• - الموافق2024/04/28م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
التعليم في خدمة الإمبريالية  التجربة التعليمية في عصر محمد علي (1-2)

كيف أسس محمد علي دولته، وما الأسس الذي بنى عليه نموذجه النهضوي، لماذا أنشأ محمد علي المدارس والمعاهد العلمية في مصر؟ هل كان الهدف رفع الجهل عن الشعب المصري؟ أم كانت لدى محمد علي أهداف أخرى؟


من المعلوم أن الأمم الراشدة هي التي تعيد قراءة تاريخها من فترة لأخرى حسب احتياجات العصر، تنظر فيه وتفحص تجاربها التاريخية ودروسها المستفادة، وتتحسس مواطن القوة والضعف في تفاعلاتها مع أحداثها الجوهرية ومواقفها المفصلية، لأن أمثال تلك المراجعات تعتبر من أهم دلائل حيوية الأمم وقابليتها للتقويم والترشيد وتؤكد على رغبتها في الاستفادة والتصحيح، أما الأمة التي تثبت عند قراءة وحيدة أحادية لتاريخها وتقف عند راوية واحدة ونظرة جامدة لن تعرف التجديد والنهوض.

ولعل تاريخ محمد علي وقصته مع مصر الحديثة والنقلة الكبيرة التي حدثت في عصره من أهم الأمثلة على أهمية إعادة قراءة التاريخ، وخاصة أن عصر هذا الرجل لا يمكن وصفه بالانتهاء بوفاته سنة ١٨٤٨، إذ إن إصلاحاته المجتمعية ومشروعاته النهضوية وتجربته الثرية في ميادين كثيرة قد امتد تأثيرها لعقود عديدة في تاريخ مصر الحديثة.

 

كل تلك الخصال جعلت من محمد علي مشروع إمبراطور جديد أو ديكتاتور كلاسيكي على غرار تيمور لنك أو سليم الأول، ساعدته الأقدار على الصعود على ولاية مصر ذات الموقع الإستراتيجي الخطير والثروات الطبيعية والبشرية الكبيرة

ونحن في هذا المقال سنعرض للحديث عن النهضة العلمية والثقافية لمحمد علي وتقييمها من كل جوانبها، محاولين سبر أغوار التجربة وإعطائها قدرها في سياقها التاريخي، وبيان ما لها وما عليها بكل تجرد وحيادية.

محمد علي والصعود إلى القمة

محمد علي قائد الفرقة الألبانية التي جاءت إلى مصر بأمر من الدولة العثمانية لمساعدة الانجليز في طرد الحملة الفرنسي دفعت به الأقدار لئن والياً - بكثير من الدهاء وحسن السياسة والبرجماتية والقسوة والمخاتلة - على أهم وأغنى ولاية عثمانية؛ مصر، مستغلاً حالة الفراغ السياسي والفوضى الداخلية التي أعقبت خروج الفرنسيين مدحورين من البلاد، بعد أن أجاد اللعب على وتر الولاء للدولة العثمانية ورغبة المصريين في عدم الخروج عن طاعة السلطان العثماني، فمالوا لاختيار أحد رجاله في حين لم يفكروا في أحد الزعماء الشعبيين أمثال عمر مكرم أو الشيخ الشرقاوي الذين كانوا القادة الميدانيين الفعليين ضد الاحتلال ثم الفساد!!

محمد علي كان جندياً طموحاً، شديد العزم وافر الهمة، واسع الدهاء والمكر، لا يبالي كثيراً بميزان الحلال والحرام والخطوط الحمراء التي فرضتها الشريعة تجاه سياسات الحاكم وخطته في إدارة شئون البلاد أو بالأحرى كان برجماتياً لأقصى درجة، مسكوناً بأفكار وطموحات توسعية إمبريالية، متعاظماً في نفسه أقرب للطغيان والاستبداد منه إلى العدل وحسن السياسة.

