• - الموافق2024/04/19م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
النووي الإيراني... والموقف الأمريكي

النووي الإيراني... والموقف الأمريكي


(إيران هي القاسم المشترك لكل مشكلاتنا في المنطقة) هكذا قال مسؤول أمريكي في تصريح ينم عن مدى التوتر وعمق الأزمة في العلاقات الإيرانية الأمريكية، ولكنه يكشف في الوقت نفسه عن الوعي الأمريكي بالدور المتعاظم لإيران في المنطقة مما يدفع المرء إلى التساؤل: هل تسعى أمريكا حقاً إلى حرمان إيران من السلاح النووي؟ وما حقيقة الموقف الأمريكي إذن من السلاح النووي الإيراني؟

الموقف الأمريكي كما عبرت عنه التصريحات الرسمية المعلنة يعتمد موقف المواجهة للمشروع النووي الإيراني، ووصل إلى التهديد بالحرب وإجهاض هذا المشروع بالقوة المسلحة سواء أكان ذلك بالطريق المباشر أي استخدام القوات الأمريكية وخاصة الموجودة بالجوار العراقي، أو التلويح بالذراع الصهيونية والتذكير بما فعله طيران العدو بالمفاعل النووي العراقي في ضربة قاصمة عام 1981.

ولكن في الوقت نفسه فإن إيران تبدو ماضية في مشروعها بالمزج بين الوسائل الدبلوماسية والسياسية، والتلويح بأوراقها المختلفة في المنطقة، ومنها الرد العسكري على أي ضربة توجه إليها؛ بينما يبدو الموقف الأمريكي في نظر بعضٍ كأنه غير مكترث بما يجري.

وما بين التهديدات وعدم المبالاة يدور المشهد الأمريكي في حلقة غامضة تثير الحيرة والبلبلة.

ولفك معضلات هذا المشهد يجب أولاً تتبُّع الإستراتيجية النووية الأمريكية في العالم، ثم فهم دوافع السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، ومن ثم موقع إيران في هذه الإستراتيجيات.

* الإستراتيجية الأمريكية النووية:

كان اكتشاف السلاح النووي بما يحمله من قوة تدميرية هائلة ومرعبة، والاستخدام المبكر له في هيروشيما و نجازاكي في اليابان على يد الولايات المتحدة الأمريكية في الأيام الأخيرة للحرب العالمية الثانية قد صاغ بشكل تفصيلي وحاسم مفردات النظام العالمي الذي ساد بعد الحرب، واستمر حتى بداية التسعينيات من القرن المنصرم.

وفي هذا المجال يرى الاستراتيجي الأمريكي البارز (برنارد برودي) أن الأسلحة النووية قد فتحت عصراً جديداً طوى الاستراتيجيات والخبرات العسكرية السابقة وقلل من شأنها، وطرح إستراتيجية فعالة وحيدة هي إستراتيجية الردع النووي.

وتقوم إستراتيجية الردع النووي قبل كل شيء على المناورة بالتهديد باستخدام السلاح النووي؛ هذه المناورة التي تجعل الشك ممكناً.

كانت فكرة الردع أحد أحجار الزاوية في السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها طوال الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية. وحسب التصريحات الرسمية في ذاك الحين فإن القوات المسلحة الأمريكية لن تُستخدمُ لبدء الحرب، ولكن قواتها بوجود الأسلحة النووية ستردع أي عدو محتمل في اتخاذ خطوات عدوانية. فالمساواة الكمية العددية بين أسلحة الطرفين المتصارعين مسألة لا قيمة لها في ميدان التوازن النووي.

* ما معيار الردع النووي؟

إن معيار الردع النووي يتضمن جانبين أساسين هما:

الأول: هو القدرة على تدمير المراكز السكانية والاقتصادية والمدنية الهامة.

