• - الموافق2024/04/20م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
المعذبون في ذات الله تعالى

المعذبون في ذات الله تعالى



الحمد لله العليم الحكيم؛ يبتلي عباده بالسراء والضراء، ويصيب المؤمنين بالمحن واللواء؛ ليستخرج منهم الضراعة والدعاء، نحمده حمدا كثيرا، ونشكره شكرا مزيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ يحب المؤمنين ويرحمهم، ويبتليهم ليرفع في الدنيا ذكرهم، ويعلي في الجنة منازلهم، وقد قال تعالى في الحديث القدسي «وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ» وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ إمام المرسلين، وقدوة الثابتين..آذاه المشركون في الله تعالى فصبر، وساوموه على دينه فثبت، ونال منهم وما نالوا شيئا منه، وذهب العذاب والأذى وبقي الأجر، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وخذوا بأسباب الثبات، وتعلقوا بحبال النجاة؛ «فإن من وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ، الصَّبْرُ فيها مِثْلُ قَبْضٍ على الْجَمْرِ لِلْعَامِلِ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ» {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].

أيها الناس: للطغاة وأعوانهم من المجرمين تاريخ حافل  بتعذيب المؤمنين؛ لردهم عن دينهم، واستعبادهم لأنفسهم، وتسخيرهم لذواتهم. والنفوس الكبيرة تهون عليها أجسادها في سبيل عقائدها وأفكارها، وتسترخص أرواحها لمبادئها وقيمها. فيمزق الجسد ويحرق ويشبح ويعلق ويسحل ويسلخ، وقلب صاحبه منعقد على ما اطمأن له، واقتنع به، لا يرده عنه شيء، ولا ينال منه معذبه ما أراد.

وفي سير المؤمنين وأخبارهم نماذج للثبات على الحق، واللهج بالذكر، وإعلان التوحيد، تحت سياط البلاء والتعذيب، حتى تفيض الروح الطاهرة إلى باريها، ولسان صاحبها ينطق بذكره سبحانه.

 نماذج للثبات واليقين، طاهرة وضيئة، من التاريخ القديم، ومن هذه الأمة المباركة، وفي عصرنا هذا.. فهنيئا للثابتين، وسحقا للمبدلين، وبعدا للقوم الظالمين.  

وفي أخبار من قبلنا قصة الغلام والراهب وجليس الملك لما آمنوا، وكفروا بالطاغوت:«فجِيءَ بِالرَّاهِبِ فَقِيلَ له: ارْجِعْ عن دِينِكَ فَأَبَى فَدَعَا بِالْمِئْشَارِ فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ في مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ حتى وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بِجَلِيسِ الْمَلِكِ فَقِيلَ له: ارْجِعْ عن دِينِكَ فَأَبَى فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ في مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ بِهِ حتى وَقَعَ شِقَّاهُ» وقتل الغلام وهو ثابت على دينه يأبى الرجوع إليه. ولما آمن الناس برب الغلام أمر الملك بالأخدود في أَفْوَاهِ السِّكَكِ فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ وقال من لم يَرْجِعْ عن دِينِهِ فَأَحْمُوهُ، وصاروا يقذفون الناس فيها وهم أحياء، والقصة في صحيح مسلم، ويا لها من قصة في الثبات عجيبة حين تحرق أمة كاملة ولا ترتد عن دينها، وحين يوقف الرجل فيشق نصفين من رأسه إلى قدميه وهو ثابت على دينه.

وفي صدر هذه الأمة رجال توقد الإيمان في قلوبهم، فهانت عليهم نفوسهم، وجعلوا من أجسادهم درعا لإيمانهم، فأوذوا أذى شديدا، وعذبوا عذابا أليما.. حملوا الإسلام حين لم يحمله أحد، ودانوا به حين نفر منه الأكابر، فكان الواحد منهم خامس خمسة في الإسلام، وسادس ستة في الإسلام، وسابع سبعة في الإسلام، ليس على وجه الأرض أحد يدين بالدين غيرهم.