 كل تلك الخصال جعلت من محمد علي مشروع إمبراطور جديد أو ديكتاتور كلاسيكي على غرار تيمور لنك أو سليم الأول، ساعدته الأقدار على الصعود على ولاية مصر ذات الموقع الإستراتيجي الخطير والثروات الطبيعية والبشرية الكبيرة وفي عصر تعاني فيه الدولة العثمانية من التراجع السريع والمتلاحق أمام خصومها التاريخيين؛ غرب أوروبا وروسيا، ليبدأ محمد على في رسم ملامح مشروعه التوسعي الكبير، فلم يكن حلم محمد على عند ولايته لمصر أن يكون واليا عاديا، يقضى سنة أو عدة سنوات ثم يترك مصر لينتقل إلى ولاية جديدة ولكن محمد علي أدرك مبكرًا أن مصر مؤهلة لتصبح قاعدة لإمبراطورية له ولأولاده، وربما ينجح في مصر في ما لم ينجح فيه السلطان العثماني في إستانبول في تحديث الدولة وإنقاذها من السقوط.

 

لكن مع دخول مصر تحت حكم العثمانيين بدأت جذوة العلم في الانحصار والانطفاء، بعد أن تحولت الأنظار من مصر عاصمة الدولة المملوكية إلى الأستانة عاصمة الدولة العثمانية

ومن ثم بدأ محمد على في خطة طموحة لتحديث مصر ونهضتها من منطلق واحد ولخدمة غاية واحدة وهي تأسيس إمبراطوريته الخاصة وتحقيق أغراضه التوسعية في بناء دولة خاصة به وفق رؤيته وأفكاره ونظرته لشكل الدولة وبنياتها الاجتماعية والسياسية.

الدولة في خدمة القوة العسكرية

هذا هو شعار مشروع محمد علي النهضوي وعنوانه الوحيد الذي لا يستطيع أشد الناس إعجاباً بتجربة محمد علي ودفاعاً عنها أن ينكرها. فمحمد علي كان له مشاريع خاصة في نهضة التعليم والصناعة والتجارة والزراعة والسياسة الداخلية والخارجية والتراتيب الإدارية ولكن كلها لغاية واحدة ولخدمة هدف واحد؛ تكوين الجيش القوي القادر على تنفيذ خطط الباشا التوسعية والتحرك في كل الاتجاهات، براً وبحراً، وردع كل الخصوم التي تقف حجر عثرة نحو تنفيذ هذه الأفكار الإمبريالية الطموحة للباشا.

التجربة التعليمية والنهوض المشروط

التعليم قبل محمد علي كان قاصراً على التعليم الديني وعبر مؤسسة وحيدة هي الأزهر، والتعليم خلال عهد المماليك كان مزدهراً ونشطاً في مجالات كثيرة تشهد عليها الوفرة الكبيرة للعلماء والمتخصصين في مجالات المعرفة والنشاطات العمرانية المتنوعة، ولكن مع دخول مصر تحت حكم العثمانيين بدأت جذوة العلم في الانحصار والانطفاء، بعد أن تحولت الأنظار من مصر عاصمة الدولة المملوكية إلى الأستانة عاصمة الدولة العثمانية، وفقدت مصر مكانتها وريادتها بعد أن أصبحت مجرد ولاية يُنظر إليها على نطاق واسع أنها سلة غلال للدولة بأراضيها الزراعية الوفيرة وماء نيلها الشهير، وبالتالي تراجع التعليم وانتشر التخلف والجهل وجفت مراكز الإبداع والإشعاع الحضاري في مصر.

وكانت العلوم التي تدرس في الأزهر أو المساجد الكبرى منقسمة إلى ثلاثة أقسام هي العلوم العقلية والدينية واللغوية، وقد استأثرت دراسات اللغة والدين بمعظم الوقت المخصص للدراسة، لدرجة أنه من النادر أن تجد بين علماء ذلك العصر شخصا له إلمام بالرياضيات، أو الفلسفة أو الجغرافيا أو علوم الكمياء أو الطب وغيرها من العلوم العقلية.