الثاني: هو القدرة على امتصاص الضربة المعادية النووية الأولى، وحماية المراكز البشرية والإنتاجية والمدنية والعسكرية الهامة وخاصة وسائط الردع النووي، ومن ثم امتلاك القدرة على الرد.

ومنذ عام 1978 تعهدت الولايات المتحدة بعدم استخدام السلاح النووي ضد دول لا تمتلكه، وقد التزمت الدول النووية الرسمية الخمس (الصين، و فرنسا، و بريطانيا، و روسيا، و أميركا) بهذا التعهد بشكل علني عند إقرار معاهدة الحد من نشر الأسلحة النووية عام 1994 بعد 26 عاماً من توقيعها.

لذلك بعد انتهاء الحرب فقدَ مبدأُ استبعاد القوة النووية مبرره؛ وذلك مع انتهاء عصر الثنائية القطبية، وظهور عالم القطب الواحد وانفراد الولايات المتحدة بالهيمنة على العالم، وبدا ذلك في استحداث إستراتيجية أمريكية نووية بديلة عن الإستراتيجية السائدة في فترة الحرب الباردة والتي ظلت فيها الأسلحة النووية بعيدة عن الاستخدام الفعلي الخاضعة ففي الوقت نفسه للتطوير والتحديث. وفي سبتمبر 1996 وقّع الرئيس (بيل كلينتون) مذكرة رئاسية تراجع فيها عن التعهد الذي أُقر عام 1978 بعدم استخدام الأسلحة النووية ضد دول لا تمتلك هذا السلاح.

وفي مايو 2002 تعهدت الولايات المتحدة لروسيا بتقليص عدد الرؤوس النووية الهجومية التي تمتلكها من 6000 إلى 2000. وقد تبين فيما بعد أن هذا الوعد كان مجرد سراب؛ إذ إن العسكريين الأميركيين احتفظوا في الواقع بعدد كبير من الرؤوس النووية المخزونة التي يمكن إعادة تنشيطها خلال بضعة أيام عند الحاجة.

وفي يناير 2005 خطت الولايات المتحدة خطوة غير مسبوقة؛ فقد قدم وزير الدفاع (دونالد رامسفيلد) إلى الكونغرس مشروعاً باسم إعادة النظر في السياسة النووية وفيه تناول أساساً إحاطة مشروع إعادة إطلاق الترسانة الأميركية النووية بصيغة إستراتيجية. وتذكر هذه الوثيقة أن الولايات المتحدة باتت تواجه أخطاراً متعددة ذات مصادر متنوعة ليست كلها متوقعة، وأن الترسانة المتوفرة لا تحوي أسلحة دقيقة بالشكل الكافي، بل أسلحة قوية جداً وذات قدرة محدودة جداً على اختراق الأرض.

وقد استعرض التقرير 1400 هدف تحت الأرض، واعتبر أنه ليس للأسلحة التقليدية قوة اختراق كافية لتدميرها، وأوصى بضرورة العودة إلى التجارب النووية، من أجل تأمين زمن سير أطول للأسلحة البعيدة المدى، ومن أجل إنجاز تصنيع الرؤوس النووية الجديدة. وقد وُضع مشروع لائحة بأسماء سبع دول يمكن استخدام السلاح النووي التكتيكي من الجيل الجديد ضدها وهي: روسيا، والصين، و العراق، وإيران، و كوريا الشمالية، و ليبيا، و سوريا. وقد أشار ( مايكل شايفز) الناطق باسم البنتاغون إلى أن على واشنطن أن تعتمد إستراتيجية نووية تواجه بها مباشرة الأخطار المستجدة؛ في حين ذكر (بول روبنسون) مدير (مختبر سانديا) أنه سيكون بإمكان الولايات المتحدة أن تردع أعداءها بشكل أفضل إذا ما تضاءل الفرق بين الأسلحة النووية والأسلحة التقليدية.

