بقائها وعن حدودها مع استمرار ضعف قدرتها على الاستجابة الفاعلة للتغييرات الحادثة في بناء الدول ونمط مشروعية حكوماتها وفي البناء المؤسسي وواصلت ضعفها، بل تراجعت، عن مجاراة التقلبات الجارية في توازنات النظام الدولي، وهو ما ساهم في تعرض العديد من تلك الدول لضربات إجهاضية وصلت حدَّ العدوان العسكري، حين تمردت على ما فُرِض عليهـا من شروط. وباتت تلك الدولـة بمفاهيمها وقواعد نشاطها وحالة قوتها وقدرتها تواجه تحديات هائلة:

أولها: تحدي البناء الداخلي:

ورثت الدول (المستقلة) ميراثاً عميقاً من الاختراق الخارجي لنخبها وإداراتها ولمجتمعاتها. ولقد تشكلت أبنيتها تحت الإشراف المباشر من الدول المستعمرة، باعتبارها هي التي تملك النموذج والخبرة. وكان الأخطر هو أن حركة الاستقلال لم تجرِ وَفْقَ مفاهيم ثقافية تبحث في النموذج المستهدف حضارياً وإستراتيجياً، وهو ما كان قادراً على خروجها عن القواعد المفروضة عليها. لقد لعبت نخب الحكم تلك الدور الأساسي في بناء لبنات هذه الدول.

برز دور النخب المؤهلة للحكم في الدول المتصارَع عليها باعتبارها القادرة على تشكيل أجهزة الدول، وكذا باعتبارها الأقرب إلى التعامل مع ضرورات ومناورات الحالة الاستعمارية وباعتبارها المؤهلة للسيطرة على حركة الشعوب والقادرة على تأطير أو تطويع إراداتها.

وفي ذلك جـرت حالات متعددة من كسب ولاءات تلك النخب بين الدول الاستعمارية المتصارعة مع بعضها الآخر. كما نمت درجة وعي لدى تلك النخب بمصالحها هي؛ إذ أدركت أن وجودها في الحكم مرتبط أساساً بتوازنات الخارج والعلاقات مع الأطراف الخارجية، أو بالصراعات بين الدول الاستعمارية بعضها مع بعض، فلم تهتم بتشكيل نظم ذات مشروعية شعبية، كما أدركت أن سياستها في الداخل يجب أن تسير ضمن إطار يؤهلها لعضوية الأمم المتحدة بما استدعى تقيُّدها بالقواعد التي وضعها الاستعماريون القدامى والجدد (كمحصلة لموازين القوى الدولية لما بعد الحرب)فقامت بتصفية كل القوى المعارضة لتلك (التشكيلة من العلاقات مع الخارج) باعتبار ذلك أساس وصولها وبقائها في الحكم.

وفي حين نشأت أجهزة الدول (المستقلة) امتداداً للأجهزة التي كانت نشأت وتطورت تحت إشراف السلطات الاستعمارية، فقد واصلت دورها - القديم تقريباً - نفسه لعدم خضوعها لرقابة جماهير الشعوب. والأهم هو أن كثيراً منها قد تأسس وَفْقَ ظاهرة فريدة، كان فيها جهاز الدولة أقوى من المجتمعات. وجرت النشأة عبر النخب، وهو ما جاء عكسياً في تجربة بناء الدول في أوروبا التي جرى تشكيل الدولة فيها بعد ثورات شعبية وهو ما جعل الشعوب حاضرة دوماً في مراقبة أجهزة الدول إن لم نقل السيطرة عليها.

