• - الموافق2024/04/27م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
هنري كسينجر.. ثعلب السياسة الأمريكية وعرّاب جرائمها

وزير خارجية عتيق بلغ مائة عام، يهودي الجنسية، ألماني أصل، شارك في صنع القرار داخل الولايات المتحدة لفترة طويلة وعاصر حروبا وأحداثًا عالمية، لقب بثعلب السياسية الأمريكية إنه هنري كيسنجر، وإن كان هذا ليس اسمه الحقيقي


عندما سُئِلَ وزير الخارجية الأمريكية الأسبق هنري كيسنجر ذات يوم؛ كيف يمكن لك أن تصف حياتك، فأجاب بعبارة قصيرة: "إنها بمثابة عطلة طويلة"، هكذا وصف ثعلب الدبلوماسية الأمريكية حياته التي بلغت مائة عام وعدة أشهر قضاها بين دهاليز السياسة وفي أروقة الدبلوماسية، شارك في صناعة أحداثٍ تاريخية رغم محدودية الفترة التي خدم فيها بصفة رسمية، مُحدِثَا حالة من الجدل حول دوره ومواقفه وأفكاره، فهناك من يرى أنه السياسي الأهم والأكثر تأثيرًا في النصف الثاني من القرن العشرين، وهناك من يعتبره مجرم حرب كان من الواجب محاكمته والزج به خلف القضبان إبان حياته، فمن هو هنري كيسنجر..  ثعلب السياسة الأمريكية وعرّاب جرائمها؟

رحلته إلى البيت الأبيض

وُلِدَ هاينز ألفريد كيسنجر في أسرة يهودية كانت تقطن في مدينة فورث الألمانية في 27 مايو 1923م، كانت المدينة مكانًا مضيافًا لليهود آنذاك، لكنها لم تكن كذلك في ظل نظام أدولف هتلر في أواخر الثلاثينيات، غادرت الأسرة إلى الولايات المتحدة في عام 1938م، وهناك تلقى هاينز تعليمه في مدرسة جورج واشنطن الثانوية ثم انتقل إلى كلية مدينة نيويورك حيث كان يخطط لأن يصبح محاسبًا، ولكن تم تجنيده في الجيش الأمريكي في عام 1943م بعدما حصل على الجنسية الأمريكية، كان يعمل مترجمًا ألمانيًا في الجيش الأمريكي وفي نهاية الحرب العالمية الثانية كان مشاركًا في المهمات الخاصة بإعادة إعمار ألمانيا، وعندما عاد إلى هناك مرة أخرى وتم تعيينه مسؤولا في مدينة كريفيلد شمال الراين، بدأ في استعمال اسم هنري بدلًا من هاينز، مبررًا ذلك بأنه لا يريد أن يعتقد الألمان أن اليهود قد عادوا للانتقام، وعند عودته إلى الولايات المتحدة بعد الحرب قرر الالتحاق بجامعة هارفارد في عام 1947م لاستكمال تعليمه، وكانت أطروحته للدكتوراه في عام 1954 بعنوان "دراسة في الحنكة السياسية لكاستلريه ومترنيخ"، وهو أول مخطط لمسيرته المهنية اللاحقة وتألفت من 400 صفحة، حيث كانت أطول من أي أطروحة جامعية سابقة، ويُقال إنها أدت إلى "قاعدة كيسنجر" التي حدت من طول أطروحات الطلاب المستقبليين.

 

كانت المدرسة الواقعية التي جسدها كيسنجر تميل إلى اعتبار الأجزاء الأكثر فوضوية في العالم مجرد قطع على رقعة شطرنج، مؤمنًا بأن التعامل مع العالم يجب أن يكون على أساس أهداف عملية بدلاً من المُثُل الأخلاقية