وفي شهر مايو 2005 كتبت صحيفة الواشنطن بوست تقول: قبل أن نبحث في كيفية تطوير ترسانتنا النووية العجوز علينا أن نناقش دور الأسلحة النووية ومدى أهميتها في الحفاظ على أمن الولايات المتحدة. واستعرضت الصحيفة بعض النقاط من أجل الإشارة إلى أهمية الأسلحة النووية بالنسبة لأمن الولايات المتحدة ومستقبلها؛ منها: أن العديد من الدول يملك هذا النوع من الأسلحة، والعديد من الدول الأخرى يسعى جاهداً لامتلاكها؛ كذلك فإن الأسلحة النووية التي بحوزة أميركا اليوم لا تتماشى ومتطلبات العالم الحديث؛ فقد كانت مناسبة في إطار الحرب الباردة، ولكنها أصبحت اليوم متواضعة. وتتابع الصحيفة تعداد نقاط أخرى تشكل بنظرها دوافع مهمة كي تطور الولايات المتحدة برنامجها النووي وأهمها امتلاك الإرهابيين على حد تعبير الصحيفة أسرار صنع القنبلة النووية.

وتعزز هذا المسعى بإصدار الوثيقة المعنونة بـ (مبادئ العمليات النووية المشتركة) بتاريخ 11/9/2005 بغرض توسيع هامش الاستخدام الميداني للأسلحة النووية الميدانية.

وفي فبراير 2006 وقَّعت الولايات المتحدة اتفاقية خاصة بأنظمة المفاعلات السريعة المبرّدة بالصوديوم مع فرنسا واليابان؛ مما يوفر إطاراً للتعاون بين الدول الثلاث في مجال الأبحاث والتطوير لصنع مفاعلات نووية متطورة.

وجاء في بيان صحفي أصدرته وزارة الطاقة الأميركية في 17 فبراير الماضي أن هذا الترتيب سيدعم تطوير التقنية ضمن شراكة الطاقة النووية العالمية التي تتزعمها الولايات المتحدة والتي كان قد أعلنها وزير الطاقة الأميركي ( سامويل بودمان) في وقت سابق من هذا الشهر. وشراكة الطاقة النووية العالمية هي استراتيجية شاملة تهدف إلى زيادة الأمن الأميركي والعالمي في مجال الطاقة، وتشجيع التنمية النظيفة حول العالم، وتقليص خطر انتشار الأسلحة النووية فضلاً عن تحسين البيئة.

ولكن: لماذا هذا التغير في السلوك الإستراتيجي الأمريكي النووي؟ يقول الدكتور عماد الشعيبي رئيس مركز المعطيات والدراسات الإستراتيجية بدمشق: إن مخاطر السياسة الجديدة التي تتبعها الولايات المتحدة تتجلى في اعتمادها سياسة لحظر نشر الأسلحة ليس عن طريق المعاهدات بل بالهجوم؛ فهي تتنكر جذرياً لفرضية الردع الكلاسيكية كي تنحو في اتجاه مخطط استخدام الأسلحة النووية وضرب النظام الذي ينتج أسلحة محظورة، وتعطي الأولوية لنشر الأسلحة النووية.

فخلال الحرب الباردة كان الخطر يتأتى من الأسلحة النووية السوفييتية، أما الآن فإن التحصينات تحت الأرض لدى من يسمونهم (الديكتاتوريين) هي التي على ما يبدو يرتعد لها مسؤولو الشؤون الدفاعية في الولايات المتحدة، وهذا هو سر العمل في الكونغرس لاستصدار قرار يسمح باستخدام أسلحة نووية تكتيكية وكأنها أسلحة تقليدية.

وفي هذا الصدد يقول الباحث الأمريكي المعروف (أنتوني كوردسمان) في كتاب (تهديدات إستراتيجية) إصدار مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية بواشنطن: منذ نهاية الحرب الباردة تغير التهديد للولايات المتحدة من تهديد استراتيجي إلى خليط من تهديدات جديدة؛ فأراضي الولايات المتحدة أصبحت الآن من المحتمل أن تُضرَب نتيجة صراعات من أجل القوة في مسارح بعيدة عن أراضي الولايات المتحدة وبسبب الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة بفتح قواتها على مسافات بعيدة في تلك المناطق.