ولم تعمل تلك النخب المسيطرة على القرار في دول العالم الإسلامي على تشكيل نظم سياسية قادرة على حشد قوة المجتمعات. وهي لم تنجح في إحداث تنمية مستقلة. وفي حين ظهرت حركات سياسية تطرح المحتوى الحضاري للاستقلال (لا السياسي فقط) فقد جرى قمعها، وكانت في أغلبها حركات نخبوية. غير أن السنوات العشر الأخيرة، شهدت تنامياً في دور حركة الشعوب، كما حدثت اختراقات واسعة في بُنى المجتمعات الثقافية والمذهبية (دولياً وإقليمياً)، واندلعت حركات تمرد في المجتمعات، كما حدثت نشاطات تفكيكية، وهو ما جعل تلك الدول في وضع حرج أو خطير.

ثانيها: انتقاص معالم سيادة الدولة الوطنية:

كانت تلك الـدول تابعـاً في الوضع الدولـي بعد تشكُّلها، وكانت متلقية للتغييرات الحادثة فيه على نحو خاص نابع من ظروف كل دولة. وفي ذلك اختلفت استجاباتها وتضاربت.

فخلال الحرب الباردة انقسمت مواقف الدول، وأصبح كلٌّ منها فعلياً تحت حماية هذا القطب أو ذاك في مواجهة القطب الآخر ومن معه من الدول الإسلامية الأخرى بطبيعة الحال؛ فكان المحتوى المباشر هو تأجيج الصراع بين الدول الإسلامية. غير أن مرحلة ما بعد نهاية الحرب الباردة شهدت بعثرة كل الأوراق وصارت جميع تلك الدول في وضع الخطر الأشد.

لقد لعبت مفاهيم العولمة دوراً خطيراً على تلك الدول؛ إذ اعتبرها الغرب بقيادة الولايات المتحـدة فرصة حاسمة لإعادة تشكيل بنى الدول وَفْقَ مقولة نهاية التاريخ واعتماد الليبرالية الغربية لتصبح النظام الكامل للهيمنة على صعيد كل دول العالم.

وكان لصندوق النقد الدولي و (البنك الدولي) ومنظمة التجارة العالمية الدور الحاسم في إعادة تشكيل البنى الاقتصادية للدول وإخضاعها لمصالح الاقتصادات (بل النماذج) الغربية. وكان للتطويرات التكنولوجية أثرها في إنهاء مفهوم الدولة المستقلة ذات السيادة على إقليمها ومجتمعها. ووصل الحال إلى أن عادت الولايات المتحدة بالعالم إلى حالة الاحتلال بالقوة العسكرية كما هو الحال في أفغانستان والعراق.

وكان الأخطر هو أن جرى اعتماد مبدأ التدخل العسكري في الدول لإحلال الديمقراطية، وَفْقَ المفهوم الليبرالي الغربي.

لقد تغير الوضع الدولي الذي سمح لتلك الدول بهوامش للمناورة، وأصبحت الدول التي كانت في صف الاتحاد السوفييتي الضحية الأولى؛ إذ وقعت تلك الدول تحت ضغط هائل لإعادة تشكيل اقتصادها ونظمها السياسية... إلخ. لكن الأمر لم يقتصر عليها وتوسع ليشمل جميع الدول التي كانت في تحالف مع الغرب أيضاً.

لقد انتهى ما كان مستقراً من مفاهيم سيادة الدولة على إقليمها وحقها في إقرار قوانينها الداخلية في تنظيم شؤون الحكم، وفي تحديد نظمها الاقتصادية وغيرها كـ (وحدة بناء للمؤسسات الدولية) بعد أن أصبح التدخل الخارجي في كل هذه الشؤون الداخلية للدول، أمراً يكاد يكون هو الأصل لا الاستثناء.  