انضم كيسنجر إلى هيئة التدريس بجامعة هارفارد في عام 1957م، وتم تعيينه مديرًا مشاركًا لقسم الشؤون الحكومية ومركز الشؤون الدولية بالجامعة، وهو ما جذب انتباه السياسيين إليه، فأصبح مستشارًا للعديد من الوكالات الحكومية، بما في ذلك وزارة الخارجية، وفي عام 1968م اختاره الرئيس ريتشارد نيكسون ليكون مستشارًا للأمن القومي، وعيّنه خلال فترة ولايته الثانية وزيرًا للخارجية، وكان كيسنجر أول من خدم في كلا المنصبين في نفس الوقت، واحتفظ بكلا اللقبين في إدارة الرئيس جيرالد فورد بعد استقالة نيكسون، وحتى بعدما ترك العمل الحكومي ظل كيسنجر شخصية معروفة إلى حد كبير في جميع أنحاء العالم، وخاصة بعد تأسيسه في عام 1982م شركة "كيسنجر أسوشيتس"، وهي شركة استشارية تقدم المشورة للدوائر والشركات الأمريكية وغيرها من الشركات المتعددة الجنسيات، وكان من اللافت أن أبواب الحكومة الأمريكية لم تُغلَق أمامه في أي وقت، لقد استشاره كل رئيس منذ نيكسون، بما في ذلك دونالد ترامب وجو بايدن.

دبلوماسية السياسة الواقعية

كان كيسنجر معجبًا بالسلطة، وقد استغل ذكائه في جعل نيكسون يُعجب بطريقة تفكيره ومن ثمَّ إعطائه الفرصة ليكون جزءًا من صناعة القرار الأمريكي، وفي عهد رئيسي الولايات المتحدة ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد من عام 1969م إلى عام 1977م، كان كيسنجر بلا شك رجل أمريكا الدولي المهيمن في عصره، تم تحليل كل جملة له في جميع أنحاء العالم وتتبع رحلاته باهتمام، وبدا كأنه يقدم خريطة طريق معقولة للسياسة الخارجية الأمريكية للجمهور المحلي وشبكة من حلفاء الولايات المتحدة، حيث كان كلاهما يتطلع إلى واشنطن للحصول على الضمانات والقيادة في ذروة الحرب الباردة بين قوتين نوويتين عظميين، كان كيسنجر قادرًا على تطبيق ما كان يدعو إليه في حياته الأكاديمية، وقال إن ما وصفها بـ "دبلوماسية السياسة الواقعية" كانت متجذرة في فهمه من أجل تحقيق توازن القوى.

كانت المدرسة الواقعية التي جسدها كيسنجر تميل إلى اعتبار الأجزاء الأكثر فوضوية في العالم مجرد قطع على رقعة شطرنج، مؤمنًا بأن التعامل مع العالم يجب أن يكون على أساس أهداف عملية بدلاً من المُثُل الأخلاقية، وبالتالي فإنه كان يستند دائما إلى تعظيم القوة الاقتصادية والعسكرية للولايات المتحدة من خلال الصفقات مع إعطاء أهمية أقل للاعتبارات الأخلاقية والمعنوية، وكان يرى أن السياسة الواقعية وحماية مصلحة الولايات المتحدة تنطوي على تنازلات وتسويات لا بد منها، وقد تنطوي أيضًا على عوامل جديدة أو دخيلة أو لا يمكن التنبؤ بها، كما اشتهر كيسنجر بحكمته الدبلوماسية في البحث عن أرضية مشتركة مع تنحية الخلافات، وهو ما عزز مساهماته الدائمة في الدبلوماسية العالمية وزاد من إرثه كواحد من أكثر الدبلوماسيين تأثيرًا في القرن العشرين.

سياسي مخضرم

إبان توليه منصبه؛ انتبه كيسنجر مبكرًا للانقسام الصيني السوفييتي قبل أن يدرك أغلب أعضاء وزارة الخارجية والأكاديميين الأمريكيين أهميته المحتملة، لقد أدرك كيسنجر أنه يمكن استغلال ذلك الانقسام لصالح الولايات المتحدة إذا كوّنت واشنطن أصدقاء لها في الصين، فنجح في توثيق تقاربه مع الصين وفتح محادثات عبر القنوات الخلفية مع الصين في أوائل السبعينيات، وكان التقارب بالأساس فكرة نيكسون لكن كيسنجر هو من نجح في تنفيذها حيث كانت بمثابة إنجاز مذهل بكل المقاييس، وقد نجح في نهاية المطاف في إقامة علاقات دبلوماسية رسمية بين البلدين وزيارة نيكسون التاريخية للصين في عام 1972م.