ويعتقد بعضهم أن التغير في الموقف النووي قاصر على الولايات المتحدة، ولكن فرنسا (شيراك) دخلت أيضاً على هذا التغير الإستراتيجي النووي؛ فقد أفادت الأنباء يوم 20 يناير 2006 أن الرئيس الفرنسي ألقى كلمة في القاعدة البحرية بجزيرة (ليل لونج) قبالة سواحل مدينة برست الواقعة في مقاطعة بريتانيا الفرنسية وأعلن في هذه الكلمة بالنص ما يلي: « يجب على قادة الدول الذين قد يلجؤون إلى وسائل إرهابية ضدنا أو أولئك الذين قد يستخدمون أسلحة التدمير الشامل أن يدركوا أنهم يمكن أن يعرِّضوا أنفسهم لرد صارم وملائم قد يكون بوسائل تقليدية أو ذات طبيعة أخرى ». وأضاف شيراك: « إن الإمدادات الإستراتيجية والدفاع عن الحلفاء هي من المصالح التي نعتبرها حيوية وتبرر من ثَم اللجوء إلى قوة الردع النووي. ويذكر المحللون أن فرنسا كانت تعتبر حتى الآن أن المصالح الحيوية التي تبرر استخدام السلاح النووي » مقتصرة على صون وحدة وسلامة الإقليم الداخلي للدولة الفرنسية وحماية السكان وكفالة ممارسة الدولة لسيادتها.

كل ما سبق يعني أن الإستراتيجية الأمريكية الحالية هي عدم التوقف عن إنتاج الأسلحة النووية؛ ولكن ما يعرف بالنووية التكتيكية والتي تمكِّن الولايات المتحدة من الرد على المجموعات الإرهابية أو ما يسمونه (الدول المارقة) بالمنظور الأمريكي وليست هذه إستراتيجية أمريكية فقط، ولكنها إستراتيجية أوروبية قد تكون نتيجة تنسيق بين الأطراف المختلفة، أو تكون نوعاً من إثبات القوة أمام الهيمنة الأمريكية. وإذا كانت الولايات المتحدة نجحت في إسقاط الاتحاد السوفييتي بما يمثله من قوة نووية هائلة بدون إطلاق أي قوة نووية أو غير نووية فإن الولايات المتحدة واثقة من أنها قادرة على من هو أقل منه شأناً في ذلك المضمار.

* أهداف السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط:

يُجمِعُ المراقبون السياسيون على وجود هذه الثلاثية من الأهداف التي تبغي الإدارة الأمريكية تحقيقها في المنطقة وهي: الدولة الصيونية، والنفط، ومحاربة الإرهاب؛ ولكن خلافهم حول أولويات هذه الأهداف وترتيبها؛ والتي تصب في النهاية لتحقيق الهدف الرئيسي الذي عبر عنه بوش في خطابه في احتفال البحرية الأميركية في فلوريدا يوم 13/2/2003م بقوله: نرغب أن نكون بلداً فوق الجميع.

هذه الثلاثية في الأهداف نابعة من الشخصية الأمريكية التي جرى تشكلها عبر التاريخ الأمريكي منذ قدوم المهاجرين الإنجليز ونزول الرجل الأبيض على شواطئ العالم الجديد أو ما عرف فيما بعد باسم (أمريكا) حيث شكلت ثلاثية: (المال، والقوة، والدين) الشخصيةَ الأمريكيةَ على مدار التاريخ. وعند تطبيق معالم الشخصية الأمريكية تلك على أهداف الإدارة الأمريكية بالنسبة للشرق الأوسط تتجلى هذه الثلاثية بشكل قاطع. فالتراث الديني في أمريكا يستمد أصوله من المذهب البروتستانتي في إنجلترا وارتحل إلى أمريكا؛ والذي نشأ مع حركة الإصلاح الديني التي قادها (مارتن لوثر) في القرن السادس عشر، وأسهمت هذه الحركة في بعث اليهود من جديد؛ وبذلك نفهم الحرص الأمريكي على وجود الدولة الصهيونية.