لقد تعمق وتوسع دور الشركات العابرة للقوميات، ومع تأسيس منظمة التجارة العالمية الذي جاء تطويراً لقوانين الجـات التي كانت بداية إنقاص سيادة الدولة على اقتصادها الداخلي في صورة قواعد التجارة، فتحولت التبعية إلى قواعد مؤسسية دائمة. وجرى تحول الدول الغربية إلى أنماط من التدخل العسكري الخارجي لأسباب تتعلق بقضايا داخل أقاليم سيطرة الدول وسيادتها؛ إذ جرى التدخل لأسباب تتعلق بحدوث توترات وحروب داخلية أو بسبب عمليات تقوم بها الدول ضد أعراق أو أقليات في داخلها أو بسبب ارتكاب مذابح وتصفيات (فيما سمي بالتدخل لأسباب إنسانية) أو حتى بسبب طبيعة نظم الحكم الشمولية فيها، وعدم تحقيقها لمعايير ديمقراطية داخلية وَفْقَ الأنماط الغربية. وهو ما حدث في العراق وكوسوفو والبوسنة والهرسك ووصل الأمر حدَّ الحديث عن بناء حكومة عالمية.

وظهر جلياً دور الثقافة والفكر في إعادة الاستعمار، وصارت العولمة مرتبطة بالثقافة وتشدد دورها في إعادة إنتاج القابلية للاستعمار. وأصبح الركن الركين في النشاط الثقافي والإعلامي هو تأكيد أن سبب تخلف المسلمين والعرب وفقرهم يعود إلى تمسكهم بالعقلية التقليدية التي أدى الدين دوراً كبيراً في تكوينها وبذلك هي تتناقض مع التقدم والتطور.   

ثالثها: تحدي تدهور علاقاتها البينية واستمرار عدم القدرة على تشكيل منظومة فاعلة:

بحكم نشأة الدولة الوطنية (القومية) كحركة تفكيكية محكومة بعوامل أكبر من إراداتها وقدراتها، وبحكم دورانها في أفلاك النظام الدولي الأقوى منها، وبالنظر إلى المفاهيم التي تشكلت على أساسها، وتجاورِها المباشر بعضها مع بعض، مع وجود نفوذ استعماري مختلف في كل دولة... فقد صارت هذه الدولة في حالة صراع أو حرب مع مثيلاتها، دون قدرة على سعي بعضها في اتجاه بعض.

هي حالة تعمقت بعد أن حدث انقسام مواقف ومصالح تلك الدول خلال الحرب الباردة؛ إذ تعارضت مصالحها وأفكارها وسياساتها. وعقب نهاية تلك الحرب استمر عداؤها وصراعها بحكم الأفكار السائدة لدى النخب.

وقد جرت محاولات متعددة لجمع تلك الدول في تنظيمات هنا وهناك، لكن الاختراق والضغط الخارجي أفشل تلك المحاولات.

وقد تدهورت أوضاع العلاقات البينية بين تلك الدول، عقب اندلاع ما يوصف بـ (الربيع العربي)؛ إذ تحيزت بعض الدول لتلك التحركات، بينما صمدت دول أخرى في موقفها الرافض لها، وزاد من تعقيد العلاقات اخترق النظام الرسمي العربي من قِبل إيران إذ صار كلٌّ العراق وسوريا ولبنان في محور إيران.

رابعها: تحدي الأحلاف والتكتلات الكبرى:

تواجه الدولة الوطنية (القومية) في العالم الإسلامي في الوقت الراهن تصاعداً في حالة ضعفها دولياً؛ إذ نهضت العديد من الدول الفقيرة والضعيفة وصارت أقطاباً دولية، وهي حالة تتوسع يوماً بعد يوم إذ يعيش العالم ظاهرة تعدد الأقطاب، بينما الدول الإسلامية غارقة في احتمالات تفككها هي.

وبينما يسير العالم نحو تحالفات وبناء كيانات أكبر، فلا تزال تلك الدول عاجزة حتى الآن عن السير في هذا الطريق، وإن ذهبت فيه فهي تذهب في اتجاه الالتحاق بالأحلاف القائمة دون قدرة على قوة إسلامية كبرى أو عربية.

وهي إذ تتعرض للتفكك ترى دولاً كانت في أوضاعها وأشد سوءاً، تنهض وتعمِّق استقلالها ومعالم قوتها.