وكانت محادثاته للحد من الأسلحة الاستراتيجية ومعاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية مع الاتحاد السوفييتي في غاية الأهمية، حيث أسهمت مفاوضاته إلى خفض التوترات بين القوتين العظميين النوويتين، وكانت على قدم المساواة تقريبا مع الاختراق الذي حققه في التقارب الأمريكي مع بكين، لكن بعض السياسيين الأمريكيين من الديمقراطيين والجمهوريين، رأوا آنذاك أن الإدارة الأمريكية كانت متساهلة للغاية مع موسكو وانتقدوا كيسنجر لاستمراره في تضخيم إنجازه لأن القوة العسكرية السوفيتية كانت تتزايد باطراد، وكانت لدبلوماسيته المكوكية بعد حرب السادس من أكتوبر 1973م بين مصر وإسرائيل، دورًا بارزًا في استعادة العلاقات الدبلوماسية الأمريكية مع القاهرة، والتي كانت مقدمة لاتفاقيات كامب ديفيد مع إسرائيل والتي تفاوض عليها الرئيس الأمريكي آنذاك جيمي كارتر.

مجـرم حـرب

مع مرور الوقت والإدراك المتأخر لتفاصيل سياساته وخضوع أسلوب عمله لتدقيق متزايد؛ أصبح كيسنجر مذمومًا حيث اتضح تأثيره المثير للجدل على الصراعات الأخرى في جميع أنحاء العالم، فعلى مرّ السنوات الماضية تم تعزيز الحجج ضد كيسنجر من خلال الكشف عن وثائق رُفِعَت عنها السرية والتي أضافت وزنًا للاتهامات القائلة بأن كيسنجر كان في كثير من الأحيان متورطًا في القرارات العسكرية وكان يعلم بها، لكنه لم يهتم بالخسائر المدنية الناجمة عن تلك القرارات، يمكننا ملاحظة بعض هذه القرارات فيما يلي:

* لعب دورًا رئيسيًا في القصف الأمريكي الشامل لكمبوديا ولاوس خلال حرب فيتنام، والذي أسفر عن مقتل 350 ألف مدني من اللاوسيين و600 ألف مدني كمبودي، كما ساعد في تمكين صعود نظام الإبادة الجماعية "الخمير الحمر" في كمبوديا، بعض التقديرات تشير إلى أنه تم إسقاط حوالي 500 ألف طن من القنابل الأمريكية على كمبوديا خلال تلك الفترة، بعضها لا تزال غير منفجرة حتى الآن، مما يمثل عبئًا كبيرًا وخطرًا مستمرًا في تلك الدولة التي كانت محايدة بالأساس إبان حرب فيتنام.

* في عام 1968م ساعد في تخريب محادثات السلام التي أجراها الرئيس الأمريكي ليندون جونسون مع الفيتناميين الشماليين لإنهاء الحرب، وذلك عن طريق تمرير المعلومات إلى ريتشارد نيكسون، الذي نقلها بدوره إلى القوات الفيتنامية الجنوبية، مما ساعد في ضمان انتخاب نيكسون وتمديد أمد الحرب لمدة 5 سنوات أخرى، فقط لاعتقاده - الذي ثبت خطأه لاحقًا - أن الولايات المتحدة يمكنها انتزاع شروط أفضل من الفيتناميين الشماليين من خلال المزيد من العنف، ومع ذلك فقد حصل ـ بشكل مثير للجدل ـ على جائزة نوبل للسلام عام 1973م لمشاركته في المحادثات الرامية إلى إنهاء حرب فيتنام، وكانت الجائزة سابقة لأوانها لأن الحرب لم تنته إلا في عام 1975م بعد سقوط سايغون وبعد سنوات دامية طويلة، وقد أشار الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما في عام 2016م إلى أن إرث نيكسون وكيسنجر في جنوب شرق آسيا كان عبارة عن "فوضى ومجازر وحكومات استبدادية".