أما القوة الأمريكية الغاشمة وحرب الإبادة التي شنها الكاوبوي الأمريكي على سكان أمريكا الأصليين من الهنود الحمر فتتجلى بشكل صريح في الحرب التي تشنها على ما تزعم أنه إرهاب. أما حب المال والسيطرة على مصادره فإن تجلياتها الحديثة تظهر في حب السيطرة على منابع النفط وطرق الوصول إليه.

* ولكن ما هو موقع إيران من تلك الأهداف الأمريكية؟

بالنسبة للنفط فإن إيران من كبار منتجيه في العالم، وفضلاً عن ذلك قربها من المنتجين الرئيسيين في الخليج العربي، كما تطل بشواطئ طويلة على ذلك الخليج الممتدة من عبدان وحتى المحيط الهندي؛ ومع وجود قوات بحرية قوية فإنها تستطيع تهديد مرور ناقلات النفط في الخليج، وسبق أن هددت بذلك؛ فبعض التقارير العسكرية التي أقرت بها إيران، تفيد بأنها تمتلك غواصة لا يستطيع الرادار كشفها، كما أنها دأبت على تصنيع توربيدات محلية الصنع قد تسبب أرقاً للبحرية الأمريكية في مياه الخليج الضحلة أساساً؛ هذا بالإضافة إلى ترسانة صواريخ أرض أرض التي تمتلكها والمتمثلة بمنظومة صاروخية ذات تقنية روسية صينية وكورية شمالية ومحلية الصنع يقف على رأسها الصاروخ شهاب.

والدولة الصهيونية حاضرة بالنسبة للمنظور الأمريكي لإيران؛ فالإستراتيجية الأمريكية من ضمن خطوطها العريضة الحفاظ على أمن دولة العدو؛ وإيران تمتلك كثيراً من المؤهلات العسكرية والبشرية والتقنية وهو ما يجعلها نِدّاً إقليمياً للعدو الصهيوني مكافئاً لها.

أما مكافحة الإرهاب؛ فوجود إيران كمعبر من أفغانستان إلى العراق يشكل هاجساً مهماً بالنسبة لأمريكا التي تخوض حرباً ضروساً مع الجماعات الجهادية التي تنشط بشكل مكثف في كل من البلدين، وتغرق الجيوش الأمريكية في تلك المناطق حتى أذنيها؛ فضلاً عن الحضور الشيعي في كل من هذين البلدين.

* السلاح النووي الإيراني في الإستراتيجية الأمريكية:

باستعراض ما سبق نجد أن الولايات المتحدة تنظر إلى إيران بحجمها الإستراتيجي في المنظور الأمريكي كدولة موجودة على الخارطة وقوة لا يمكن تجاهلها بحال من الأحوال؛ ولذلك فإن الولايات المتحدة يمكن أن تغض النظر عن مستوى معين في التسلح النووي الإيراني؛ وذلك من عدة منطلقات:

أولاً: أن القوة الإيرانية لم تكن في يوم من الأيام حسماً من الرصيد الإستراتيجي الأمريكي، بل كانت دائماً تعزيزاً له وتكريساً لوجوده.