 إمامهم وقدوتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ضُرب وجرح، ورجم بالحجارة حتى أُدمي، وخنق وهو يصلي حتى كاد أن يموت، ووضع الأذى على ظهره، وشج رأسه، وكسرت رباعيته، وتآمر المشركون على قتله، وناله أذى شديد، وعذاب أليم، في نفسه وأهله وقرابته وأصحابه، وقد لخص صلى الله عليه وسلم ما أصابه بقوله:«لقد أُخِفْتُ في الله وما يُخَافُ أَحَدٌ، وَلَقَدْ أُوذِيتُ في اللَّهِ وما يُؤْذَى أَحَدٌ».

وأما عذاب أصحابه رضي الله عنهم فقد عقد إمام السير محمد بن إسحاق رحمه الله تعالى فصلا، ذكر فيه شيئا من عذابهم، قال فيه:«فَوَثَبَتْ كُلُّ قَبِيلَةٍ عَلَى مَنْ فِيهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَجَعَلُوا يَحْبِسُونَهُمْ وَيُعَذِّبُونَهُمْ بِالضَّرْبِ وَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ، وَبِرَمْضَاءِ مَكَّةَ إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ؛ ...يَفْتِنُونَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ... فَكَانَ بِلَالُ بْنُ رَبَاحٍ صَادِقَ الْإِسْلَامِ، طَاهِرَ الْقَلْبِ، وَكَانَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ يُخْرِجُهُ إِذَا حَمِيَتِ الظَّهِيرَةُ، ثُمَّ يَأْمُرُ بِالصَّخْرَةِ الْعَظِيمَةِ فَتُوضَعُ عَلَى صَدْرِهِ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: لَا وَالله لَا تَزَالُ هَكَذَا حَتَّى تَمُوتَ، أَوْ تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ، وَتَعْبُدَ اللَّاتَ وَالْعُزَّى. فَيَقُولُ وَهُوَ فِي ذَلِكَ: أَحَدٌ أَحَدٌ».

وعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ:«أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ سَبْعَةٌ: رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ، وَخَبَّابٌ، وَصُهَيْبٌ، وَبِلَالٌ، وَعَمَّارٌ، وَسُمَيَّةُ أُمُّ عَمَّارٍ، فَأَمَّا رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنَعَهُ أَبُو طَالِبٍ، وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَمَنَعَهُ قَوْمُهُ، وَأَمَّا الْآخَرُونَ فَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرَاعَ الْحَدِيدِ، ثُمَّ صَهَرُوهُمْ فِي الشَّمْسِ، فَبَلَغَ مِنْهُمُ الْجَهْدُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَبْلُغَ مِنْ حَرِّ الْحَدِيدِ وَالشَّمْسِ».

وقَالَ ابن إسحاق:«وَكَانَتْ بَنُو مَخْزُومٍ يَخْرُجُونَ بِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَبِأَبِيهِ وَأُمِّهِ... إِذَا حَمِيَتِ الظَّهِيرَةُ يُعَذِّبُونَهُمْ بِرَمْضَاءِ مَكَّةَ، فَيَمُرُّ بِهِمْ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ فِيمَا بَلَغَنِي: صَبْرًا آلَ يَاسِرٍ مَوْعِدُكُمُ الْجَنَّةُ» فَأَمَّا أُمُّهُ فَقَتَلُوهَا; تَأْبَى إِلَّا الْإِسْلَامَ».

قال ابن سعد:«وَكَانَتْ مِمَّنْ يُعَذَّبُ فِي الله لِتَرْجِعَ عَنْ دِينِهَا فَلَمْ تَفْعَلْ وَصَبَرَتْ حَتَّى مَرَّ بِهَا أَبُو جَهْلٍ يَوْمًا فَطَعَنَهَا بِحَرْبَةٍ فِي قُبُلِهَا فَمَاتَتْ رَحِمَهَا الله, وَهِيَ أَوَّلُ شَهِيدٍ فِي الْإِسْلَامِ، وَكَانَتْ عَجُوزًا كَبِيرَةً ضَعِيفَةً». «ومات ياسر والد عمار في العذاب».

يا لها من أجساد نحيلة ضعيفة، محتقرة في قومها، ولكنها تحمل قلوبا موقنة أبية، مرضية عند ربها سبحانه وتعالى.

 قَالَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ رحمه الله تعالى:«قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَبْلُغُونَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْعَذَابِ مَا يُعْذَرُونَ بِهِ فِي تَرْكِ دِينِهِمْ؟ قَالَ: نَعَمْ وَالله، إِنْ كَانُوا لَيَضْرِبُون أَحَدَهُمْ وَيُجِيعُونَهُ وَيُعَطِّشُونَهُ، حَتَّى مَا يَقْدِرُ أَنْ يَسْتَوِيَ جَالِسًا مِنْ شِدَّةِ الضُّرِّ الَّذِي بِهِ».

ومن المعذبين في ذات الله تعالى خباب بن الأرت رضي الله عنه، قال الشعبي:«سأل عمر بْن الخطاب خبابًا رضي الله عنهما عما لقي من المشركين، فقال: يا أمير المؤمنين، انظر إِلَى ظهري. فنظر، فقال: ما رأيت كاليوم ظهر رجل، قال خباب: لقد أوقدت نار وسُحبت عليها فما أطفأها إلا ودك ظهري».

ويقول:«لَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمًا أَخَذُونِي وَأَوْقَدُوا لِي نَارًا، ثُمَّ سَلَقُونِي فِيهَا، ثُمَّ وَضَعَ رَجُلٌ رِجْلَهُ عَلَى صَدْرِي، فَمَا اتَّقَيْتُ الْأَرْضَ إِلَّا بِظَهْرِي، ثُمَّ كَشَفَ عَنْ ظَهْرِهِ فَإِذَا هُوَ قَدْ بَرِصَ».

قال الشَّعْبِيِّ عن خباب «جَعَلُوا يَلْزَقُونَ ظَهْرَهُ بِالرَّضْفِ حَتَّى ذَهَبَ مَاءُ مَتْنِهِ» أي: ظهره.

وكان رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أول الإسلامأول يألف خبابًا ويأتيه، فأُخبرت مولاته بذلك، فكانت تأخذ الحديدة المحماة فتضعها عَلَى رأسه.

ومن المعذبين في ذات الله تعالى ثلاثة مذكورون في حديث قنوت النوازل، حين كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لهم فيقول:«اللَّهُمَّ أَنْجِ الوَلِيدَ بْنَ الوَلِيدِ، وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ» متفق عليه.

قال العيني رحمه الله تعالى:«وليد بن الوليد هو أخو خالد بن الوليد وحبس بمكة ثم أفلت ببركة دعائه صلى الله عليه وسلم، وسلمة بن هشام هو أخو أبي جهل قديم الإسلام عذب في الله ومنعوه أن يهاجر، وعياش بن أبي ربيعة هو أخو أبي جهل لأمة أوثقه أبو جهل بمكة».

وقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ:«رَجَعَ سَلَمَةُ بْنُ هِشَامٍ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ إِلَى مَكَّةَ، فَحَبَسَهُ أَبُو جَهْلٍ، وَضَرَبَهُ، وَأَجَاعَهُ، وَأَعْطَشَهُ, فَدَعَا لَهُ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلم».

 «ولما أَفْلَتَ الْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ مِنَ الْوَثَاقِ، قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَسَأَلَهُ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلم عَنْ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، وَسَلَمَةَ بْنِ هِشَامٍ، فَقَالَ: تَرَكْتُهُمَا فِي ضِيقٍ وَشِدَّةٍ وَهُمَا فِي وَثَاقِ رَجُلٍ أَحَدُهُمَا مَعَ رِجْلِ صَاحِبِهِ».

ومن المعذبين في الله تعالى مصعب بن عمير رضي الله عنه، كان الصحابة يتذكرون ما أصابه من شدة وهو المنعم قبل إسلامه، وقُدم الطعام يومًا لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فتذكر مصعبا وما أصابه من العذاب والشدة فجعل يبكي. 

 قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه:«كنا قبل الهجرة يصيبنا ظَلَف العيش وشدته، فلا نصبر عليه، فما هو إلا أن هاجرنا، فأصابنا الجوع والشدة، فاستضلعنا بهما، وقوينا عليهما. فأما مصعب بن عمير فإنه كان أترف غلام بمكة بين أبويه فيما بيننا، فلما أصابه ما أصابنا لم يقو على ذلك، فلقد رأيته وإن جلده ليتطاير عنه تطاير جلد الحية، ولقد رأيته ينقطع به، فما يستطيع أن يمشي، فنعرض له القسي ثم نحمله على عواتقنا».

 لله درهم من أقوام آمنوا بالله تعالى وصدقوا المرسلين، فصبروا على تعذيب الكافرين.

 أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ} [التوبة:100].

 بارك الله لي ولكم...

 

الخطبة الثانية

الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

 أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران:132].

أيها المسلمون: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه الصبر، ويحثهم على الثبات، ويغرس في قلوبهم اليقين بالله تعالى، ويضرب لهم الأمثال بالمعذبين السابقين؛ ليقارنوا ما يصيبهم بما أصاب من كانوا قبلهم، فلا يستبطئون النصر، ولا يستثقلون العذاب، ولا يخلدون لليأس والقنوط، ويحسنون الظن بالله تعالى..

قال خَبَّابُ بْنُ الأَرَتِّ رضي الله عنه:«شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الكَعْبَةِ، قُلْنَا لَهُ: أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلاَ تَدْعُو الله لَنَا؟ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَالله لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلَّا الله، أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ»رواه البخاري.

وهذه الأمة أمة مباركة كانت ولا زالت تنتج رجالا صُبُرا في اللقاء، جبالا في الثبات، يضربون لأهل زمانهم أروع الأمثلة في تحمل العذاب على الدين، ومواجهة البلاء بيقين، ومصداق ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:«لاَ يَزَالُ الله عز وجل يَغْرِسُ في هذا الدِّينِ بغرس يَسْتَعْمِلُهُمْ في طَاعَتِهِ» رواه أحمد.

 وإننا لنرى أمثلة ذلك في أرض الشام المباركة، نرى رجالا ونساء وأطفالا، يهتفون بالله تعالى ويوحدونه، ويذكرون اسمه ويمجدونه ويعظمونه، قد لجئوا إليه سبحانه في ضرائهم، وركنوا إليه في بلائهم.. تحملوا في ذاته سبحانه من العذاب ما لو أنزل بالجبال لهدها. أراد الطاغوت أن يعبدهم لغير الله سبحانه، وأن يظفر منهم بكلمة الكفر، ولهم رخصة في ذلك، لكنهم أبوا إلا العزيمة، وتحملوا أشد العذاب، فمنهم من أحرق وهو يذكر الله تعالى، ومنهم من دفن حيا وهو يذكر الله تعالى، ومنهم مات دعسا بالأقدام وهو يذكر الله تعالى، ومنهم من قطع جسده حتى فاضت روحه وهو يذكر الله تعالى..

 نماذج كثيرة في أرض الشام من الثبات واليقين، تنقل إلينا صورها وأفلامها، وتروى لنا قصصها وأخبارها.. نماذج حولت ما قرأناه عن السابقين من المعذبين إلى واقع عملي نبصره ونسمعه، فلله درهم، ولا يعزى أهل الإيمان فيمن لقي الله تعالى وهو ثابت على إيمانه، مهما كان جسده ممزقا؛ فإن الله تعالى يحيي به أمة من الناس، ويجعله قدوة في الثبات.

 وتالله لن يضيع ثبات هؤلاء المستضعفين هدرا لا في الدنيا ولا في الآخرة. أما في الآخرة فأجرهم على الله تعالى وقد عذبوا لأجله سبحانه، وفاضت أرواحهم في سبيله عز وجل.

 وأما في الدنيا فإنهم شعلة توقد الإيمان واليقين والثبات في القلوب، وما يجري عليهم من العذاب مع ثباتهم مبشر بنصر وعز للأمة قريب، كما كان ثبات بلال وياسر وسمية وخباب ومصعب في أول الإسلام سببًا من أسباب النصر المبين في بدر وما بعدها، حتى عز الإسلام، وانتشر في بقاع الأرض.

 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:8].

 وصلوا وسلموا على نبيكم...   

  

أعلى