* كان لكيسنجر دورًا مؤثرًا في حدوث الانقلاب العسكري الوحشي في تشيلي عام 1973م، وذلك بسبب مخاوفه من تواطؤ حكومة سلفادور الليندي لإنشاء رأس جسر سوفيتي في أمريكا الجنوبية وبالتالي فقد ساعد على تقويض الحكومة المنتخبة ديمقراطيًا هناك، وعندما تمت الإطاحة بالليندي وحل محله الجنرال أوغستو بينوشيه، حثَّ كيسنجر على تقديم المزيد من الدعم لتشيلي على الرغم من تعطيل الأعراف الديمقراطية. وعندما وصلته تقارير عن انتهاكات حقوق الإنسان من قبل موظفيه، تجاهلها، وقال في تصريحات خاصة تم رفع السرية عنها لاحقا: "أعتقد أننا يجب أن نفهم سياستنا، وهي أنه مهما كان تصرفهم غير سار، فإن هذه الحكومة أفضل بالنسبة لنا مما كان عليه الليندي"، يُعتقد الآن أن حكومة بينوشيه قتلت وعذبت آلاف الأشخاص، وقد وقعت معظم عمليات القتل في اللحظة التي كان كيسنجر يدعم بينوشيه فيها أكثر من غيره.

 

 قال الصحفي الأمريكي الشهير سيمون هيرش في كتابه الأكثر مبيعًا "ثمن القوة.. كيسنجر في البيت الأبيض"، إن "كيسنجر استغل ضعف نيكسون وخوف فورد من بعده لتمرير سياسات وقرارات خطيرة ومثيرة للجدل"

* أعطى كيسنجر الضوء الأخضر للمجلس العسكري الأرجنتيني في عام 1974م لشنّ حملته القمعية القاسية ضد معارضيه، وذكرت تقارير أنه أبلغ القادة العسكريين اليمينيين الذين استولوا على السلطة حينها بأنه "إذا كانت هناك أشياء يتعين القيام بها، فيتعين عليكم أن تفعلوها بسرعة"، وكانت هذه الرسالة بمثابة تصريح لارتكاب الانتهاكات التي عرّضت عشرات الآلاف من الأشخاص للتعذيب والاغتيال والاختفاء القسري، وأظهرت الوثائق التي رفعت عنها السرية في وقت لاحق أن كيسنجر لم يكن على علم بعنف المجلس العسكري فحسب، بل شجعه بنشاط.

* دعم كيسنجر عمليات الإبادة التي ارتُكِبَت في بنجلاديش، وغض الطرف عن المؤامرات التي أدت إلى القتل الجماعي أو التهجير في تيمور الشرقية وقبرص، ورغم أنه كان يحث أوروبا من حين لآخر على إنهاء الاستعمار، لكنه كان يعتقد في ذات الوقت أن البرتغال سوف تتمسك بأنجولا وموزمبيق وهو ما أشعل حربًا هناك بالفعل (حصلت الدولتان على استقلالهما في منتصف السبعينيات)، كما أنه لم يبد اهتمامًا كبيرًا بالمشاعر المتنامية في الولايات المتحدة ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وهو ما أسهم في تأججه.

جرائم بلا اعتذار أو محاكمة

أشار الكاتب الأمريكي كريستوفر هيتشنز في كتابه "محاكمة هنري كيسنجر"، إلى أن حجم الجرائم التي نُفِذَت تحت وصاية كيسنجر لا تليق بأي ديمقراطية غربية، قائلًا إنه ينبغي محاكمته بتهم جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، وجرائم ضد القانون الدولي، بما في ذلك التآمر لارتكاب جرائم القتل والاختطاف والتعذيب، فيما قال الصحفي الأمريكي الشهير سيمون هيرش في كتابه الأكثر مبيعًا "ثمن القوة.. كيسنجر في البيت الأبيض"، إن "كيسنجر استغل ضعف نيكسون وخوف فورد من بعده لتمرير سياسات وقرارات خطيرة ومثيرة للجدل"، من جهته فقد قال كيسنجر ذات حوار ردًا على من اعتبروه مجرم حرب: "هذا انعكاس لجهلهم، لم يتم تصور أن تحدث الأمور بهذه الطريقة، ولم تتم إدارتها بهذه الطريقة".