ثانياً: أن المعلومات المتوفرة تدل على أن أمريكا نفسها ساهمت بشكلٍ ما في البرنامج النووي الإيراني؛ فقد أشار تقرير لعروض الصحف البريطانية أذاعته الـ ( بي بي سي) نقلاً عن صحيفة (الغارديان) تحت عنوان حماقة A. I. C التي ساعدت برنامج إيران النووي، والذي تحدث عن كتاب لمراسل صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية (جيمس رايسن) لشؤون المخابرات بعنوان: (الحرب على الإرهاب: التاريخ السري للسي آي إي وإدارة بوش).

ونقلت (الغارديان) عن ذلك الكتاب أن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية ربما ساعدت إيران في تصميم قنبلة نووية من خلال محاولة فاشلة لتسريب معلومات سرية مضللة تتعلق بتصميم قنبلة نووية إلى إيران.

ويورد الكتاب أن العملية السرية التي سميت (ميرلين) والتي وافقت عليها إدارة الرئيس السابق (بيل كلينتون) ارتدت على نحر المخابرات الأمريكية عندما قام عالم روسي منشق كان يعمل في برنامج نووي سوفييتي يتعاون مع A. I. C ومكلف بتسريب تلك المعلومات النووية السوفييتية التي تلاعبت فيها المخابرات الأمريكية إلى الإيرانيين بإعلام المسؤولين في طهران في فبراير عام 2000 بوجود معلومات غير صحيحة في البيانات التي حصلوا عليها. ويقول المؤلف نقلاً عن ( الـ بي بي سي): إن الهدف الأمريكي كان توجيه العلماء الإيرانيين الذين يعملون على تطوير سلاح نووي إيراني نحو طريق مسدود يصلون إليه بعد سنين من العمل الشاق غير المثمر. ويضيف (رايسن): إنه بدلاً من ذلك ربما ساهمت العملية الفاشلة في تسريع تطوير إيران لبرنامجها النووي. وتتحدث (الديلي تيليغراف) عن الموضوع نفسه في مقال بعنوان: (أيدي A. I. C الخرقاء تسلِّم الإيرانيين دليلاً لصنع قنبلة نووية). لكنها تورد فشلاً استخباراتياً أمريكياً آخر، على حد تعبير رايسن، وقع عام 2004؛ حيث يقول في كتابه: إن ضابطاً في A. I. C سلَّم عن غير قصد عبر رسالة مشفرة أحد العملاء الإيرانيين الذي تبين لاحقاً أنه عميل مزدوج يعمل أيضاً مع المخابرات الإيرانية معلومات أدت إلى إلقاء القبض على كافة العملاء المتعاونين مع A. I. C في إيران، ويرى ( رايسن) أن السي. آي. إي ارتكبت أكبر حماقة في تاريخها الحديث مع إيران.

ولكن من السذاجة بمكان تصور أن وكالة المخابرات الأمريكية بهذه الغفلة بحيث تمد إيران بمعلومات مغلوطة عن السلاح النووي، أو أنها تكشف عميلاً لها للمخابرات الإيرانية.

ثالثاً: تاريخ العلاقات الإيرانية الأمريكية لا يوحي بذلك التنافر الحقيقي. نعم!

إن تبادل الاتهامات والحملات الإعلامية كانت هي السمة البارزة في العلاقات بين الطرفين، ولكن متى كانت السياسة هي العلاقات الظاهرية، وخاصة في منطقتنا؟ فالبلدان يتمتعان بعلاقات تحالف وتوافق مصالح وتنسيق سري جرى منذ أيام سقوط الشاه مروراً بفضيحة (الكونترا) حتى الوصول إلى التحالف لإسقاط طالبان ومن بعده نظام صدام.

رابعاً: أمريكا خبرت جيداً القنبلة النووية الباكستانية، وبدلاً من أن تكون عاملاً للقوة الباكستانية تستطيع أن تلعب به في الساحة الدولية لتعزيز مكانتها أصبحت بعد 11 سبتمبر عبئاً ثقيلاً على باكستان نتيجة التهديد الأمريكي المبطن بتدميره أو المشاركة بقصفه إذا لم تتعاون باكستان ضد طالبان والقاعدة؛ وهكذا يمكن أن يكون السلاح النووي ورقة سياسية في يد الإدارة الأمريكية تبتز بها إيران، وتجبرها على ترك أوراقها في أماكن أخرى.