ففي معرض تناول المؤرخ الجبرتي للحياة الفكرية والدينية في مصر، تجده يتعرض لظاهرتين رئيسيتين: أولهما تدهور الحياة الفكرية بشقيها من العلوم الدينية والعلوم العقلية بسبب الجمود المذهبي.

أما الظاهرة الثانية فهي الانحرافات التي ظهرت في الحياة الدينية، وممارسة العقيدة، وانتشار الخرافات والبدع.

ونظراً لطبيعة الأهداف التي يسعى محمد علي لتحقيقها ومن أجلها شرع في تحديث وتطوير التعليم في مصر ونظراً لاستعجاله في قطف ثمار هذا التحديث فقد جاءت تجربته في النهوض بالتعليم مثيرة وغير مسبوقة، حيث جاءت مقلوبة وعكس السنن الطبيعية في البناء والتكوين والتدرج!! فقد اتبع نظرية الهرم المقلوب!! حيث بدأ اهتمامه بالقمة ومع مرور الوقت اتجه نحو القاعدة، مخالفاً بذلك كل النظم والطرائق المعروفة شرقاً وغرباً في التعليم والتأسيس المدرسي والثقافي، وهو ما ستظهر آثاره مع مرور الوقت ودخول الفكرة حيز التنفيذ.

فلم يكن التعليم في عصر محمد علي يهدف إلى تنوير الشعب أو إنشاء جيل واعٍ من الناس وإنما كان يهدف إلى الاستجابة العاجلة لمطالب الجيش. فقد استلزم تكوين الجيش القوي الكبير أشياء عديدة مثل وجود الرجال العسكريين المدربين على النظم الحديثة ووجود الأطباء البشريين والبيطريين والمهندسين الذين يقومون على رعاية الجيش ومده بالأسلحة الحديثة، وهكذا نجد أن محمد على ربط سياسة التعليم بنظامه العسكري وخطته الكبرى لبناء دولة حديثة.

وانطلاقاً من تلك الغاية العسكرية المحضة اعتمد محمد علي عدة ركائز للنهوض بالتعليم في البلاد، من أهمها:

1- الاستعانة بالأجانب واستقدام أعداد كبيرة منهم للقيام بوظيفة مزدوجة: العمل في مواقع الإنتاج التي أحضروا من أجلها وفى نفس الوقت نقل معارفهم وعلومهم للمصريين الذين يعملون معهم وقد عرفت هذه الوسيلة بالتعليم عن طريق المقاولة.

2- إرسال البعثات إلى الخارج لتعلم علوم الغرب وفنونه وإتقان اللغات الأجنبية حتى يمكن الاعتماد على أعضاء البعثات العائدين في تولى المهام التي يقوم بها الأجانب وفى ترجمة الكتب الأجنبية للاستفادة منها في إنشاء دعم النظام الجديد. فكانت أول بعثة في عام ١٨٠٩م موجهة إلى إيطاليا ثم سافرت البعثة الثانية عام ١٨١٨م إلى فرنسا، كما سافرت بعثات إلى النمسا وإنجلترا. واستمرت حركة الابتعاث حتى أواخر عهد محمد علي لأنه كان يري ضرورة الاعتماد على العنصر المصري والتركي في مشروعه النهضوي على المدى الطويل وتقليل عدد الخبراء الأجانب، فشخصية محمد علي الطموحة والتوسعية لم تكن تقبل أن يبقى معتمداً طوال الوقت على الأجانب المشهورين بالتكبر والاستعلاء على العرب والترك.