ظهر تناقض متأصل في طريقة عمله؛ فبينما كان يتوق دائما إلى الدعاية والظهور تحت الأضواء، يُلاحظ أن معظم دبلوماسيته فضّل أن تتم سرًا، ليس فقط الدبلوماسية مع الدول الأخرى ولكن حتى صياغة السياسة داخل حكومة الولايات المتحدة، فقد أمر بالتنصت على الهواتف المنزلية لـ 17 شخصًا بشكل غير قانوني وبدون أمر قضائي، ولا يشمل هؤلاء الصحفيين فحسب، بل يشمل أيضًا أعضاء مجلس الأمن القومي الخاص به، وبعض التقارير أشارت إلى أن كيسنجر كان له دور في فضيحة "ووترغيت"، إلا أن الرئيس نيكسون التزم بتحمّل الذنب وحده، مما أدى إلى استقالته قبل عزله الذي لا مفر منه، فيما بقي كيسنجر وزيرًا للخارجية في عهد فورد الذي خلف نيكسون، ولكن عندما خسر فورد الانتخابات أمام جيمي كارتر في عام 1976م، تغيّر المزاج السياسي الأمريكي، حيث أراد كارتر سياسة خارجية مختلفة ومستشارين جدد.

لم يعتذر كيسنجر أبدًا عن أفعاله أو جرائمه، وعندما بررها قدّم حجة تقوم على مسألة المكاسب التي حققتها الولايات المتحدة من سياسته، فهو يبرهن أفعاله بأنها أدت إلى واشنطن كانت لها اليد العليا في الحرب في فيتنام، مع ضمان عدم انتشار الشيوعية في أمريكا اللاتينية، وفتح قناة دبلوماسية حيوية مع الصين، ورغم أن هذه المكاسب لم تدم دائما، إلا انه لم يعرب قط عن تعاطفه مع الأجانب الذين عانوا من سياساته، وسخر سرًا ممن عانوا منها، وكان له وجهة نظر ساخرة بشأن استخدام السلطة وإساءة استخدامها حيث قال ذات مرة مازحًا: "إن كل ما هو غير قانوني نقوم به على الفور، لأن الأمر الدستوري يستغرق وقتًا أطول قليلاً".

ومع ذلك، لم يتم استجواب كيسنجر ولو مرة واحدة من قبل أي محكمة في العالم حول أي من جرائمه، ففي عام 2001م اضطر إلى الفرار من باريس بعد أن استدعاه أحد القضاة، وفي عام 2002م عندما كان في زيارة إلى لندن حاول ناشط بريطاني رفع دعوى ضده بتهم تتعلق بحرب فيتنام، لكن فشلت المساعي لإلقاء القبض عليه، وفي عام 2004م رفضت محكمة فيدرالية أمريكية لأسباب سياسية قبول دعوى مدنية مرفوعة ضد كيسنجر من قبل عائلة القائد العام للجيش التشيلي الجنرال رينيه شنايدر، الذي قُتل في محاولة اختطاف فاشلة يُزعم أن كيسنجر هو من خطط لها، وفي أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، طلب قضاة من الأرجنتين وتشيلي وفرنسا وإسبانيا شهادة كيسنجر فيما يتعلق بالجرائم التي ارتكبتها حكومات الولايات المتحدة في أمريكا الجنوبية في السبعينيات، لكنه رفض المثول أمام هذه المحاكم، كما أن كمبوديا وبنغلاديش وتيمور الشرقية أنشأت محاكم جرائم حرب وكان من الممكن أن تشمل أفعال كيسنجر وجرائمه، ولكن واشنطن ضغطت كي تصبح هذه الدوائر القضائية مخصصة لما حدث في الشأن الداخلي بحيث لا تحاكم إلا الأشخاص الذين يعيشون على أراضي تلك الدول فقط.

ما بعد السلطة

بعد انتهاء فترة خدمته الرسمية، واصل كيسنجر ممارسة نفوذ كبير في العلاقات الدولية، حيث قام بتأليف 21 كتابًا، وألقى خطابات ومحاضرات مؤثرة وأصبح أحد أغلى المحاضرين في العالم، وقدم المشورة للإدارات الأمريكية اللاحقة، كما كتب مقالات رأي في كبريات الصحف والمجلات، واستمر في التعليق علنًا على الأحداث العالمية. وفي الآونة الأخيرة قبل وفاته، ركز كيسنجر اهتمامه على الآثار المترتبة على الذكاء الاصطناعي، وكان ضيفًا متكررًا مع وسائل الإعلام وفي حلقات النقاش والكتابة والسفر إلى الخارج، ويُقَال إن إدارة جو بايدن قد طلبت منه التحدث مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وسط الحرب في أوكرانيا، رغم أن كيسنجر كان على أعتاب الـ 100 عام من عمره.

 

أعلى