خامساً: الولايات المتحدة تعلم جيداً الأوراق التي تمتلكها حكومة الملالي في إيران؛ فهناك النفط وخطوط نقله كما سبق أن بينّا، وهناك ورقة الانتحاريين الذين يمكن إرسالهم إلى دول مختلفة وإحداث القلاقل في هذه الدول، وهناك أيضاً أفغانستان وطائفة الهزارة الشيعية، والصلة بين المخابرات الإيرانية وبعض زعماء الطاجيك، وهناك أيضاً شيعة الخليج والتأثير الإيراني عليهم، وهناك لبنان و حزب الله؛ بالإضافة إلى الورقة السورية؛ فضلاً عن الورقة الفلسطينية المتمثلة في دعم حماس بعد فوزها في الانتخابات. وأخطر هذه الورقات على الإطلاق هي الورقة العراقية وشيعة الجنوب.

وفي المعلومات الاستخباراتية أن إيران استأجرت واشترت 2700 وحدة سكنية من البيوت والشقق والغرف في مختلف أنحاء العراق، وخاصة في النجف و كربلاء ليسكن فيها رجال الاستخبارات الإيرانية ورجال فيلق القدس الاستخباراتي، ويشير حجم المساعدات النقدية الإيرانية المدفوعة إلى مقتدى الصدر وحده عدا التيارات الأخرى خلال الأشهر الأخيرة أنها تجاوزت سقف 80 مليون دولار، إلى جانب تدريب رجاله، وإرسال معونات إنسانية شملت الغذاء والأدوية والمعدات والأثاث. كل هذه الأوراق تدفع واشنطن باتجاه واحد وهو التفاوض مع إيران لتبادل الأوراق السياسية معها.

وإذا كانت أمريكا تعلم جيداً بالبرنامج النووي الإيراني، بل ساهمت في إنشائه؛ فما سر هذه المشاحنات الإعلامية والتهديدات العسكرية والملاسنات السياسية التي وصلت إلى مجلس الأمن؟ كما أعلن مؤخراً.

الإجابة هي أنه لا بد أن هناك خلافاً بين الطرفين على المساومة على الأوراق السياسية المطروحة بينهما؛ ففي مقابل الأوراق الإيرانية السابقة الذكر تملك أمريكا ورقة فعالة وهي ورقة البرنامج النووي الإيراني، ويشير أكثر المراقبين إلى أن صفقة يمكن أن تتم بين الطرفين، وأن الخلاف هو حول الأولويات؛ فحسب بعض التقارير الإخبارية أن الإيرانيين يريدون صفقة شاملة من النووي، وحتى التفاصيل الاقتصادية والسياسية في شرق إيران وغربها وجنوبها وشمالها. و الأميركيون يفضلون الاتفاق على المسائل واحدة بعد أخرى من العراق وحتى لبنان. ويرى الباحث د / رضوان السيد أن الولايات المتحدة الآن في مواقع الدفاع في الشرق الأوسط رغم جيوشها الضاربة في كل مكان... تحتاج أميركا إلى الاستقرار في العراق، وإلى الاستقرار في لبنان، وإلى الاستقرار في الخليج.

وهكذا تحول الاضطراب البنَّاء الذي تحدثت عنه (كونداليزا رايس) وزيرة الخارجية الأمريكية لغير صالح الولايات المتحدة، وصار الاضطراب البنَّاء ذاته عملة إيرانية صعبة تستطيع الكسب عن طريقه بتحريك أحجار الشطرنج دونما حاجة لإحراق أصابعها.

:: البيان تنشر - مـلـف خـاص- (الـخـطـر الإيـرانـي يـتـمـدد)

أعلى