3- بناء المدارس بمراحلها المختلفة ووفق نظرية الهرم المقلوب. فقد اهتم أولاً ببناء المدراس العليا أو الكليات الفنية التخصصية. فأنشأ أول مدرسة للهندسة سنة ١٨١٩م بالقلعة، وهي بذلك أول مدرسة عالية أنشئت في عصر محمد علي. وكان التعليم فيها بالمجان، كما كانت الحكومة تؤدى رواتب شهرية لتلاميذها. ثم أنشأ مدرسة للطب سنة ١٨٢٧م في أبى زعبل-بالقرب من القاهرة- على مقربة من المستشفى العسكري هناك، حتى يمكن تدريب الطلاب بهذا المستشفى. واختارت الدولة في بادئ الأمر مائة من طلاب الأزهر للتعليم بهذه المدرسة، وتولى إدارة المدرسة والمستشفى الدكتور كلوت بك، فاختار لها نخبة من الأطباء الأوروبيين ومعظمهم من الفرنسيين. فقد عين مترجمين لترجمة المحاضرات من الفرنسية إلى العربية ثم ألحق بالمدرسة قسم لتعليم اللغة الفرنسية للطلاب. وتخرجت (الدفعة) الأولى منها. وبعد خمس سنوات تم توزيع الخريجين على المستشفيات وكتائب الجيش. كما أرسل إثني عشر خريجا إلى الخارج لإكمال دراستهم العليا وعين أيضا ثمانية معيدين بهذه المدرسة العليا.

كما أنشأ مدرسة الطب البيطري في رشيد عام 1828م، ثم الحقت بعد سنتين بمدرسة الطب البشري في أبي زعبل، وكان مديرها فرنسيًا، ولما نقلت مدرسة الطب البشري إلى قصر العيني في عام 1837م انتقلت مدرسة الطب البيطري إلى شبرا. كما توسع محمد علي في بناء المدارس الفنية مثل المدارس الزراعية والهندسية الفنية مثل مدرسة الزراعة بشبرا الخيمة، التي بدأت الدراسة بها عام 1833م، والمدرسة الزراعية بنبروه التي انشئت عام 1836م.

ثم أنشئت الدرسخانة الملكية لإعداد موظفي دواوين الحكومة. ثم أنشئت مدرسة الإدارة الملكية لتخريج الموظفين والمترجمين ليقوموا بترجمة الكتب التي تحتاج إليها الحكومة إلى اللغة التركية والعربية.. ثم توالى إنشاء مدارس الطب البشري والبيطري والزراعة والهندسخانة والألسن والبحرية.  

ولكن الخطوة الحقيقية في النهوض بالتعليم في مصر بدأت متأخرة مع إنشاء ديوان المدراس سنة 1837 م ليكون مسئولاً عن تنظيم التعليم في المرحلة الابتدائية، فجري فصل هذا الديوان عن نظارة الجهادية فكان أول فصل بين التعليم وخدمة الجيش، وجرى بناء 66 مدرسة ابتدائية بعموم القطر المصري، فبلغ عدد التلاميذ عشرة آلاف تلميذ، كما كانت الدراسة فيها إجبارية وبحوافز مادية لدفع الأهالي المتخوفين من إلحاق أبنائهم بتلك المدراس حتى لا يجدوا أنفسهم غداً في ساحات المعارك وقوداً لطموحات محمد علي الامبريالية.

4- التوسع في حركة الترجمة ونقل المعارف والعلوم الغربية مع حركة الطباعة والصحافة، فكانت المطبعة الأميرية في بولاق أول مطبعة أنشأت في عهد محمد علي سنة ١٨٢٠ م ولكنها بدأت عملها سنة ١٨٢٢ م وكان الغرض من إنشائها هو طبع الكتب المدرسية والعسكرية، ومع مضى الوقت ازداد عدد المطابع في مصر، وصارت تنشر بالإضافة إلى الكتب المدرسية كتبًا في الآداب والفنون. وبالنسبة للصحافة فقد أصدر الباشا أمره بإنشاء الصحيفة الرسمية (الوقائع المصرية) باللغتين العربية والتركية في ٣ ديسمبر سنة ١٨٢٨ وكان الغرض من إنشائها كما جاء في العدد الأول هو، نشر أوامر وتعليمات ديوان الخديوي وكذلك أخبار الإمبراطورية المصرية وحملاتها العسكرية في البر والبحر.


 

التعليم في خدمة الإمبريالية التجربة التعليمية في عصر محمد علي (1-2)

التعليم في خدمة الإمبريالية التجربة التعليمية في عصر محمد علي (2-2)

 

 

 

أعلى