لم تستطع تلك الدول اغتنام فرصة الاضطراب الدولي خلال الانتقال من نظام الحرب الباردة إلى ما تلاها للذهاب بعضها تجاه بعض، وهي لم تستطع اغتنام حالة العولمة وانتقاص معالم السيادة للتقدم لتشكيل منظومات جمعية فاعلة، وكان الأكثر لفتاً للأنظار أن كانت تلك الفترة - تحديداً - هي الفترة التي شهدت تصاعداً في النـزاعات بين تلك الدول، وبعضها وصل حدَّ النزاع المسلح، وكان الأشهر غزو العراق للكويت، بينما شهدت تلك المرحلة تطوراً في أوروبا (التي توجهت نحو بناء نظام أوروبي)، وتصاعداً في قوة الدولة الوطنية (القومية)، كما هو حال الهند والصين والأرجنتين والبرازيل واليابان وجنوب إفريقيا، وحال روسيا العائدة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وجميع تلك التجارب انطلقت للقوة والقدرة من العودة لهويتها الحضارية؛ فالروس انطلقوا لمزج الوطنية الروسية بالأرثوذكسية، والهند وصلت حدَّ التطرف في إضفاء الهندوسية على أبنيتها الثقافية ومنظومة الحكم، وأوروبا نفسها لم تعد تخفي نصرانيتها.

ثالثاً: إعادة التأسيس (صراع الخارج والداخل):

يتلخص كل ما يجري منذ نحو 10 سنوات في دول العالم الإسلامي في مقولة إعادة التأسيس (مع اختلاف التوجهات والأهداف والأسس لإعادة التأسيس تلك) سواء ما يجري على صعيد التبدلات في نظم الحكم من داخلها وتغيير اتجاهات حركتها، أم على صعيد الحراك الشعبي أم على صعيد أنماط الحركة الخارجية الموجهة للدول والمجتمعات.

فالنخب الحاكمة تتحرك لإعادة التأسيس استجابة لضغط الهجوم الحضاري الغربي، والشعوب تبحث عن إعادة التأسيس باعتبارها كانت غائبة في مرحلة التأسيس الأولى، ولما تراه من فشل. بينما الغرب يسعى لإعادة التأسيس عبر التفكيك وإنشاء كيانات جديدة وعلى فرض العلمانية على الجميع.

هذا التأسيس (الجديد) أو إعادة التأسيس يطرح قضايا أساسية: يطرح قضية المشروعية الداخلية بالنظر للتوترات والتمردات الشعبية التي وصلت حدَّ الحرب الأهلية الصريحة في بعض البلدان، بينما الأوضاع في تصاعد يهدد بالتفكك في بلدان أخرى، وقد شهد السودان حالة تفكك وانقسام بانفصال الجنوب وكذا إندونيسيا، في حين تشهد كلٌّ من سوريا والعراق واليمن وليبيا وقبلها الصومال حالة حرب أهلية... إلخ.

ويطرح قضية المؤسسية في بناء أجهزة الدول، لتعميق القدرة على تطور قدرة أجهزة الدول على بناء الخطط والإستراتيجيات الداخلية والخارجية وإنفاذها. لقد عانت معظم الدول من غياب المؤسسية والفصل بين الدولة والنظام السياسي بما عرَّضها لتقلبات واضطرابات وتغييرات أضرت بناء الدولة واستمرارها.

ويطرح قضية هوية الدولة أو علاقة الدولة بهوية المجتمع، ومضامين الاستقلال الحضاري، وعلاقة الهوية بالسياسات والإستراتيجيات. هذا الأمر أصبح بالغ الأهمية في ظل التحولات الدولية الراهنة؛ إذ تتعمق حالة الهوية وتصبح أساساً في تحديد الإستراتيجيات الداخلية والخارجية.

ويطرح قضية بناء منظومات كبرى مستقلة قادرة على مواجهة الضغوط الاستعمارية وعلى التأثير في إدارة السياسات الدولية.

 


أعلى